الواقع التاريخي
لحركة النبي(ص)
وعلي (ع) والحسن(ع)
في أداء وظيفتهم الإلهية
قبل حركة الحسين(ع)
قال الله سبحانه وتعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
﴾ الجمعة/2-5 .
الأميون هم (قريش) ساكنو مكة ومن دانَ بدينهم من القبائل العربية في الحجاز ، ودينهم هو دين إبراهيم عليه السلام ، وقد حُرِّف على مراحل ، كان أخطرها نصب الأصنام على الكعبة ، وتحويل بيت إبراهيم عليه السلام الذي شُيِّد على التوحيد الى بيت عبادة للأصنام ، وكان آخر مراحل تحريف دين إبراهيم هو ما قامت به قريش بعد حادثة الفيل ، حين ابتدعت بدعة الحُمْس(1) ، وفصلت بين العمرة والحج ، وفرضت على الناس أن يحجّوا بثياب قريش ليُقبَل حجُّهم ، وتسمت بـ (آل الله) ، بدلاً من حصر تلك التسمية في بيت عبد المطلب ، الذي أجرى الله تعالى على يده آياته ليميِّزه بها عن بقية قريش .
وإلى جانب الأمِّيين القرشيين هؤلاء ، حرَّف اليهود من أهل الكتاب ، كتاب الله (التوراة) وأدخلوا فيه الأساطير ، وكذلك حرَّف المسيحيون (الانجيل) ، واتخذ أهل الكتاب (أحبارهم ورهبانهم) أرباباً من دون الله .
وكذلك القبائل العربية في الحجاز ، اتخذت (قريشاً) ارباباً من دون الله ، حين كانوا يشرِّعون لهم من الدين ما فيه تحريف لشريعة إبراهيم ويقبلون ذلك منهم .
ثم بعث الله تعالى محمد صلى الله عليه وآله ، وأنزل عليه القرآن كتاب هدى ، ونسخ به كتب أهل الكتاب ، كما هدم به الإمامة الدينية لهم ولقريش .
وشاءت حكمة الله أن يجعل القرآن بحاجة إلى شرح وتفصيل ، قال الله تعالى :
﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)﴾ القيامة/18-19
.
وشاءت حكمته تعالى أن يكون النبي صلى الله عليه وآله مصدر البيان ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ النحل/44 ، وبعبارة أخرى شاءت حكمته أن يؤخذ تفصيل القرآن وبيانه من سنة النبي صلى الله عليه وآله وهي قوله وفعله وتقريره ، وبذلك صار الإسلام عبارة عن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله .
بلَّغ النبي صلى الله عليه وآله القرآن وبيانه ، وقام المجتمع الإسلامي على إتباع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله .
وكَتَبَ علي عليه السلام بأمر النبي صلى الله عليه وآله كلَّ السنة النبوية المطهرة من خلال لقاءات خاصة بينهما (2) ، وجعلها في صُحُف ، لتكون تراثاً إلهيا للأئمة الاثني عشر عليهم السلام ، نظير تراث آل هارون المذكور في القرآن(3) ، وبذلك صار علي عليه السلام والطاهرون من ذريته عليهم السلام الراوي الأمين والوحيد إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله الكاملة ، والعِدْلَ الوحيد للقرآن لتحقيق الهداية التفصيلية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله إلى ذلك بقوله : (ثم إني أوشك أن أدعي فأجيب وأني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وان اللطيف الخبير أخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروني بم تخلفوني فيهما) (4) ، وقوله (أنا مدينة العلم وعلي بابها) ، وقوله : (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي) ، وقوله : (يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) ، وجعل النبي صلى الله عليه وآله ولاية أول أهل بيته علي عليه السلام هي ولايته إلى آخر الدنيا حين قال : (من كنت مولاه فعلي مولاه) .
وهكذا صار الإسلام عبارة عن الولاية لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وآله ولعلي عليه السلام ثم الأئمة من ولده ، وولاية الله تعني إتباع كتابه ، وولاية الرسول تعني إتباع سنته والإقتداء به ، وولاية علي والائمة من ولده تعني أخذ سنة النبي صلى الله عليه وآله منهم والإقتداء بهم والإحتكام إليهم في زمانهم .
حاربت قريش المشركة بكل قواها دعوة النبي صلى الله عليه وآله ، وعاونها في ذلك يهود المدينة ، واستغلت قريش حروب النبي صلى الله عليه وآله التي كانت دفاعاً عن نفسه وعن أصحابه لتشويه صورته لدى القبائل العربية ، وأخذت تصفه بأنه رجل أساء إلى البيت الحرام وقطع الطرق الآمنة وسفك الدِّماء ، وأنها تريد الأمن وخدمة البيت الحرام وخدمة الحجيج ، ونجحت قريش في تحشيد عشرة آلاف جندي لحرب النبي صلى الله عليه وآله في غزوة الأحزاب المعروفة بغزوة الخندق ، وباءت جهودها بالفشل ورجعت تلك الأحلاف والأحزاب منهزمة .
ثم رأى النبي صلى الله عليه وآله بعد فشل قريش في الأحزاب ، أن استمرار أسلوب الحرب معها ومع حلفائها لا ينفع ، فعدَلَ عنه إلى الصلح ، وفاجأ قريشاً في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة بقدومه صلى الله عليه وآله ، ومعه ألف وخمسائة من أصحابه ، وقد ساقوا معهم الهدي ليعتمروا ويصالحوا قريشا ، ولكن قريشاً أخذتها حَمِيَّةُ الجاهلية ، فأصرَّت على رفض دخول النبي صلى الله عليه وآله ومن معه مكة ذلك العام ، وصالحته على الأمان عشر سنين ، وعلى أن يرجع تلك السنة ويعتمر العام القادم ، وبذلك افتضحت قريش عند القبائل بكونها هي التي تصد عن البيت الحرام وأن النبي صلى الله عليه وآله رجل يعظم البيت ويدعو إلى تعظيمه واحترامه ، وانتشر الإسلام في قبائل الجزيرة العربية ، وبلغ عدد المسلمين خلال سنتين ونصف عشرة آلاف ، ثم نقضت قريش عهدها وأخلت بشروط الصلح ، وفاجأها النبي صلى الله عليه وآله بجيش قوامه عشرة آلاف مسلم ونصر الله تعالى نبيه ودخلت قريش الإسلام وهي راغمة .
خططت قريش المسلمة للإلتفاف على الإسلام واحتوائه بعد النبي صلى الله عليه وآله تحت شعار (حسبنا كتاب الله) في حياة النبي صلى الله عليه وآله من أجل فصل الكتاب عن السنة ، وتجاوزت مقام علي عليه السلام الذي أسسه الله تعالى ورسوله ورجعت تعظم مقامها في الجاهلية ، ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ آل عمران/144 ، وفرضت على المسلمين أن تكون الإمامة الدينية والسياسية في رجالات قريش وليست في أهل البيت عليهم السلام ، وأعادت الأمر جاهلية باسم الإسلام وقال رجالاتها في السقيفة (إن العرب لا ترضى أن يكون هذا الأمر في غير قريش) ثم فرضت بيعة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان بالقوة(5) .
وكانت سياستهم هي أن تتداول بطون قريش وقبائلها الإمامة الدينية والسياسية ويمنعونها بني هاشم(6) .
رفع الخلفاء القرشيون الثلاثة شعار (حسبنا كتاب الله) ، وانَّ العرب لا ترضى أن يكون هذا الأمر في غير قريش ، في قبال شعار النبي صلى الله عليه وآله (إني تارك فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ، واجتهد الخلفاء القرشيون الثلاثة بأمور خالفوا فيها سنة النبي صلى الله عليه وآله ، وكان من أكثر اجتهاداتهم ضرراً على الإسلام والمسلمين مَنْعُهم نشرَ حديث النبي صلى الله عليه وآله وتفسيرَ القرآن ، وإحراقُهم مدوَّنات الصحابة في الحديث(7) ، وفسحُ المجال لعلماء أهل الكتاب الذين أسلموا من نشر أساطيرهم بين المسلمين باسم الإسلام(8) ، وكان من أبرز مخالفاتهم لسنة النبي صلى الله عليه وآله بعد نكثهم وصيَّته في علي عليه السلام هو تحريمهم متعة الحج .
وفي ضوء هذه الإجتهادات الخاطئة فُتِحت البلاد شرقاً وغرباً ، وتعلَّم أهل البلاد المفتوحة الإسلام على أنه ولاء لله وللخليفة من قريش ، وأن الدين هو كتاب الله وما شرعه الخليفة القرشي ، ومن هنا عَرَضَ عبد الرحمن بن عوف على علي عليه السلام أن يبايعه على كتاب الله والعمل بسيرة الشيخين ، فرفض علي عليه السلام ذلك قائلاً : إن سيرة النبي صلى الله عليه وآله لا تحتاج إلى إجّيري(9) أحد ، وبويع عثمان على ذلك(10) . وهكذا عاش الناس خمساً وعشرين سنة بعد النبي صلى الله عليه وآله في جاهلية وضلالة مقنَّعة باسم الإسلام.
خالف عثمان سيرة الشيخين في قضية تولية الولاة على البلدان إذ جعلاها في قبائل قريش ، وحصرها عثمان في بني أمية.
فقد بدأ عهده باستقدام عمه الحكم والد مروان ، وكان النبي صلى الله عليه وآله قد نفاه إلى الطائف ، ثم جعل إبنه مروان (11) كاتبه الخاص بعد أن زوجه إبنته.
ثم عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة سنة 25 هجرية وعيَّن أخاه لأمه الوليد بن عقبة الفاسق بنص القرآن .
وفي سنة 26 هجرية جمع الشام كلها لمعاوية .
وفي سنة 27 هجرية جمع مصر كلها لأخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان النبي صلى الله عليه وآله قد أهدر دمه في فتح مكة وأجاره عثمان .
وفيها أيضا عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولىّ مكانه عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن أربع وعشرين سنة وضم إليه ولاية فارس .
وبسبب ذلك شاع التذمر في قريش ، وصار المتذمرون وهم عبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وعمرو بن العاص وعائشة حزبا .
وصار عثمان ومعه بنو أبيه بنو أمية حزبا .
وتعاظم الخلاف بين الحزبين القرشيين سنة 27 هجرية حين أعلن عبد الرحمن بن عوف المرشح الأكيد لخلافة عثمان قطيعته لعثمان ، وبدأ الخصوم يذكرون من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وأحاديثه ما يضعِّفون به جانب عثمان وبني أمية ، وبذلك انكسرت سياسة منع الحديث وضعفت سيطرة السلطة .
في أجواء الإنشقاق القرشي هذا قرَّر علي عليه السلام البدء بحركته الإحيائية لسنة النبي صلى الله عليه وآله في المجتمع ، وأعلن عن عزمه على الحج تلك السنة ، ولبّى بحج التمتع الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وحرَّمته الخلافة القرشية(12)، وأوعز إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله الذين على رأيه وهم أبو ذر وعمّار ومقداد ونظراؤهم أن يبدءوا بنشر الحديث النبوي ويعرِّفوا الناس بمفتاح العلم والهداية بعد النبي صلى الله عليه وآله وهم أهل بيته عليهم السلام .
انتهى انشقاق قريش بنجاح طرف عائشة وطلحة في التحريض على عثمان ثم نجاحهم في قتله ، وكانوا يترقبون أن يتجه الناس إلى طلحة ليبايعوه ، غير أنهم فوجئوا بأن الناس اتجهوا إلى علي عليه السلام يقودهم عمار وأبو الهيثم بن التيِّهان وأبو سعيد الخُدري وغيرهم من الصحابة الأنصار ومعهم مالك الأشتر ونظراؤه من التابعين ، وأصروا على علي عليه السلام أن يبايعوه(13) .
وقام علي عليه السلام بواجبه كوصي للنبي صلى الله عليه وآله ، وإمام هدى بأمر الله تعالى ، وشاهد إلهي على الناس ، مسؤول عن حفظ الرسالة ونشرها في المجتمع خير قيام ، حين نهض بالأمر بعد قتل عثمان وبيعة الأمة له، فأكمل عمله الذي بدأه في أخريات عهد عثمان ، أكمل نشر سنة النبي صلى الله عليه وآله وأحيا العمل بها ، وحثَّ على تدوينها ، ومنع من التحديث بالأساطير الإسرائيلية .
ولم تطب نفس قريش بذلك فنكثت بيعة علي عليه السلام ، وعملت على تفريق الأمة وتصدى لذلك وجوهم آنذاك ، وهم عائشة وطلحة والزبير ومعاوية ، وحاربوه في البصرة في الحرب المعروفة بحرب الجمل، ولما انكسروا فيها التفّوا حول معاوية في الشام وحاربه في صفين ، ثم وقعت الفتنة في جيش علي عليه السلام وتجمهر عدة آلاف من العراقيين المتأثرين باجتهادات عمر في العبادة وغيرها(14) فحاربوه في النهروان .
انحصر إحياء سنة النبي صلى الله عليه وآله ونشرها بين أهل البلاد المفتوحة شرقاً ، وصارت الكوفة مركزاً لتلك النهضة الإحيائية لسنة النبي صلى الله عليه وآله والعمل بها .
أما الشام فقد بقيت منغلقة على هذه النهضة وصارت مركزاً لقريش في محاربة علي عليه السلام والكيد له ، ومحاربة الأحاديث النبوية الصحيحة ، وشوَّه معاوية عن طريق الأخبار الكاذبة صورة علي عليه السلام لدى الشاميين ، وصوَّره لهم شخصا مجرماً بحق الإسلام ، وأن دم عثمان بعهدته ، وسوَّغ لهم لعنه ومحاربته نظير ما فعلت قريش المشركة مع النبي صلى الله عليه وآله لما هاجر إلى المدينة . وصار يشن الغارات على أطراف بلاد علي عليه السلام لسلب الأموال وإرعاب الناس ليطوق تجربة علي عليه السلام الإحيائية للسنة النبوية ويحدها من الانتشار .
واستشهد علي عليه السلام وهو يعبئ الناس لخوض معركة جديدة مع معاوية .
|