خطة الحسين عليه السلام
العملية
لتحقيق التغيير
قامت خطة الحسين عليه السلام لتحقيق التغيير عملياً على مرحلتين أساسيتين هما :
احتفظ الإمام الحسين عليه السلام في هذه المرحلة مع أصحابه بعلاقات سريةكان يحثهم فيها على نشر أحاديث النبي صلى الله عليه وآله في أهل البيت عليهم السلام ريثما يموت معاوية ، نعم تذكر المصادر التاريخية أن معاوية بعث برسالة تهديد إلى الحسين عليه السلام بعد قتل حجر وتردد العراقيين على بيته فبعث الحسين عليه السلام برسالة يرد فيها على معاوية ، وكان آخر نشاط سرّي نوعي في هذه المرحلة هو المؤتمر السري الذي عقده بحضور بني هاشم وعدد من الصحابة والتابعين قبل موت معاوية بسنة .
كتب معاوية إلى الحسين عليه السلام : (… فمتى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتق الله في شق عصا هذه الأمة ، وأن تردهم إلى فتنة) .
فكتب إليه الحسين عليه السلام : (... أما ما ذكرتَ أنه رُقِّيَ إليك عني فأنه إنما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ... ما أردتُ لك حرباً ولا عليك خلافاً وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك الفاسقين الملحدين حزب الظلمة .
ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفضعون البِدَع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون اللهَ لومةَ لائم .
ثم قتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعدما اعطيتَهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة .. جرأةً على الله واستخفافاً بعهده .
ولعمري ما وفيتَ بشرط ولقد نقضتَ عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوك ونقضوا عهدك ،
ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقَّنا .
فأبشر يا معاوية بالقصاص وأيقن بالحساب ...
وليس الله بناسٍ لأخذك بالظِّنَّة وقتلِك أولياءَه على التُّهَم ونفيِك إياهم من دورهم إلى دار الغربة (1) .
قال سليم بن قيس رحمه الله : لما كان قبل موت معاوية بسنة ، حجَّ الحسين بن علي عليهم السلام وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر فجمع الحسينُ بني هاشم ، ثم رجالَهم ونساءَهم ومواليهم ومن حج من الأنصار ، ممن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته ، ثم أرسل رسلاً وقال لهم: لا تَدَعونَ أحداً حَجَّ العام من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله المعروفين بالصلاح والنسك إلا اجمعوهم لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل ، وهم في سرادُقِه ، عامَّتُهم من التابعين ، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله فقام فيهم خطيبا .
وقال : أما بعد فإن هذا الطاغية قد فعل ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا فإني أتخوف أن يُدْرَسَ (2) هذا الأمر ويذهب الحق ويُغلب ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون .
وما ترك شيئاً مما أنزله الله فيهم من القرآن إلا تلاه وفسره ، ولا شيئاً مما قال رسول الله صلى الله عليه وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلا رواه ... وكل ذلك يقول أصحابه ، اللّهم نعم وقد سمعنا وشهدنا ويقول التابعي : اللهم قد حدثني به من أثق به وأئتمنه من الصحابة فقال : أنشدكم الله إلا حَدَّثتُم به من تثقون به وبدينه (3) .
وكانت الخطوات الأساسية للعمل في هذه المرحلة ثلاث وهي :
وذلك لأن بيعة الحسين عليه السلام ليزيد ليست في صالح الإسلام ولا في صالح الأمة بأي حال من الأحوال بل تعني أن حصلت إن الحسين عليه السلام إقرار المنهج التحريفي للإسلام الذي نهض به بنو أمية وانقطاع أثر الحديث الصحيح في أهل البيت وعلي عليهم السلام في الأمة تماما عند موت حامليه الذين حملوه في صدورهم وكتموه خوفا من السلطة .
قال عليه السلام : (لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد) (4) . وهو في ذلك نظير جده النبي صلى الله عليه وآله حين قال لعمه أبي طالب : (ياعم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) ، والقضية واحدة عند النبي صلى الله عليه وآله وعند الحسين عليه السلام ، فإن قريشاً كانت تريد من النبي صلى الله عليه وآله أن يترك دعوة التوحيد لتسود عبادة الأصنام ، وبنو أمية يريدون من الحسين عليه السلام أن يترك أحاديث جده في أهل بيته الذين عينهم بأمر الله تعالى حججاً على الناس تموت في الأمة وينقطع أثرها بموت حامليها ، وتحل محلها أحاديث كاذبة قيلت على لسانه في بني أمية والخلفاء منهم على أنهم حجج الله وأئمة الهدى .
اختار الحسين عليه السلام مكة مركزاً لإعلان رفضه لبيعة يزيد لأنها المكان الوحيد الذي يقصده المسلمون من كل الأقطار للعمرة والحج ، والحسين عليه السلام بأمس الحاجة إلى مكان عام كهذا من أجل نشر حديث جده في أهل البيت عليهم السلام ، هذا مضافاً إلى تحركه على أخيار الأمة القادمين من الآفاق لطلب نصرتهم .
وقد بقي في مكة أربعة اشهر /شعبان ورمضان وشوال وذو القعدة ، وأيام من ذي الحجة/ التفّ حوله المعتمرون والقادمون للحج يسمعون منه حديثه عن جده في فضل أبيه أو في فضله أو في جهاد الظالمين أو فيما سوف يرتكب بحقه، وقتله مظلوماً بشط الفرات .
قال الطبري : فأقبل الحسين حتى نزل مكة ، فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق . وقال ابن كثير : فعكف الناس على الحسين يفِدون إليه ويقدِمون عليه ويجلِسون حواليه ويستمعون كلامه حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد ، وأما ابن الزبير فإنه لِزم مصلاه عند الكعبة وجعل يتردد في غُبون (5) ذلك إلى الحسين في جملة الناس ولا يمكنه أن يتحرك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه (6) .
أقول: بقي الحسين عليه السلام في مكة شهر شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة وثمانية أيام من ذي الحجة ، ومما لا شك فيه أن الحسين في هذه الفترة وفي حلقاته مع المعتمرين وأهل الآفاق كان قد كسر الطوق الذي فرضه معاوية على الحديث النبوي الصحيح في علي وأهل بيته عليهم السلام أو في ذم بني أمية أو في بيان أحكام متعة الحج وغير ذلك ، وبدأ يذكِّر الناس ويُسْمِع من لم يَسمَع منهم أحاديث النبي صلى الله عليه وآله في تفسير القرآن وفي فضل أبيه علي وفي فضله وفضل أخيه الحسن وفي ذم بني أمية ، وفي الموقف الصحيح عند ظهور الظلم والبدع وغير ذلك .
من قبيل : حديث الغدير ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وحديث الثقلين ، وحديث الكساء ، وحديث رؤيا النبي صلى الله عليه وآله والشجرة الملعونة في القرآن ، وغيرها .
ومن قبيل قوله صلى الله عليه وآله : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله (7) .
ثم يذكِّرهم بجرائم بني أمية ومخالفاتهم لأحكام الله وسنة رسوله وتعطيلهم الحدود وقتلهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق وغيرهم ونفي الأخيار والنساء كصعصعة بن صوحان العبدي وآمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق بعد أن كانت رهينة الحبس لحين تسليم زوجها نفسه ، وغيرها .
ويقول لهم : (ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غَيَّر) (8) .
ويقول لهم : (إلا ترون إلى الحق لا يُعملُ به وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه لَيَرْغبَ المؤمن في لقاء الله ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما) (9) .
ويقول لهم : (إني أدعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع)(10) .
ثم يذكِّرهم بقول النبي صلى الله عليه وآله فيه : (حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسينا) ، وبقوله صلى الله عليه وآله فيه وفي أخيه : (الحسن والحسين سبطان من الأسباط) ، (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) .
ولابد أنه عليه السلام قد ذكّرهم وأخبرهم بما أعلنه النبي صلى الله عليه وآله منذ ولادته عليه السلام بأنه سوف تقتله الفئة الباغية (11) ، ظلماً وعدوانا .
ثم يقول لهم : (وأيم الله لوكنتُ في جُحْرِ هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم ووالله لَيَعْتَدُنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت) (12) .
ويقول عليه السلام لهم : (كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشاً جوفا وأجربةً سغبا لا محيص عن يوم خُط بالقلم رضا الله رضانا أهل البيت ويوفينا أجورالصابرين لن تشذ عن رسول الله لحمته)(13) .
لقد كان الحسين عليه السلام يحدِّث بهذا وأمثاله سراً وعلانية في جو من الاستضعاف والخوف والإرهاب ، يبصِّر المسلمين ويستنهض هممهم ويطلب نصرتهم ، ويذكِّرهم بتكليفهم الشرعي ، نظير ما كان يصنعه جده رسول الله صلى الله عليه وآله في مكة يوم استضعفته قريش وعذبت أصحابه فقتل من قتل وسجن من سجن وشَرِّد من شُرِّد .
وليس من شك أن هذه الحركة التبليغية العلنية من الحسين عليه السلام تقوم على أساس ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله من تبليغ حديثه إلى الناس وما أمر به الله ورسوله من إظهار العلم عند ظهور البدع ، وقد اختار لها الحسين عليه السلام بتوفيق إلهي خاص ليتحرك في ظرفها المناسب ، وهذه الحركة تعني في الوقت نفسه أن السلطة الأموية في الشام سوف لن تسكت عليها بل سيكون موقفها منها هو العمل على القضاء عليها بكل وسيلة ممكنة وبأقسى ما يتصور من العقوبة لتكون للآخرين نكالاً وعبرة .
كان الحسين عليه السلام على موعد مع شيعة أبيه في الكوفة أنه ينهض بهم بعد وفاة معاوية ، والكوفة هي البلد الممتحن وفيها بقية تلاميذ علي عليه السلام وحملة خطبه وأحاديثه وأقضيته وأخبار سيرته(14) كانت مؤهلة للانطلاق بالشيعة في مواجهة الأمويين وتطويق إنحرافهم والإطاحة بهم .
قدم إلى الحسين عليه السلام وهو في مكة ثلة من وجوه الشيعة الكوفيين ، منهم: برير الهمداني (15) وعابس بن حبيب الشاكري الهمداني (16) وشوذب مولى عابس (17) وحجاج بن مسروق الجعفي (18) ويزيد بن مغفل المذحجي الجعفي (19) والصحابي أنس بن الحارث (20) وغيرهم أنهى عددهم الذهبي إلى ستين شيخاً (21) وبقوا مع الحسين عليه السلام حماية له إضافة إلى بني هاشم .
أرسل الحسين عليه السلام ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة يتحرك لتهيئة الأجواء ، وأمره أن ينزل على هانيء بن عروة شيخ مذحج أهم وأقوى شخصية اجتماعية وسياسية في الكوفة (22) وكتب مسلم للحسين عليه السلام يخبره أن الأجواء مهيأة لقدومه .
نُمِّيَ الخبر إلى يزيد فعزل النعمان بن بشير خوفاً من أن لا يُقْدِم على الحسين عليه السلام (23) ، وضم الكوفة إلى عبيد الله بن زياد وطلب منه الذهاب إليها ومواجهة حركة مسلم ، واستطاع ابن زياد أن يسيطر على الحركة الشعبية الكامنة في الخفاء بواسطة قوى الشرطة والأمن الداخلي الموالية للنظام الأموي ، ثم ألقى القبض على هانيء ومسلم وقتهلما وزج في السجون آلاف (24) من الشيعة على الشبهة والظنة وقطع الطرق المؤدية إلى الكوفة (25) بالجيش والشرطة الذين تربَّوا على الولاء لبني أمية والطاعة للنظام منذ عشرين سنة .
بعث يزيد إلى مكة من يقتل الحسين عليه السلام غيلة ، ووصل الخبر إلى الحسين عليه السلام ، واقترن ذلك مع وصول كتاب مسلم الذي يخبره فيه أن الأجواء في الكوفة مهيأة لقدومه .
خرج الحسين عليه السلام يوم الثامن من ذي الحجة من مكة ، خوفاً من أن يغتال في الموسم أو يقتل في الحرم وتستباح به حرمة الحرم(26) ، وقد حاول والي مكة منعه من الخروج فلم يفلح .
دخل الحسين عليه السلام أرض العراق واستقبلته طلائع جيش النظام الأموي بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ولم تدعه يدخل الكوفة أو يخرج عن أرض العراق ، وانتهى المطاف بإجباره على النزول في كربلاء واجتمعت عليه كتائب جيش النظام الاموي بقيادة عمر بن سعد وعرضوا عليه البيعة وتسليم نفسه للسلطة أو يقاتلوه .
اختار الحسين عليه السلام الموت على البيعة أو التسليم وهو شعاره منذ اليوم الأول من حركته.
وكذلك كان موقف من معه من أهل بيته وأصحابه من الكوفيين الذين صحبوه من مكة ومن الذين استطاعوا الفرار من الكوفة واللحاق به أمثال:
عمرو بن خالد الصيداوي (27) وأبي الشعثاء يزيد بن زياد بن مهاصر البهدلي الكندي (28) وحبيب بن مظاهرالأسدي (29) ومسلم بن عوسجة الأسدي (30) وأبي ثمامة الصائدي(31) ونافع بن هلال الجملي وغيرهم (32) .
قتل الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته جميعاً بعد معركة غير متكافئة وقطعت رؤوسهم وسيِّرت إلى الكوفة مع عيال الحسين عليه السلام ومن هناك سُيِّروا إلى الشام .
|