المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثالث : تعريف بالموسوعات التاريخية وأصولها ومصنفيها
الفصل الأول : موسوعة ابن أبي الحديد

عقيدة ابن أبي الحديد

قال عبد السلام هارون : كان الغالب على أهل المدائن التشيُّع والتطرُّف والمغالاة فسار ابن أبي الحديد في دربهم وتقيَّل مذهبهم ، ونظم القصائد المعروفة بالعلويات السبع على طريقتهم ، وفيها غالى وتشيَّعوذهب به الإسراف في كثير من أبياتها كلَّ مذهب يقول في إحداها :

علم الغيوب إليه غير مدافع       والصبح أبيض مسفر لا يدفعُ

وإليه في يوم المعاد حسابنا       وهو الملاذ لنا غداً والمفـزعُ

هذا اعتقادي قد كشفت غطاءه       سيضرُّ معتقداً له أو ينفعُ

يا من له في أرض قلبي منزل       نعم المراد الرحب والمستربعُ

ورأيت دين الاعتزال وإنَّني       أهوى لأجلك كلَّ من يتشيعُ

ولقد علمتُ بأنَّه لابدَّ من       مهديِّكم وليومِه أتوقَّعُ

تحميه من جند الإله كتائب       كاليمِّ أقبل زاخراً يتدفَّعُ

قال عبد السلام هارون : ثمَّ جنح إلى الاعتزال ، وأصبح كما يقول صاحب نسمة السحر معتزلياً جاحظياً ، في أكثر شرحه للنهج ، بعد أَن كان شيعياً غالياً .

أقول :

كون مذهب ابن أبي الحديد هو التشيع ، ثم عدل عنه الى الإعتزال غير صحيح ، بل كان شافعيا شأن والده وإخوانه ، وهو مقتضى قبوله في المدرسة النظامية التي لا تقبل إلا الشوافع ، نعم تحوَّل الى مذهب الإعتزال على طريقة قدماء البغداديين كما قال عن نفسه في قصيدته الآنفة الذكر حيث يقول :

ورأيت دين الاعتزال وإنَّنـي       أهـوى لأجلك كلَّ من يتشيُّـع

أما علوياته المشهورة فقد نظمها للناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن الحسن المستضئ خلافته (575-622) لما أظهر الميل الى التشيع ، وقد وُلِد ابن أبي الحديد في زمانه ، وقد ذكره ابن ابي الحديد في أحدى علوياته ووصفه فيها بأنه ولي الدماء التي أريقت في كربلاء ، حيث يقول :

لهفي على تلك الدماء تراق في       أيدي أمية عنوة وتُضَيَّع

بأبي أبوالعباس أحمد إنه       خير الورى من أن تُطَلَّ ويمنع

فهو الولي لثأرها وهو الحمول       لعبئها إذ كل عود يضلع

لقد غاب عن عبد السلام هارون ، وقبله صاحب نسمة السحر أنَّ مذهب قدماء البغداديين هو تفضيل علىّ عليه السلام على أبي بكر مع تصحيح بيعة أبي بكر  (1) بدعوى أنَّ عليّاً قد رضي بذلك  (2) ولم يكن ابن أبي الحديد شيعياً بالمصطلح الإمامي ، بل كان شيعياً بالمصطلح السُّـنّي للتشيع ، حيث يعدُّ أهل السنّة كلَّ من يفضِّل عليّاً على عثمان شيعياً وكلَّ من يفضِّل عليّاً على أبي بكر شيعياً غالياً .

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ما خلاصته :

المعتزلة في التفضيل على قولين :

أحدهما : إنَّ أكثر المسلمين ثواباً أبو بكر .

و الآخر : إنَّ أكثرهم ثواباً عليٌّ وأصحابنا يقولون : إنَّ أكثر المسلمين ثواباً علىٌّ وكذلك الزيدية ، وأمَّا الأشعرية والكرامية وأهل الحديث فيقولون : أكثر المسلمين ثواباً أبو بكر .

قال ابن أبي الحديد : ثمَّ وقع بيدي بعد ذلك كتاب لشيخنا أبي جعفر الإسكافي ذكر فيه أنَّ مذهب بشر بن المعتمر وأبي موسى وجعفر بن مبشر وسائر قدماء البغداديين أنَّ أفضل المسلمين علىّ بن أبي طالب ، ثمَّ ابنه الحسن ، ثمَّ ابنه الحسين ، ثمَّ حمزة بن عبد المطلب ، ثمَّ جعفر بن أبي طالب ، ثمَّ أبو بكر بن أبي قحافه ، ثمَّ عمر بن الخطاب ، ثمَّ عثمان بن عفان ، قال : والمراد بالأفضل أكرمهم عند الله وأكثرهم ثواباً وأرفعهم في دار الجزاء منـزلة .

وقال : ثمَّ وقفت بعد ذلك على كتاب  (3) لشيخنا أبي عبد الله البصري (الحسين بن علي) يذكر فيه هذه المقالة وينسبها إلى البغداديين وقال : إنَّ الشيخ أبا القاسم البلخي كان يقول بها ، وقبله الشيخ أبو الحسين الخيَّاط وهو شيخ المتأخرين من البغداديين قالوا كلُّهم بها ، فأعجبني هذا المذهب وسررت بأن ذهب الكثير من شيوخنا إليه ونظمته في الإرجوزة التي شرحت فيها عقيدة المعتزلة فقلت :

وخير خلق الله بعد المصطفى       اعظمهم يوم الفخار شرفا

السيد المعظم الوصي       بعل البتول المرتضى علي

وابناه ثمَّ حمزة وجعفر       ثم عتيق بعدهم لا ينكر

المخلص الصديق ثمَّ عمر       فاروق دين الله ذاك القسور

وبعده عثمان ذو النورين       هذا هو الحق بغير مين  (4)

وقال أيضاً معلقاً على رواية ابن ديزيل بسنده إلى زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ألا أدلَّكم على ما إن تسالمتم عليه لم تهلكوا ؟ إنَّ وليَّكم الله وإنَّ إمامكم علي بن أبي طالب ، فناصحوه ، وصدِّقوه ، فإنَّ جبريل أخبرني بذلك .

قال ابن أبي الحديد : فإن قلتَ هذا نصٌّ صريحٌ في الإمامة فما الذي تصنع المعتزلة بذلك .

قلت : يجوز أن يريد أنَّه إمامهم في الفتاوى والأحكام الشرعية ، لا في الخلافة .

وقال أيضاً : فإنَّا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصَّله أنَّ الإمامة كانت لعلي عليه السلام إنْ رغب فيها ونازع عليها ، وإنْ أقرَّها في غيره وسكت عنها تولَّينا ذلك الغير وقلنا بصحة خلافته ، وأمير المؤمنين عليه السلام لم ينازع الأئمة الثلاثة ولا جرَّد السيف ولا استنجد بالناس عليهم ، فدلَّ ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه ، فلذلك تولَّيناهم وقلنا فيهم بالطهارة والخير والصلاح ، ولو حاربهم وجرَّد السيف عليهم واستصرخ العرب على حربهم ، لقلنا فيهم ما قلناه فيمن عامله هذه المعاملة من التفسيق والتضليل  (5) .

وقال أيضا :

(و لهذا كان أصحابنا (أي المعتزلة) أصحاب النجاة والخلاص والفوز في هذه المسألة ، لأنَّهم سلكوا طريقة مقتصدة ، قالوا : هو (أي علي) أفضل الخلق في الآخرة وأعلاهم منزلة في الجنَّة وأفضل الخلق في الدنيا وأكثرهم خصائص ومزايا ومناقب ، وكلُّ من عاداه ، أو حاربه ، أو أبغضه ، فإنَّه عدوٌّ لله سبحانه وخالد في النار مع الكفَّار والمنافقين إلاَّ أن يكون ممَّن قد ثبتت توبته ومات على توليه وحبِّه .

فأمّا الأفاضل من المهاجرين والأنصار الذين ولوا الإمامة قبله فلو أنَّه أنكر إمامتهم ، وغضب عليهم ، وسخط فعلهم ، فضلاً عن أن يشهر عليهم السيف ، أو يدعو إلى نفسه ، لقلنا أنَّهم من الهالكين كما لو غضب عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله لأنَّه قد ثبت أنَّ رسول الله قال له : (حربك حربي وسلمك سلمي) وأنَّه قال : (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) وقال له : (لا يحبُّك إلاَّ مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق) ، ولكنَّا رأيناه رضي إمامتهم ، وبايعهم ، وصلَّى خلفهم ، وأنكحهم ، وأكل من فيئهم ، فلم يكن لنا أن نتعدَّى فعله ، ولا نتجاوز ما اُشتهر عنه ، ألا ترى أنَّه لمَّا بري من معاوية برئنا منه ، ولمَّا لعنه لعناه ، ولمَّا حكم بضلال أهل الشام ومن كان فيهم من بقايا الصحابة كعمرو بن العاص وابنه وغيرهما حكمنا أيضاً بضلالهم .

فأمّا من قال بتفضيله على الناس كافَّة من التابعين فخلق كثير ، كأويس القرني وزيد بن صوحان وصعصعة أخيه وجندب الخير وعبيدة السلماني وغيرهم ممَّن لا يحصى كثرةولم تكن لفظة الشيعة تعرف في ذلك العصر إلاَّ لمن قال بتفضيله ، ولم تكن مقالة الإمامية ومن نحا نحوها من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذ على هذا النحو من الاشتهار فكان القائلون بالتفضيل هم المسمَّوْن الشيعة وجميع ما ورد من الآثار والأخبار في فضل الشيعة وأنَّهم موعودون بالجنة ، فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم ، ولذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم وتصانيفهم : نحن الشيعة حقّاً ، فهذا القول هو أقرب إلى السلامة وأشبه بالحق من القولين المقتسمين طرفي الإفراط والتفريط إن شاء الله)  (6) .

وقال أيضاً : فأمّا علي عليه السلام ، فإنَّه عندنا بمنـزلة الرسول صلى الله عليه وآله في تصويب قوله ، والاحتجاج بفعله ، ووجوب طاعته ، ومتى صحَّ عنه أنَّه قد برى من أحد من الناس برئنا منه ، كائناً من كان ، ولكن الشأن في تصحيح ما يروى عنه عليه السلام فقد كثر الكذب عليه ، وولَّدت العصبيَّةُ أحاديث لا أصل لها .

فأمّا براءته عليه السلام من المغيرة وعمرو بن العاص ومعاوية فهو عندنا معلوم ، جار مجرى الأخبار المتواترة ، فلذلك لا يتولاَّهم أصحابنا ، ولا يثنون عليهم ، وهم عند المعتزلة في مقام غير محمود ، وحاش لله أن يكون عليه السلام ذكر من سلف من شيوخ المهاجرين إلاَّ بالجميل ، والذكر الحسن بموجب ما تقتضيه رئاسته في الدين ، وإخلاصه في طاعة ربِّ العالمين ، ومن أحبَّ تتبُّع ما روي عنه ممّا يوهم في الظاهر خلاف ذلك فليراجع هذا الكتاب (أعنى شرح نهج البلاغة) ، فإنّا لم نترك موضعاً يوهم خلاف مذهبنا إلاَّ وأوضحناه ، وفسَّرناه على وجه يوافق الحق وبالله التوفيق  (7) .

أقول : أما قول صاحب نسمة السحر (أنه صار معتزلياً جاحظياً) فيرده ان الجاحظ هو من القسم الآخر من المعتزلة ، الذي يذهب الى تفضيل عثمان على عليعليه السلام ، وقد ألف كتاب العثمانية في تشييد عقيدته ، تلك ورد عليه الاسكافي المعتزلي  (8) وكذلك ابن ابي الحديد في كتابه مناقضة السفيانية  (9) .

______________________

(1) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج1/156-157.

(2) قال ابن أبي الحديد ج11/126 (ولولا طاعته لمن تقدم وما ظهر من رضاه به لم نحكم بصحة خلافته) .

(3) لعله كتابه (مناقضة السفيانية) الذي ذكره ابن ابي الحديد في شرحه ج10/101 .

(4) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج11 ص119 .

(5) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج3 ص98 أقول : إنَّ المصادر التاريخية تذكر أنَّ عليّاً قد طلب ذلك انظر المصدر السابق ج2/21-22 وأيضاً كتابنا شبهات وردود الحلقة الثانية/الفصل السادس .

(6) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة 20/220-226 .

(7) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة 20/35 .

(8) وزع ابن أبي الحديد كتاب العثمانية للجاحظ ونقصها للإسكافي في مواضع متفرقة من كتابه شرح النهج .

(9) ذكره ابن ابي الحديد في ج10 /101 من شرحه .

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري