قريش تقاطع بني هاشم

ولمّـا رأت قريش ، أنَّ أمر النبي صلى الله عليه وآله يَفشُوَ (1) في القبائل وأنَّ المستضعفين قد آمنوا واستقرّوا في الحبشة ، ازدادوا غيظاً وحَنَقاً على مَن بالشِّعب ، أجمعوا على أن لا يبايعوهم ولا يدخلوا إليهم شيئاً من الرِّفق (2) وقطعوا عنهم الأسواق ولم يتركوا طعاماً ولا إداماً (3) إلاّ بادروا إليه واشتروه ولا يناكحوهم ولا يقبلوا منهم صُلحاً أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله للقتل وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها في الكعبة وتمادوا (4) على العمل بما فيها من ذلك ثلاث سنين (5) .

فكان بنو هاشم لا يخرجون من الشعب في الثلاث سنين التي كانوا فيها بالشعب إلاّ من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد ، وتضاغى (6) صبيانهم من الجوع فسمع ضغاؤهم من وراء الشعب .

وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمداً لنقتله ونُمَلِّكَكَ علينا ، فقال : أبو طالب : قصيدته اللامية المشهورة الطويلة يقول فيها :

  فأبلغ قصيّاً أنْ سينشر أمرُنا

       وبشّر قصيّاً بعدنا بالتخاذل

  كذِبتم وبيتِ الله نبزى محمداً

       ولما نطاعن دونه ونناضلِ (7)

  ونسلمه  حتى  نصرَّع دونه

       ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فلما سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه .

ثم أنَّ الله تبارك وتعالى سلط على صحيفتهم التي كتبوها الإرضة ، فلم تدَع إلا (بسمك اللهم فاغفر) ، فأخبر الله عز وجل بذلك رسوله صلى الله عليه وآله فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله أبا طالب .

فقال أبو طالب : والله ما يدخل علينا أحد ، فمن أخبرك بهذا؟

قال : ربي ، وهو الصادق يا عم .

قال : أشهد أنك لا تقول إلاّ حقاً .

فخرج أبو طالب في جماعة من رهطه (8) ، حتى وقف على قريش ، فقال : ادعوا بصحيفتكم التي كتبتموها علينا ، فخرجوا سراعاً ليأتوا بها ، وهم يظنون أنَّ ذلك لأمر يوافقهم ، فوجدوها كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله .

فنكسوا رؤوسهم فقويت نفس أبي طالب واشتّد صوته .

وقال المشركون : إنَّما تأتوننا بالسحر والبهتان .

فقال أبو طالب : قد تبين لكم أنَّكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة .

وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم ، وكان منهم عمر بن الخطاب ، وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين (9) .

______________________

(1) ينتشر ويتسع .

(2) الرِّفق بالكسر : ما يستعان به .

(3) وهو كل ما يؤتدم به مع الخبز من سمن او خل او غيرهما .

(4) اي لجوا وداوموا.

(5) خزانة الأدب ج2 ص58 .

(6) أي بكى صبيانهم .

(7) نبزى محمدا : اي نسلبه ونغلب عليه (لسان العرب) .

(8) اي من اهل بيته .

(9) تاريخ اليعقوبي ج2 ص32 .