هناك محاولتان
لدراسة هذه البشارة وتطبيقها
على نبينا محمد(ص):
المحاولة
الأولى
كان قد
بدأها احد علماء اليهود الذين
اسلموا وهو عبد السلام (1) وكانت ترجمته
للنص هي :
(لا يزول
الحاكم من يهوذا ولا راسم من بين
رجليه ، حتى يجئ الذي لـه ،
وإليه تجتمع الشعوب) .
قال في
كتابه (الرسالة الـهادية) :
(وفي هذه
الآية دلالة على ان يجئ سيدنا
محمد (ص) بعد تمام حكم موسى وعيسى ،
لان المراد من (الحاكم) هو موسى ،
لأنه بعد يعقوب ما جاء صاحب
شريعة الى زمان موسى الا موسى ،
والمراد (بالراسم) هو عيسى لانه
بعد موسى الى زمان عيسى ما جاء
صاحب شريعة الا محمد ، فعُلِم ان
المراد من قول يعقوب (في آخر
الايام) هو نبينا محمد عليه
السلام لانه في آخر الزمان بعد
مضي حكم (الحاكم) و(الراسم) ما جاء
الا سيدنا محمد عليه السلام .
ويدل عليه
ايضا قولـه (حتى يجئ الذي لـه) أي
(الذي لـه الحكم) بدلالة مساق
الآية وسياقها ، واما قولـه (واليه
تجتمع الشعوب) فهي علامة صريحة
ودلالة واضحة على ان المراد منها
هو سيدنا محمد (ص) لانه ما اجتمعت
الشعوب الا اليه وانما لم يذكر (الزبور)
لانه لا احكام فيه وداود النبي
تابع لموسى والمراد من يعقوب هو
صاحب الاحكام) (2) .
وقد سار
بهذا الاتجاه في فهم النص ايضا :
العلامة
محمد رضا احد علماء اليهود
الايرانيين الذي اسلم وتشيع سنة
1237هجـ (3).
والعلاّمة
رحمة اللـه الكيرانوي صاحب كتاب
(اظهار الحق) الذي الفه سنة 1280 هج (4) .
وكذلك
العلامة محمد صادق فخر الاسلام احد
علماء النصارى الايرانيين الذي
اسلم وتشيع في بداية القرن
الرابع عشر الـهجري (5).
وهذه
المحاولة تواجه اشكالاً اساسياً
وهو : ان موسى ليس من ذرية يهوذا
بن يعقوب بل هو من ذرية لاوي بن
يعقوب وادراجه ضمن ذرية يهوذا
تأويل متعسف .
كتاب
أنيس الأعلام في نصرة
|
|
|
الصفحة
الأولى من كتاب
المنقول الرضائي
|
|
|
المحاولة
الثانية
قام بها (6) العلامة عبد
الاحد داود (7) .
وكانت
ترجمته للنص هي :
(لا يزول
صولجان من يهوذا أو مشرع من بين
قدميه حتى يأتي (شيلوه) ()
ويكون له خضوع الشعوب) .
وقامت
محاولته على دراسة لفظة (شيلوه)
() الواردة في الاصل
العبري مضيفا اليها ما ذكره
اصحاب الاتجاه الاول في فهم النص
والاستدلال به على انطباقه على
نبينا محمد (ص) .
ونجد من
المفيد قبل تناول ما ذكره في هذه
المسألة عرض اتجاهات المفسرين
حول كلمة (شيلوه) :
شيلوه :
(شيلوه) () في
التوراة العبرانية .
او (شلوه) () في
التوراة السامرية
(8).
كلمة قد
حار علماء اليهود والمسيحيين في
تفسيرها وفهم المقصود منها . وفي
ذلك ثلاثة اتجاهات (9) :
الاتجاه
الاول : ان شيلوه () اسم
علم يشير الى شخص الـهي موعود
يأتي في المستقبل . وفي ضوء ذلك
فإن اصحاب هذا الاتجاه اثبتوها
كما هي دون تفسير . واليهود من
هؤلاء في ترجماتهم التفسيرية
المعروفة بـ(الترجوم) (10) وضعوا محل
كلمة (شيلوه) اسم المسيح () (ماشيحا) ولا
يطبقونه على مسيح النصارى بل
يقولون هو مسيح يظهر في آخر
الزمان .
الاتجاه
الثاني : ان (شيلوه) ()
ليست اسما لشخص بل هي مصحفة عن
كلمة (شلو) () وتعني (الذي لـه)
او (الذي حفظت الاشياء لـه) .
وقـال
بعضهم بـل هي (شي لو) ()
وتعني(هدية لـه) .
وفي
كليهما يرجع الضمير الى الشخص
الذي قالوا عنه انه المسيح الذي
يظهر في آخر الزمان .
وترجمها
آخر الى (حتى يَجيء الـهدوءِ
النّهائيِ) (final tranquility) وترجمها
آخر الى (حتى يأتي السلام الاخير)
ومعنى ذلك انها مصحفة عن (شَلْواه)
()
الـتي تعني (الـهدوء ، السلام) .
وقال آخر :
انها مشتقة من الفعل (نشل) ()
الذي يعني (طرد ، نفى) / ومن ثم
ترجمها الى (حتى ياتي المنفي) (until
the exile comes) ومعنى ذلك انها مصحفة
عن () .
الاتجاه
الثالث : ان (شيلوه) ()
اسم لمكان معين لذلك جاء في بعض
الترجمات كما يلي : (لا يزول قضيب
من يهوذا ومشترع من بين رجليه
حتى يأتي الى شيلوه) وفي ترجمة
انكليزية (حتى ياتي الرجال الى
شيلو) .
محاولة العلامة عبد الأحد :
لقد
استبعد العلامة عبد الاحد
الاتجاه الثالث أي كون الكلمة
تدل على مكان معين
(11) . وانطلق من
الاتجاه الثاني قال معلقا على
النص العبري :
(هناك
كلمتان في النص فريدتان ولا
تتكرران في اي مكان آخر في العهد
القديم .
أولـهما :
(شيلوه) () .
والاخرى :
(يِقْهات) ()
(12).
ثم
وجه عنايته وجهده الى الكلمة
الاولى (شيلوه) واهمل الثانية .
اثار
ثلاثة احتمالات للحروف الاربعة
التي تتألف منها كلمة شيلوه (ش .
ي . ل . ه) () :
الاحتمال
الاول :
هو
الاحتمال الذي تبناه مترجمو الـ(بشيتا) (13) وهو ان الكلمة
اصلـها () (شلو) وتعني (الذي تخصه) (الذي
تعود لـه) ، وحسب ذلك فإن معنى
النبوءة سيظهر ببساطة ووضوح على
النحو التالي : (ان الطابع
الملكي المتنبيء لن ينقطع من
يهوذا الى ان يجيء الشخص الذي
يخصه هذا الطابع ، ويكون لـه
خضوع الشعوب) .
الاحتمال
الثاني :
وهو
ان تقرأ () (شلواه) التي تعني
المسالم ، الـهادئ ، الوديع ،
الموثوق . مشتقة من الفعل () (شلـه) .
الاحتمال
الثالث :
وهو
ان يكون احد الناسخين عن طريق
السهو او الخطأ بانزلاق القلم قد
فصل الجانب الايسر من الحرف
الاخير () (حاء) فتحول الى الحرف () (هاء)
لان الحرفين متشابهان جداً مع
فرق ضعيف في الجانب الايسر (14) .
واذا
ما نقل خطأ كهذا الى المخطوط
العبري ، سواء عمداً او سهواً -
فالكلمة عندئذ تكون مشتقة من () (شلح)
بمعنى (أرسل) ويكون اسم المفعول () (شَلوحَ)
وتعني (المرسل ، الرسول) (15) .
ولا
استطيع ان اجد تفسيراً آخر لـهذا
الاسم المفرد البارز سوى الصيغ
الثلاث التي اوردتها) (16) .
المصداق الواقعي للنص :
وبعد
ذلك واصل بيانه ليتحدث عن
المصداق الواقعي للنص قال :
(وبالطبع
لا جدال في ان كلا من اليهود
والنصارى يؤمنون بأن هذه البركة
احدى ابرز التنبوءات المسيحانية
(17) .
ويمكن
طرح الحجة التالية لتأييد ان هذه
النبوءة القديمة جداً قد تحققت
حرفياً وعملياً في (محمد) (ص)،
فالتعابير المجازية مثل (الصولجان)
و(المشرع) هناك اجماع بين
المعلقين او الشراح ان ذلك معناه
السلطة الملكية والنبوة على
التوالي . ودون ان نتوقف طويلاً
لتمحيص الجذر والاشتقاق للكلمة
المفردة الثانية وهي (يقهت) ()
ففي وسعنا اتباع واحد من
المعنيين : اما (الطاعة) او (التوقع) (18) .
تطبيق الاحتمال الأول :
ولنحاول
اتباع الاحتمال الاول لـ(شيلوه)
كما جاء في ترجمة (البشـيطتا) وهو :
(الشخص الذي تخصه) . وهذا يعني
عملياً (صاحب الصولجان والشريعة)
او الذي يمتلك السلطة وحق
التشريع وتخضع لـه الشعوب . اذن
من يكون هذا الامير القوي
والمشرع العظيم ؟
بالتأكيد
ليس موسى ، لانه كان اول منظِّم
لاسباط إسرائيل الاثني عشر ،
ولم يظهر قبلـه اي نبي او ملك في
سبط يهوذا .
وحتماً ،
ليس داود لانه كان اول ملك نبي
ينحدر من نسل يهوذا .
ومن
الواضح انه ليس عيسى المسيح ،
لانه هو نفسه رفض الفكرة القائلة
ان المسيح الذي كانت تنتظره
اسرائيل كان احد ابناء داود (انجيل
متى اصحاح 22 جملة 44 ، 45 ، وانجيل
مرقص اصحاح 12 جملة 35 ، 37 ،
وانجيل لوقا اصحاح 20 جملة 41-44) (19) ولم يترك
قانوناً مكتوبا ، كذلك فإن عيسى
لم ينقض شريعة موسى بل اعلن
بوضوح انه قدم لتحقيقها . كما
انه لم يكن آخر الانبياء ، لان
القديس بولس يتحدث بعده عن
انبياء عديدين في الكنيسة .
اما محمد (ص)
فقد جاء بالقوة العسكرية ، و حل
القرآن محل الصولجان اليهودي
القديم البالي والشريعة القديمة
غير العملية ، التي تقوم على
الرهبنة الفاسدة . ونادى (محمد)
بأنقى الاديان وهو توحيد الالـه
الحق ، ووضع افضل القواعد
العملية والضوابط الاخلاقية
والسلوكية للبشر .
تطبيق الاحتمال الثاني :
والاحتمال
الثاني : للكلمة أي انها كانت (شلواه)
أي (الـهادئ المسالم ، الامين
الوديع) فهو ذو اهمية مساوية
لصالح محمد(ص) .
ومن
الحقائق المعروفة جيداً في
تاريخ نبي بلاد العرب انه قبل
دعوته الى الرسالة كان كثير
الـهدوء والمسالمة ومحلا للثقة .
وكان اهل مكة يسمونه (محمد
الامين) وعندما خلع عليه اهل مكة
لقب الامين هذا ، لم تكن لديهم
ادنى فكرة عن (شلواه) .
اما
بالنسبة للاحتمال الثالث أي
ان تكون محرفة عن () (شلوحَ)
(20)اي (الرسول او
المبعوث) وفي هذه الحالة فإنه
يتطابق حتماً مع اللقب العربي
للنبي ، والذي يتكرر كثيراً في
القرآن وهو (الرسول) و(شلوح
الوهيم) بالعبرية هي بالضبط (رسول
اللـه) وهذه العبارة ترتل خمس
مرات كل يوم عندما يؤذن المؤذنون
للصلاة فوق جميع المآذن في
العالم .
والآن
فمهما كانت وجهة النظر التي
نحاول ان ندرس ونمحص فيها نبوءة
يعقوب هذه ، فإنا مضطرون بحكم
تحققها في محمد (ص) ان نسلم بأن
اليهود ينتظرون عبثاً مجيء "شيلوه"
آخر ، وان النصارى مصرون على
خطئهم في الاعتقاد ان عيسى كان
هو المقصود "بشيلوه" .
وثمة ملاحظات
اخرى تستحق منا كل اعتبار جدي :
الملاحظة
الاولى :
من الواضح
جداً ان الصولجان والمشرع
سيظلان في سبط يهودا طالما ان
شيلوه لم يظهر على المسرح ،
وبموجب الادعاء اليهودي فإن (شيلوه)
لم يأت حتى الآن ، لذلك ينتج عن
هذا ان كلا من الصولجان الملكي
والخلافة النبوية كانتا لا
تزالان موجودتين وتخصان تلك
القبيلة او ذلك السبط ، ولكن
هاتين المؤسستين انقرضتا
كلتاهما منذ اكثر من ثلاثة عشر
قرنا .
الملاحظة
الثانية :
يجدر بنا
ان نلاحظ ان سبط يهودا اختفى
ايضاً مع سلطته الملكية
وشقيقتها التي هي الخلافة
النبوية ، ومن الشروط الاساسية (لمجيء
شيلوه) بقاء وجود السبط وبقاء
هويته من اجل اظهار ان السبط ككل
يعيش اما في ارض آبائه او في مكان
آخر بصورة جماعية ، ويتحدث
بلغته الخاصة . ولكن الوضع
بالنسبة لليهود معكوس بالضبط ،
فلكي يبرهن احدهم على انه
اسرائيلي لا حاجة لـه لازعاج
نفسه في ذلك ، لان اي انسان سوف
يعرفه ، ولكن لن يستطيع ابداً ان
تثبت انه تنتمي الى واحد من
الاسباط الاثني عشر .
واليهود
اليوم مضطرون ان يقبلوا واحداً
من الخيارين :
اما
التسليم بأن (شيلوه) قد جاء من
قبل ، وان اجدادهم لم يتعرفوا
عليه .
او أن
يتقبلوا ان سبط يهوذا لم يعد
موجودا وهو السبط الذي ينحدر منه
"شيلوه" (بزعمهم).
الملاحظة
الثالثة :
ان النص
يتضمن امرا يخالف بصورة واضحة
جداً الاعتقاد المسيحي اليهودي (21)وهذا الامر هو :
ان شيلوه غريب تماماً على سبط
يهودا بل وعلى بقية جميع الاسباط .
وهذا الامر على درجة من الوضوح
بحيث ان لحظات قليلة من التأمل
والتفكير كافية لإقناع المرء .
وتدل
النبوءة بوضوح انه عندما يجيء (شيلوه)
فإن الصولجان والمشرع سوف
يختفيان من سبط يهودا .
وهذا لا
يتحقق الا اذا كان شيلوه غريبا
عن يهوذا .
فإن كان
شيلوه منحدراً من يهوذا فكيف
يمكن ان ينقطع هذان العنصران من
تلك القبيلة او السبط؟ . . ولا
يمكن ان يكون شيلوه منحدرا من أي
سبط آخر ، لان الصولجان والمشرع
كانا لمصلحة اسرائيل كلـها وليس
لمصلحة سبط واحد . وهذه الملاحظة
تنسف الادعاء المسيحي ايضاً ،
لان يسوع منحدر من يهوذا ، من
ناحية امه (على الاقل) (22) .
كتاب
محمد في الكتاب المقدس
|
|
|