كتاب أبي مخنف
حول مقتل الحسين عليه السلام
وحركة المختار رحمه الله

يعد كتاب أبي مخنف (توفي قبل سنة 170 هـ) في مقتل الحسين عليه السلام وحركة المختار أقدم وأشهر كتاب في موضوعه ، وقد اعتمد عليه خصوم الشيعة لما رأوا فيه بغيتهم من الطعن على أهل الكوفة وتحملهم مسؤولية قتل الحسين عليه السلام ووصفهم بالغدر ، كما اعتمد عليه الشيعة لتقديمه تفاصيل عن مقتل الحسين عليه السلام وحركته لا توجد في غيره وفيما يلي دراسة مختصرة عن أبي مخنف وكتابه وظرفه السياسي الذي ظهر فيه تبيّن الموقف من أخبار كتابه.

قال فلهاوزن : «وأبو مخنف هو أَثْبَتُ حجة … في تاريخ الشيعة طالما اتصل بالكوفة ، والطبري يكاد لا يعتمد على غيره في ذكر أخبارهم وما أطولها» (1) .

أقول: إن الطبري صاحب التاريخ ليس حجة حين يُكثِر من راوٍ معين في موضوع معين ، فلقد أكثَرَ في تاريخه من روايات سيف بن عمر في حروب الردة ومقتل عثمان وحرب الجمل ، وتبيِّن لدى التحقيق أن أكثر أخبار سيف في هذه المواضيع إما محرّفة أو موضوعة(2) .

والطبري مؤرخ راعى في تأليفه لتاريخه ان ياتي منسجما مع السياسة العباسية ، ولذا نراه يذكر الرواية العباسية الرسمية لقصة وفاة الامام علي الرض عليه السلام وهي : أنه أكثر من أكل العنب فمات فجأة (3) .

تبنى رواية كتب أبي مخنف كثيرون منهم: محمد بن سعد في الطبقات الكبرى ، والطبري في التاريخ ، وابن أعثم في الفتوح ، والبلاذري في أنساب الأشراف ، وروى المسعودي طرفاً منها في مروج الذهب ، ثم أخذ ابن الأثير في كتابه الكامل ، وابن كثير ، وابن خلدون ، والذهبي ، برواية الطبري ، لأنه اوردها كاملة ، وعن هؤلاء أخذ المعنيون بالتاريخ الإسلامي ، من القدامى والمعاصرين شيعة كانوا أو سنة .

لم يكن أبو مخنف من القائلين بالنص على علي عليه السلام فهو ليس شيعيا بالمعنى الخاص للتشيع ، قال ابن أبي الحديد : وأبو مخنف من المحدِّثين وممن يرى صحة الإمامة بالإختيار ، وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجالها(4) . ومما يؤكد ذلك قول الشيخ المفيد بعد أن أورد أخبار حرب الجمل عن أبي مخنف والواقدي وغيرهما قال : فهذه جملة من أخبار البصرة ، وسبب فتنتها ، ومقالات أصحاب الآراء في حكم الفتنة بها ، قد أوردناها على سبيل الإختصار ، وأثبتنا ما أثبتنا من الأخبار عن رجال العامة دون الخاصة ، ولم نثبت في ذلك ما روته كتب الشيعة)(5) .

هذا وقد عاصر أبو مخنف أربعة من الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، وهم السجاد والباقر والصادق والكاظم عليهم السلام ، ولم يروِ عن واحد منهم بشكل مباشر ، نعم روى عن بعض أصحابهم بعض الروايات .

وقد وثَّقَ عددٌ من أعلام الشيعة أبا مخنف في النقل (6) .

نحن نتئِد في قبول فقرات مبثوثة في رواياته التي ترتبط ببعض سيرة الأئمة عليهم السلام أو سيرة شيعة الكوفة أو علاقة الأئمة بهم في الفترة الواقعة من سنة حكم علي عليه السلام سنة 35 هجرية وحروبه إلى مقتل المختار سنة 67 هجرية ، وذلك لأنها تعطي رؤية تخالف الثابت عن أهل البيت عليهم السلام ، أو الثابت من التاريخ عن شيعتهم في الكوفة وعلاقتهم بهم .

من قبيل : أن الحسين عليه السلام ندم على أخذ نسائه وبناته معه ، وأنه تذكَّر نصيحة ابن عباس يوم العاشر لما ارتفعت أصواتهن(7) .

ومن قبيل أن يزيد بن معاوية قال لعلي بن الحسين عليهم السلام لما أمر بإرجاعه والسبايا إلى المدينة : لعن الله ابن مرجانة ، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيتها إياه ، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ، ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكن الله قضى ما رأيت(8) .

وهناك من الرواة من اسفَّ إلى أكثر من هذا كما فعل يزيد بن روح بن زنباغ الجذامي المعاصر لأبي مخنف ، يروي عن الغاز بن ربيعة الجرشى من حمير قال : والله إنا لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية فقال له يزيد: ويلك ما وراءك وما عندك؟ فقال : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته ، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الامير عبيد الله بن زياد ، أو القتال ، فاختاروا القتال على الإستسلام ، فعدونا عليهم مع شروق الشمس ، فأحطنا بهم من كل ناحية حتى إذا اخذت السيوف مأخذها من هام القوم ، أخذوا يهربون إلى غير وزر ، ويلوذون منا بالآكام والحفر ، لواذا كما لاذ الحمائم من صقر ، فوالله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر جزور ، أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم ، فهاتيك أجسادهم مجردة ، وثيابهم مرملة ، وخدودهم معفرة ، تصهرهم الشمس ، وتسفي عليهم الريح ، زوارهم العقبان والرخم ... قال : فدمعت عين يزيد وقال : قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ، لعن الله ابن سمية أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين (9) .

ومن قبيل أن شيعة علي عليه السلام في الكوفة أمثال سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة وغيرهم كتبوا للحسين عليه السلام بالقدوم ثم خذلوه حتى قُتل ، ثم ندموا بعد ذلك ونهضوا للاخذ بثأره . وغير ذلك .

أقول : نحن نرى ان هذه الأخبار سواء كانت في كتاب أبي مخنف أو في كتب غيره وضعت بأمر العباسيين ضمخن سياسة تهدف إلى تطويق الكوفة ومحاصرتها إعلاميا ، رُسمت خطوطها من قبل أبي جعفر المنصور خاصة ضمن مخطط اعلامي شامل لتغيير الرؤية عن تاريخ علي والحسن والحسين عليهم السلام نكاية بالحسنيين الثائرين ، حيث كان هوى الثوار من الكوفيين مع الحسنيين ، وهوى من يرى العلم والحديث مع الإمام جعفر الصادق وآبائه الائمة عليهم السلام . ثم تحرك الإعلام العباسي من خلال روايات الرواة الذين سايروا العباسيين في مخططهم رغبة في دنياهم فوضعوا وحرفوا ما شاؤوا من الروايات .

أما كون هوى الكوفيين مع الحسنيين ، فقد قال الطبري : لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله ، أرسل أبو جعفر (المنصور) إلى (عمه) عبد الله بن علي ، وهو محبوس عنده ، أن هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأي فأشر به علينا ، وكان ذا رأي عندهم ، فقال : ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة ، فاجثُم(10) على أكبادهم فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارُهم ، ثم احفُفْها بالمسالح فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه ، أو أتاها من وجه من الوجوه ، فاضرب عنقه . (11)

وأما كونهم في الفقه والحديث والعلم يتبعون الإمام جعفر الصادق وآبائَه عليهم السلام فقد روى القاضي عياض(12) الحوار الذي دار بين أبي جعفر المنصور ومالك بن أنس حيث عرض عليه أن يجعله مرجعاً فقهياً للدولة انذاك .

قال مالك : قال فقلت له : ولأهل العراق قولاً تعدَّوْا فيه طورَهم .

فقال : أما أهل العراق فلست أقبل منهم صرفاً ولا عدلا ، وإنما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم .

وفي رواية فقلت له : إن أهل العراق لا يرضون عِلمَنا . فقال أبو جعفر يضرب عليه عامَّتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط (13) .

وقد خطب المنصور في الكوفة سنة 144 هجرية بعد أن قبض على عبد الله بن الحسن والد محمد وإبراهيم قبيل أن ينهضا ويثورا عليه.

قال المسعودي : ولمـّا أخذ المنصور عبد الله بن الحسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته صعد المنبر بالهاشمية ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد صلى الله عليه وآله ، ثمَّ قال :

(يا أهل خراسان ، أنتم شيعتنا وأنصارنا ، وأهل دعوتنا ، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيراً منّا . إنَّ ولد أبي طالب تركناهم والذي لا إله إلاَّ هو ، والخلافة فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير .

فقام فيها علي بن أبي طالب عليه السلام فما أفلح ، وحكَّم الحكمين ، فاختلفت عليه الأمّة وافترقت الكلمة ، ثمَّ وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه .

ثمَّ قام بعدَهُ الحسن بن علي عليه السلام ، فوالله ما كان برجل ، عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسَّ إليه معاوية إنِّي أجعلك ولي عهدي ، فخلع نفسه وانسلخ له ممَّا كان فيه ، وسلَّمه إليه وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى، فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه.

ثمَّ قام من بعده الحسين بن علي عليه السلام ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنِّفاق والإغراق في الفتن ، أهل هذه المِدرة السوء، /وأشار إلى الكوفة/ فوالله ما هي لي بحرب فأُحاربها ، ولا هي لي بسلم فأُسالمها ، فرَّق الله بيني وبينها فخذلوه وأبرؤوا أنفسهم منه ، فأسلموه حتّى قتل .

ثمَّ قام من بعده زيد بن علي ، فخدعه أهل الكوفة وغرّوه ، فلمَّا أظهروه وأخرجوه أسلموه ، وقد كان أبي محمد بن علي ناشده الله في الخروج وقال له : لا تقبل أقاويل أهل الكوفة فإنّا نجد في علمنا أنَّ بعض أهل بيتنا يصلب بالكناسة ، وأخشى أن تكون ذلك المصلوب ، وناشده الله بذلك عمّي داود وحذَّره رحمه الله غدر أهل الكوفة ، فلم يقبل ، وتمَّ على خروجه ، فقتل وصلب بالكناسة) (14) .

ولما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أمر المنصور أن يطاف برأسه بالكوفة سنة 145 هجرية وخطب قائلا :

(يا أهل الكوفة عليكم لعنة الله وعلى بلد انتم فيه ... سبئية(15) ، خشبية (16) ، قائل يقول : جاءت الملائكة وقائل يقول جاء جبريل ... ،

لَلْعجب لبني أمية وصبرهم عليكم ، كيف لم يقتلوا مقاتلتكم ويسبوا ذراريكم، ويخربوا منازلكم .

أما والله يا اهل المَدَرَة الخبيثة لئن بقيتُ لكم لأ ذلنكم .) (17) .

وفي ضوء ذلك كان من الضروري التحقيق في الرواية التاريخية التي ظهرت في هذه الفترة الخطيرة ، سواء كانت رواية ابي مخنف أو رواية غيره وتجزئة الرواية إلى اجزاء واستبعاد الجزء الذي يلتقي مع الهدف الإعلامي للعباسيين إن لم يكن لدينا غيرها .

إن الكتاب المعاصرين أمثال الشيخ محمود شاكر(18) والدكتور أحمد شلبي(19) والشيخ الخضري ونظرائهم معذورون حين يعتمدون على رواية أبي مخنف دون ان يحققوا فيها بسبب خلفيتهم العقائدية التي تسوغ لهم قبول ذلك أو الأنس به ، أما أن يعتمد الكاتب الشيعي الإمامي(20) على رواية أبي مخنف دون تحقيق أو دون تجزئة فإنَّه ليس معذورا في ذلك (21) .

______________________

(1) ‏ الخوارج والشيعة يوليوس فلهوزن ترجمه عن الألمانية الدكتور عبد الرحمن بدوي /113ط 3 ، الكويت 1978 .

(2) ‏ انظر كتب العلامة العسكري : خمسون ومأة صحابي مختلق ثلاثة مجلدات ، وعبد الله بن سبأ مجدان فإنها مكرسة لدراسة أخبار سيف بن عمر وكشف الوضع والتحريف فيها .

(3) ‏ تاريخ الطبري 7/15 .

(4) ‏ شرح نهج البلاغة 1/147 .

(5) ‏ الجمل ص 225 .

(6) ‏ انظر معجم رجال الحديث وقاموس الرجال .

(7) ‏ قال أبو مخنف حدثني عبد الله بن عاصم قال حدثني الضحاك المشرقي قال : لما سمع أخوات الحسين كلام الحسين يخاطب القوم يوم العاشر صحن وبكين وبكى بناته فارتفعت أصواتهن فأرسل اليهن أخاه العباس بن علي وعليا ابنه ، وقال لهما : أسكتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن ، قال : فلما ذهبا ليسكتاهن ، قال : لا يبعد ابن عباس ، قال : فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن لانه قد كان نهاه أن يخرج بهن . الطبري 4/321 وقال أبو مخنف وحدثني الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة بن سمعان : أن حسينا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس وقال له فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه الطبري 4/287 .

(8) ‏ تاريخ الطبري - الطبري ج 4 ص 353 .

(9) ‏ تاريخ الطبري - الطبري ج 4 ص 351 .

(10) ‏ جثُم يجثُم : لصق ولزم .

(11) ‏ تاريخ الطبري ج 6 / 194 .

(12) ‏ انظرتفصيل ذلك في كتابنا المدخل الى دراسة مصادر التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية ص470 .

(13) ‏ وكان المنصور قبل ذلك قد قال لابي حنيفة : يا أبا حنيفة ، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيء له من مسائلك الصعاب الكامل في الضعفاء لابن عدي 2/132 .

(14) ‏ المسعودي : مروج الذهب ج3/301 ، وكانت بوادر التحسس من الكوفيين قبل ذلك روى البلاذري في أنساب الاشراف 3/150 ، قال قال المدائني : (كتب أبو مسلم إلى أبي العباس : أن أهل الكوفة قد شاركوا شيعة أمير المؤمنين في الاسم ، وخالفوهم في الفعل ، ورأيهم في آل علي الذي يعلمه أمير المؤمنين ، يؤتى فسادهم من قبلهم باغوائهم إياهم وإطماعهم فيما ليس لهم ، فالحظهم يا أمير المؤمنين بلحظة بوار ، ولا تؤهلهم لجوارك ، فليست دارهم لك بدار . وأشار عليه أيضا عبدالله بن علي بنحو من ذلك فابتنى مدينته بالانبار وتحول اليها وبها توفي) .

(15) ‏ اي اتباع عبد الله بن سبأ الذي ادعي له انه مبتدع الوصية لعلي عليه السلام المشابهة لوصية موسى عليه السلام ليوشع عليه السلام الذي يترتب عليها البراءة ممن تجاوز على موقعه .

(16) ‏ في النهاية لابن الاثير : الخشبية : هم أصحاب المختار بن أبي عبيد ، ويقال لضرب من الشيعة : الخشبية . وفي المشتبه للذهبي : الخشبي : هو الرافضي في عرف السلف .

(17) ‏ أنساب الاشراف 3/269 .

(18) ‏ كاتب مصري ألف موسوعة في التاريخ الاسلامي في عدة مجلدات .

(19) ‏ كاتب مصري الف موسوعة التاريخ الاسلامي في عدة مجدلات وطبعت طبعات عديدة اخر ما رايته هو الطبعة السابعة سنة 1984م وعنها ننقل في كتابنا هذا .

(20) ‏ قد يعترض البعض علينا باعتماد مرجع الشيعة في وقته الشيخ المفيد رحمه الله على رواية ابي مخنف في كتابه الارشاد ، أو في كتابه الجمل ، ولكنه اعتراض غير وارد لان الشيخ المفيد في الجمل يصرح انه انما اورد اخبار الجمل من مصادر غير امامي لاجل الاحتجاج .

(21) ‏ أشرنا إلى طرف من هذا الموضوع في كتابنا المدخل الى دراسة مصادر السيرة النبوية ، /469- 480 ، نرجو ان نوفق الى تفصيلها في دراسة مستقلة .