المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الأول : بحوث تمهيدية
الفصل الثاني : أهداف دراسة السيرة النبوية
إنَّ دراستنا للسيرة بهذه الزاوية تهدف إلى معرفة ما تنطوي عليه حوادث التاريخ النبوي من دلالات عقائدية .
وتقوم هذه الزاوية من الدراسة على أساس أنَّ النبي صلى الله عليه وآله شخص صُنِع على عين الله تعالى فجاءت حياته منذ ولادته ، بل قبل ولادته حقلاً تظهر فيه رعاية الله تعالى الخاصّة بشكل ملحوظ ، وتشتدُّ هذه الظاهرة عند البعثة وحتى إلتحاق النبي بالرفيق الأعلى ، ومن هنا تكون قصص حياة النبي والوصي تجسيداً للعقيدة الإسلامية بالله وبالنبي والوصي ، وبسبب ذلك سمّى القرآن الكريم هذه القصص والحوادث بـ (الآيات) ودعا الإنسان إلى التفكير فيها لأخذ العبرة منها وجعلها نظيراً للظواهر الكونية حيث سمّاها (آيات) أيضاً ودعا الإنسان إلى التفكير فيها وأخذ العبرة منها أيضاً .
قال الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْك هذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ ، إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ، قَالَ يَا بُنَىَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاك عَلَى إِخْوَتِك فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌّ ، وَكَذلِك يَجْتَبِيك رَبُّك وَيُعَلِّمُك مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْك مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّك عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ)يوسف/2-7 .
وقال الله تعالى : (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبْثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانَ وَهُمْ ظَالِمُونَ ، فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ)العنكبوت/14-15 .
وقال الله تعالى : (فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الأعراف/176 .
وقال الله تعالى : (يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي)الأنعام/130 .
وقال الله تعالى : (هَلْ أَتَاك حَدِيثُ مُوسَى ، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالُوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ، اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُلْ هَلْ لَّك إلى أَن تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَك إلى رَبِّك فَتَخْشَى ، فَأَرَاهُ الآيَةَ الكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى ، فَقَالَ أَنَّا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ، فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ، إِنَّ فِي ذَلِك لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشَى)النازعات/15-26 .
وقال الله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ، حتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ الُمجْرِمِينَ ، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ) يوسف/109-111 .
وقال الله تعالى : (وَالله أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذلِك لآيَةً لِقَوْم يَسْمَعُونَ ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْث وَدَم لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ ، وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذلِك لآيَةً لِقَوْم يَعْقِلُونَ ، وَأَوْحَى رَبُّك إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الَّثمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّك ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِك لآيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ، وَالله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مِّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْم شَيْئًا إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ ، وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ ، وَالله جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ ، وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِك لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ، فَلاَ تَضْرِبُوا لله الأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ، ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) النحل/65-75 .
والعبرة : هي نتيجة الإعتبار الذي هو الإستدلال على الشى بالشى ، أو معرفة ما ليس مشاهد من خلال ما هو مشاهد ، وأصل العبرة من (عَبرَ النهر) أي تجاوزه من جانب إلى آخر سباحة أو بسفينة أو قنطرة
والآية : إصطلاحاً هي ما تتألَّف منه السور من وحدات كلامية قد تطول وقد تقصر وهي تقابل البيت الذي تتألف منه القصيدة العربية .
أمَّا في اللغة فالآية تعني : العلامة وهي التي يفضى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية
إنَّ (الواقعة الكونية) كالمطر مثلاً ، آية من آيات الله لأنهَّا علامة تهدي إلى الله من يفكر بها تفكيراً صحيحاً ، وحين يهتدي الإنسان بالآية يكون قدعبر بها إلى الله تعالى ، أي عرف ربوبية الله تعالى بواسطتها وهذا هو معنى أخذ العبرة منها ، وتتسع الوقائع الكونية بحكم تنوّعها وترابطها لكل عقيدة التوحيد بإعتبار إنَّ هذه الوقائع آيات لله تعالى وعلامات على وجود الله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العليا .
وكذلك الأمر في (الواقعة التاريخية النبوية) كواقعة نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وآله أو مجيء موسى بالآيات المفصلات إلى فرعون ، أو واقعة الغدير ، أو واقعة بدر ، أو خروج موسى بقومه ولحاق فرعون وجنوده لهم وإنفراق البحر لموسى وقومه وغرق فرعون وقومه ، أو بيعة الرضوان في واقعة الحديبية ، وغيرها من وقائع النبوة ، هي أيضاً آيات لله تعالى تهدي إلى الله وإلى أصفيائه وتعرِّف بالمهتدين والضالين من عباده وبسنَّته مع المكذِّبين ، ومعرفة ذلك كله والإستفادة منه هو المراد بأخذ العبرة منها .
إنَّ الموقف القرآني من الظواهر الكونية وقصص الأنبياء الآنف الذكر ناشى من كونها حقلاً يعكس قدرة الله وعلمه وإرادته وحكمته وكونها فعلاً إلهياً مباشراً مع ملاحظة جديرة بالذكر ، وهي : أنَّ الظاهرة الكونية لا تتقوّم بإرادة وإختيار وقدرة خارج إرادة الله تعالى وإختياره وقدرته وإنَّ الواقعة التاريخية النبوية تتقوّم بإرادة وإختيار وقدرة وعلم الإنسان لأنَّها من ناحية فعل يجري على يد الإنسان بل هي في ظاهرها فعل بشري يدّعي صاحبه المؤمن أنَّ يد الله وقدرته وإرادته وراءه .
وفي ضوء ذلك فإنَّ من الطبيعي أن تكون قصص الأنبياء ، أعظم عظةً وعبرةً من الظاهرة الكونية بحكم تعقيد الظاهرة الإنسانية في قبال الظاهرة الكونية ، ولنأخذ مثالاً يوضح الفكرة مما قصَّه الله تعالى علينا من قصة موسى وفرعون .
قال الله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ، وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْن لِّي وَلَك لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُب وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ، فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)القصص/4-13 .
إنَّ هذا المقطع من القرآن يتحدَّث عن واقعة تاريخية من وقائع نبي الله موسى ترتبط بولادته وظروفها ، والعبرة فيه ذات بعدين :
البعد الأوّل : الدلالة على الله تعالى بصفته مؤثراً مباشراً في الواقعة ، مع المحافظة على أطراف الواقعة بوصفهم عناصر تمتلك حرية وإرادة الاختيار .
البعد الثاني : الدلالة على موسى عليه السلام ، وأنَّه مصطفى من الله تعالى وأنَّه كان برعاية الله منذ ولادته .
وهذا جار في كل قصص الأنبياء .
ومن هذا المنطلق يكون جانب القدوة من حياة الرسول وسيرته بمجموعه أعظم آيات الله عظمة وعبرة ، ذلك لأنَّ وصول إنسان إلى موقع القدوة والأسوة في مجتمع من المجتمعات أو جماعة من الجماعات ليس غريباً وخارجاً عن سنّة الله في الإنسان والمجتمع ، بل الغريب والملفت للنظر والخارق للقانون هو أن تكون هذه القدوة على نسق واحد وحالة واحدة في كل مجالاتها ، فلا يشذُّ سلوك منها عن صفة القدوة مهما كان صغيراً وفي كل حقل من حقول الحياة الانسانية .
فما لم يكن له تعالى وجود حقيقي فاعل وما لم يكن هناك إنفتاح واقعي تعليمي وتربوي بين الله تعالى وعبده المرسل ورعاية خاصة له (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) طه/39 يستحيل أن يصل إنسان إلى هذا الموقع .
وفي ضوء مامرَّ نستنتج أنَّ سيرة الأنبياء هي أعظم رافد يمدُّ السائر إلى الله تعالى بالعظة والعبرة ولا يضاهيها رافد آخر بذلك
______________________
(1) ابن منظور : لسان العرب ، والراغب الاصفهاني : مفردات غريب القرآن مادة عبر .
(2) ابن منظور : لسان العرب ، والراغب الاصفهاني : مفردات غريب القرآن مادة أي .
(3) وسيأتي في الأبحاث التالية أنَّ سيرة أَوصياء الرسول الإثني عشر تتصف بتلك الصفة أيضاً ، لأنَّهم صُنِعوا على عين الله وكُلِّفوا بما كُلِّف به الأنبياء بواسطة النبي إلاَّ أنَّهم ليسوا بأنبياء .