المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثالث : تعريف بالموسوعات التاريخة وأصولها ومصنفيها
الفصل السادس : العوامل المؤثرة في التدوين التاريخي عند المسلمين
حفظ لنا الطبري اكثر من وثيقة مهمة يستطيع الباحث من خلالها ان يفهم الاتجاه الفكري والإعلامي الذي سار فيه بنو العباس وسارت فيه اجهزتهم منذ أيّام المنصور الذي كان مؤسس تلك السياسة ومنظّرها وقد اوردنا خطبته بعد اخذه عبد الله بن الحسن (ص 222) ونضيف اليها هنا ما رواه الطبري : في حوادث سنة 145 لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله في المدينة كتب إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله امير المؤمنين ، إلى محمد بن عبد الله : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَاف أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِك لَهُمْ خِزْىٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)) المائدة/33 . ولك علىَّ عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله صلى الله عليه وآله ان تبت ورجعت من قبل ان اقدر عليك ان اؤمنك وجميع ولدك واخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم واموالكم ، واسوغك ما أَصبت من دم او مال ، واعطيك الف الف درهم ، وما سألت من الحوائج ، وانـزلك من البلاد حيث شئت ، وان اطلق من في حبسي من أهل بيتك ، وان اؤمن كل من جاءك وبايعك واتبعك ، او دخل معك في شيء من امرك ، ثمَّ لا اتبع احداً منهم بشى كان منه ابداً . فإن اردت ان تتوثق لنفسك ، فوجه إلى من احببت يأخذ لك من الامان والعهد والميثاق ما تثق به .
وكتب على العنوان : من عبد الله امير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله .
فكتب إليه محمد بن عبد الله :
"بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله إلى عبد الله بن محمد (طسم (1) تِلْك آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْك مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)) القصص/1-6 .
وانا اعرض عليك من الامان مثل الذي عرضت علي ، فإن الحق حقنا ، انما ادعيتم هذا الأمر بنا ، وخرجتم له بشيعتنا ، وحظيتم بفضلنا ، وان ابانا عليا كان الوصي وكان الإمام ، فكيف ورثتم ولايته وولده احياء !
ثمَّ قد علمت انه لم يطلب هذا الأمر احد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا لسنا من ابناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ، وليس يمت احد من بني هاشم بمثل الذي نمتُّ به من القرابة والسابقة والفضل وانا بنو ام رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة بنت عمرو في الجاهلية وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم .
ان الله اختارنا واختار لنا ، فوالدنا من النبيين محمد صلى الله عليه وآله ومن السلف اولهم إسلاماً علي ، ومن الازواج افضلهن خديجة الطاهرة ، واول من صلى القبلة ، ومن البنات خيرهن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة وان هاشماً ولد عليا مرتين ، وان عبد المطلب ولد حسناً مرتين وان رسول الله صلى الله عليه وآلهولدني مرتين من قبل حسن وحسين ، واني اوسط بني هاشم نسبا ، واصرحهم أبا ، لم تعرق في العجم ، ولم تنازعني امهات الاولاد .
فما زال الله يختار لي الاباء والامهات في الجاهلية والإسلام حتّى اختار لي في النارفأنا ابن ارفع الناس درجة في الجنة ، واهونهم عذابا في النار ، وانا ابن خير الاخيار ، وابن خير الاشرار ، وابن خير أهل الجنة ، وابن خير أهل النار .
ولك الله علىَّ ان دخلت في طاعتي ، واجبت دعوتي أن اؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل امر احدثته ، إلاَّ حدا من حدود الله او حقاًّ لمسلم او معاهد ، فقد علمت ما يلزمك من ذلك ، وانا اولى بالأمر منك واوفى بالعهد ، لانك اعطيتني من العهد والامان من اعطيته رجإلا قبلي ، فأي الامانات تعطيني ! امان ابن هبيرة ، ام امان عمك عبد الله بن علي ، ام امان أبي مسلم !" .
فكتب إليه أبو جعفر :
"بسم الله الرحمن الرحيم . اما بعد ، فقد بلغني كلامك ، وقرأت كتابك ، فإذا جل فخرك بقرابة النساء ، لتضل به الجفاة والغوغاء ، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والاباء ، ولا كالعصبة والاولياء ، لان الله جعل العم أبا ، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا . ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن كانت آمنة اقربهن رحما ، واعظمهن حقا ، واول من يدخل الجنة غدا ، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه لما مضى منهم ، واصطفائه لهم .
واما ما ذكرت من فاطمة ام أبي طالب وولادتها ، فإن الله لم يرزق احدا من ولدها الإسلام لا بنتا ولا ابنا ، ولو ان احدا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله اولاهم بكل خير في الدنيا والاخرة ، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء ، قال الله عز وجل : (انك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو اعلم بالمهتدين) سورة القصص/56 .
ولقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وله عمومة اربعة ، فأنزل الله عز وجل : (وانذر عشيرتك الاقربين) الشعراء /214 . فأنذرهم ودعاهم ، فأجاب اثنان احدهما أبي ، وأبى اثنان احدهما ابوك ، فقطع الله ولايتهما منه ، ولم يجعل بينه وبينهما إلاَّ ولا ذمة ولا ميراثاً .
وزعمت انك ابن اخف أهل النار عذابا وابن خير الاشرار ، وليس في الكفر بالله صغيرولا في عذاب الله خفيف ولا يسير ، وليس في الشر خيار ، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله ان يفخر بالنار ، وسترد فتعلم ، (وسيعلم الذي ظلموا اي منقلب ينقلبون) سورة الشعراء/227 .
واما ما فخرت به من فاطمة ام علي وان هاشماً ولده مرتين ، ومن فاطمة ام حسن ، وان عبد المطلب ولده مرتين ، وان النبي صلى الله عليه وآله ولدك مرتين ، فخير الاولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يلده هاشم إلاَّ مرة ولا عبد المطلب الامرة .
وزعمت انك اوسط بني هاشم نسباً ، اصرحهم اما وابا ، وانه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك امهات الاولاد ، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً ، فانظر ويحك اين انت من الله غداً ! فإنك قد تعديت طوركوفخرت على من هو خير منك نفساً وابا واولاً وآخراً ، وإبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وما خيار بني ابيك خاصة وأهل الفضل منهم إلاَّ بنو امهات اولاد ، وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله افضل من علي بن الحسين ، وهو لام ولد ، ولهو خير من جدك حسن بن حسن ، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علي ، وجدته ام ولد ، ولهو خير من ابيك ، ولا مثل ابنه جعفر وجدته ام ولد ، ولهو خير منك .
واما قولك : انكم بنو رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإن الله تعالى يقول في كتابه : (ما كان محمد ابا احد من رجالكم) سورة الاحزاب/40 . ولكنكم بنو ابنته ، وانها لقرابة قريبة ، ولكنها لاتحوز الميراث ، ولا ترث الولاية ، ولا تجوز لها الامامة ، فكيف تورث بها !
ولقد طلبها ابوك بكل وجه فأخرجها نهاراً ، ومرَّضها سرّاً ، ودفنها ليلا ، فأبى الناس إلاَّ الشيخين وتفضيلهما ، ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين ان الجد أبا الام والخال والخالة لا يرثون .
واما ما فخرت به من علي وسابقته :
فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله الوفاة فأمر غيره بالصلاة ،
ثمَّ اخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه ،
وكان في الستة فتركوه كلهم دفعاً له عنها ، ولم يروا له حقا فيها ،
اما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان ،
وقتل عثمان وهو له متهم ،
وقاتله طلحة والزبير ،
وأبى سعد بيعته واغلق دونه بابه ، ثمَّ بايع معاوية بعده .
ثمَّ طلبها بكل وجه وقاتل عليها ،
وتفرق عنه اصحابه ، وشك فيه شيعته قبل الحكومة ،
ثمَّ حكم حكمين رضي بهما ، واعطاهما عهده وميثاقه ، فاجتمعا على خلعه .
ثمَّ كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز ، واسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر الى غير اهله ، واخذ مالاً من غير ولائه ولا حله ، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه واخذتم ثمنه .
ثمَّ خرج عمك حسين بن علي على ابن مرجانة ، فكان الناس معه عليه حتّى قتلوهواتوا برأسه إليه .
ثمَّ خرجتم على بني امية ، فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل ، واحرقوكم بالنيرانونفوكم من البلدان ، حتّى قتل يحيى بن زيد بخراسان ، وقتلوا رجالكم واسروا الصّبية والنساء ، وحملوهم بلا وطاء في المحافل كالسبي المجلوب إلى الشام ، حتّى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم ، وادركنا بدمائكم واورثناكم ارضهم وديارهم ، وسنينا سلفكم وفضلناه ، فاتخذت ذلك علينا حجة .
وظننت انا انما ذكرنا اباك وفضلناه للتقدمة منا له على حمزة والعباس وجعفر ، وليس ذلك كما ظننت ،
وابتلي ابوك بالقتال والحرب ،
كانت بنو امية تلعنه كما تعلن الكفرة في الصلاة المكتوبة ، فاحتججنا له ، وذكرناهم فضله ، وعنفناهم وظلمناهم بما نالوا منه .
ولقد علمت ان مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحجيج الاعظم ، وولاية زمزم ، فصارت للعباس من بين اخوته ، فنازعنا فيها ابوك ، فقضى لنا عليه عمر ، فلم نـزل نليها في الجاهلية والإسلام ،
ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربه ولم يتقرب إليه إلاَّ بأبينا ، حتّى نعشهم الله وسقاهم الغيث ، وابوك حاضر لم يتوسل به ،
ولقد علمت انه لم يبق احد من بني عبد المطلب بعد النبي صلى الله عليه وآله غيره ، فكان وارثه من عمومته ، ثمَّ طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلاَّ ولده ، فالسقاية سقايته وميراث النبي له ، والخلافة في ولده ، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا اسلام في دنيا ولا آخرة إلاَّ والعباس وارثه ومورثه .
واما ما ذكرت من بدر ، فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله ، وينفق عليهم للأزمة التي اصابته ،
ولو لا ان العباس اخرج إلى بدر كارهاً لمات طالب وعقيل جوعاً ، وللحسا جفان عتبة وشيبة ، ولكنه كان من المطعمين ، فأذهب عنك العار والسبة ، وكفاكم النفقة والمؤونة ، ثمَّ فدى عقيلا يوم بدر ،
فكيف تفخر علينا وقد عُلْناكم في الكفر ، وفديناكم من الاسر ، وحُزنا عليكم مكارم الآباء ، وورثنا دونكم خاتم الانبياء ، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه ، ولم تدركوا لأنفسكم ! والسلام عليك ورحمة الله " .
أقول : وقد نتج عن هذه السياسة الظالمة ان وُضعت اخبار كثيرة جداً لتطويق فكرة الوصية وقد مر بعضها في الفصول السابقة ، وبفعل ذلك بقيت العامة التي تربت على الفكر الاموي محتفظة بولائها لبني امية ولم يستطع المأمون العباسي ان يحول هذا الولاء عن معاوية إلى براءة على الرغم من مضي ثمانين سنة تقريبا من انهيار ملك بني امية ، بل عجز عن ذلك أيضاً المعتضد وفي عهده كان قد مضى على بني امية مأة وخمسون سنة . نعم في سنة 321 هجرية استطاع علي بن بليق في عهد القاهر فرض ذلك ومع ذلك جرت فتنة من قبل العامة .
قال الطبري في حوادث سنة 211 هجـ ان المأمون بعث مناديا فنادى في الناس ببراءة الذمة ممن ترحم على معاوية أو ذكره بخير .. فانكر الناس ذلك واضطربوا ولم ينل مقصوده ففتر إلى وقت
وفي رواية المسعودي : وامر بلعنه على المنابر وانشئت الكتب إلى الافاق بذلك فاعظم الناس ذلك واكبروه واضطربت العامة منه فاشير عليه بترك ذلك
قال الطبري في حوادث سنة (284) فذكر ان المعتضد امر باخراج الكتاب الذي كان المأمون امر بانشائه بلعن معاوية ، ان عبيد الله بن سليمان بن وهب احضر يوسف بن يعقوب القاضي وامره ان يعمل الحيلة في ابطال ما عزم عليه المعتضد فمضى يوسف بن يعقوب فكلم المعتضد وقال له يا أمير المؤمنين اني اخاف ان تضطرب العامة ويكون منها عند سماع هذا الكتاب حركة فقال : ان تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها ، فقال يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيين الذين هم في كل ناحية يخرجون ويميل اليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول ومآثرهم وفي هذا الكتاب اطراؤهم أو كما قال ، وإذا سمع الناس هذا كانوا اليهم اميل وكانوا هم ابسط السنة واثبت حجة منهم اليوم فامسك المعتضد فلم يرد عليه جوابا ولم يأمر في الكتاب بعده بشى .
ومما جاء في هذا الكتاب :
" .. والحمد لله الذي جعل امير المؤمنين وسلفه الراشدين المهتدين ورثة خاتم النبيين وسيد المرسلين والقائمين بالدين ، والمقومين لعباده المؤمنين ، والمستحفظين ودائع الحكمة ، ومواريث النبوةوالمستخلفين في الأمة ، والمنصورين بالعز والمنعة ، والتأييد والغلبة حتّى يظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون .
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة من شبهة قد دخلتهم في اديانهم ، وفساد قد لحقهم في معتقدهم ، وعصبية قد غلبت عليها اهواؤهم ، ونطقت بها السنتهم على غير معرفة ولا روية ، وقلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة ولا بصيرة ، وخالفوا السنن المتبعة ، إلى الاهواء المبتدعة ، قال الله عز وجل : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) القصص/50 ، خروجا عن الجماعة ، ومسارعة إلى الفتنة وايثاراً للفرقة ، وتشتيتاً للكلمة واظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة ، وبتر منه العصمةواخرجه من الملة ، واوجب عليه اللعنة ، وتعظيما لمن صغر الله حقه ، واوهن امرهواضعف ركنه ، من بني امية الشجرة الملعونة ، ومخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكةواسبغ عليهم به النعمة ، من أهل بيت البركة والرحمة ، قال الله عز وجل : (يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) آل عمران/ 74 فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك ، ورأى في ترك انكاره حرجا عليه في الدين ، وفساداً لمن قلده الله امره من المسلمين ، واهمالا لما اوجبه الله عليه ومن تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين واقامة الحجة على الشاكين ، وبسط اليد على العابدين .
وامير المؤمنين يرجع اليكم معشر الناس بأن الله عز وجل لما ابتعث محمداً بدينه وامره ان يصدع بأمره ، بدأ بأهله وعشيرته ، فدعاهم إلى ربه ، وانذرهم وبشرهم ، ونصح لهم وارشدهم ، فكان من استجاب له وصدق قوله واتبع امره نفر يسير من بني ابيه ، من بين مؤمن بما اتى به من ربه ، وبين ناصر له ومن لم يتبع دينه ، اعزازاً له ، واشفاقاً عليه ، لماضي علم الله فيمن اختار منهم ، ونفذت مشيئته فيما يستودعه اياه من خلافته وإرث نبيه ، فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميته ، يدفعون من نابذه ، وينهرون من عارَّه وعانده ، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده ، ويبايعون له من سمح بنصرته ، ويتجسسون له أخبار اعدائه ، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين ، حتّى بلغ المدى ، وحان وقت الاهتداء ، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله ، والايمان به ، بأثبت بصيرة ، واحسن هدى ورغبه ، فجعلهم الله أهل بيت الرحمة ، وأهل البيت الذين - اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا-ً ومعدن الحكمة ، وورثة النبوة وموضع الخلافة ، واوجب لهم الفضيلة ، والزم العباد لهم الطاعة .
وكان ممن عانده ونابذه ، وكذبه وحاربه من عشيرته ، العدد الاكثر ، والسواد الاعظم يتلقونه بالتكذيب والتثريب ، ويقصدونه بالأذية والتخويف ، ويبادونه بالعداوة ، وينصبون له المحاربة ، ويصدون عنه من قصدهوينالون بالتعذيب من اتبعه . واشدهم في ذلك عداوة واعظمهم له مخالفة ، واولهم في كل حرب ومناصبة ، لا يرفع على الإسلام راية إلاَّ كان صاحبها وقائدها ورئيسها ، في كل مواطن الحرب ، من بدر واحد والخندق والفتح .. أبو سفيان بن حرب واشياعه من بني امية ، الملعونين في كتاب الله ، ثمَّ الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدة مواضع ، لماضي علم الله فيهم وفي امرهم ، ونفاقهم وكفر احلامهم ، فحارب مجاهدا ، ودافع مكابداً ، واقام منابذاً حتّى قهره السيف ، وعلا امر الله وهم كارهون ، فتقول بالإسلام غير منطو عليه ، واسر بالكفر غير مقلع عنه ، فعرفه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمونوميز له المؤلفة قلوبهم ، فقبله وولده على علم منه ، .
فمما لعنهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وآله ، وانـزل به كتاباً قوله : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) الإسراء/60 ولا اختلاف بين أحد انه اراد بها بني امية .
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وآله وقد رآه مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به : ((لعن الله القائد والراكب والسائق)) .
ومنه ما يرويه الرواة من قوله (اي ابي سفيان) : يا بني عبد مناف تلقفوها تلقف الكرة فما هناك جنة ولا نار . وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)المائدة/78 .
ومنه ما يروون من وقوفه على ثنية أحد بعد ذهاب بصره ، وقوله لقائده : ها هنا ذببنا محمداً واصحابه .
ومنه الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله فوجم لها ، فما رئي ضاحكاً بعدها ، فأنـزل الله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الإسراء/60 . فذكروا انه رأى نفراً من بني امية ينـزون على منبره .
ومنه طرد رسول الله صلى الله عليه وآله الحكم بن أبي العاص لحكايته اياه ، والحقه الله بدعوة رسوله آية باقية حين رآه يتخلج ، فقال له : (كن كما انت) ، فبقي على ذلك سائر عمره ، إلى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنة كانت في الإسلام ، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها أو اريق بعدها .
ومنه ما انـزل الله على نبيه في سورة القدر : (ليلة القدر خير من الف شهر) من ملك بني امية ..
ومنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله دعا بمعاوية ليكتب بأمره بين يديه ، فدافع بأمره ، واعتل بطعامه ، فقال النبي : (لا اشبع الله بطنه)) ، فبقى لا يشبع ، ويقول : والله ما اترك الطعام شبعاً ، ولكن اعياء ..
ومنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (يطلع من هذا الفج رجل من امتي يحشر على غير ملتي) ، فطلع معاوية .
ومنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : (إذا رايتم معاوية على منبري فاقتلوه) .
ومنه الحديث المرفوع المشهور انه قال : (ان معاوية في تابوت من نار في اسفل درك منها ينادي : يا حنان يا منان . الآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين .
ومنه انبراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكاناً ، واقدمهم إليه سبقا واحسنهم فيه اثراً وذكراً ، علي بن أبي طالب ، ينازعه حقه بباطله ، ويجاهد انصاره بضُلاّله وغواته ، ويحاول ما لم يزل هو وابوه يحاولانه ، من اطفاء نور الله وجحود دينه ، - ويأبى الله إلاَّ ان يتم نوره ولو كره المشركون -يستهوي أهل الغباوة ، ويموه على أهل الجهالة بمكره وبغيه الذين قدم رسول الله صلى الله عليه وآله الخبر عنهما ، فقال لعمّار (تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار) ، مؤثراً للعاجلة ، كافراً بالآجلة ، خارجاً من ربقة الإسلام ، مستحلاً للدم الحرام ، حتّى سفك في فتنته ، وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه ، مجاهداً لله ، مجتهدا في ان يعصى الله فلا يطاع ، وتبطل احكامه فلا تقام ، ويخالف دينه فلا يدان . وان تعلوا كلمة الضلالة ، وترتفع دعوة الباطل ، وكلمة الله هي العليا . ودينه المنصور ، وحكمة المتبع النافذ ، وامره الغالب ، وكيد من حاده المغلوب الداحض ، حتّى احتمل اوزار تلك الحروب وما اتبعها ، وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدهاوسن سنن الفساد التي عليه اثمها واثم من عمل بها إلى يوم القيامة ، واباح المحارم لمن ارتكبها ومنع الحقوق اهلها ، واغتره الاملاء ، واستدرجه الامهال ، والله له بالمرصاد .
ثم مما اوجب الله له به اللعنة ، قتله من قتل صبراً من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والديانة ، مثل عمرو بن الحمق وحجر بن عدي ، فيمن قتل من امثالهم ، في ان تكون له العزة والملك والغلبة ، ولله العزة والملك والقدرة ، والله عز وجل يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء/93 .
ومما استحق به اللعنة من الله ورسوله ادعاؤه زياد بن سمية ، جرأة على الله ، والله يقول : (ادعوهم لآبائهم هو اقسط عند الله) ورسول الله صلى الله عليه وآله ، يقول : (ملعون من ادعى إلى غير ابيه ، أو انتمى إلى غير مواليه) ويقول : (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ، فخالف حكم الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله جهاراً ، وجعل الولد لغير الفراش ، والعاهر لا يضره عهره ، فأدخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في ام حبيبة زوجة النبي وفي غيرها من سفور وجوه ما قد حرمه الله ، واثبت بها قربى قد باعدها الله ، واباح بها ما قدحرمه الله ، مما لم يدخل على الإسلام خلل مثله ، ولم ينل الدين تبديل شبهه .
ومنه ايثاره بدين الله ، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد المتكبر الخمير ، صاحب الديوك والفهود والقرود ، واخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والاخافة والتهدد والرهبة ، وهويعلم سفهه ويطلع على خبثه ورهقه ، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره فلما تمكن منه ما مكنه منه ، ووطأه له ، وعصى الله ورسوله فيه ، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين ، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام اشنع منها ولا افحش ، مما ارتكب من الصالحين فيها ، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله ، وظن ان قد انتقم من اولياء الله وبلغ النوى لأعداء الله ، فقال مجاهراً بكفره ومظهراً لشركه :
ليت اشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل
قد قتلنا القوم من ساداتكم وعدلناه ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لست من خندف ان لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ، ولا وحي نزل
هذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله ، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله .
ثم من اغلظ ما انتهك ، واعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله مع موقعه من رسول الله صلى الله عليه وآله ومكانه منه ومنـزلته من الدين والفضلوشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة ، اجتراء على الله ، وكفراً بدينه ، وعداوة لرسوله ، ومجاهدا لعترته ، واستهانة بحرمته ، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قوماً من كفار أهل الترك والديلم ، لا يخاف من الله نقمة ، ولا يرقب منه سطوة ، فبتر الله عمره ، واجتث اصله وفرعهوسلبه ما تحت يده ، وأعدَّ له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته .
هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل احكامه ، واتخاذ مال الله دولا بينهم ، وهدم بيته ، واستحلال حرامه ، ونصبهم المجانيق عليه ، ورميهم اياه بالنيران ، لايألون له احراقا واخراباً ، ولما حرم الله منه استباحة وانتهاكاً ، ولمن لجأ إليه قتلا وتنكيلا ، ولمن امنه الله به اخافة وتشريداً ، حتّى إذا حقت عليهم كلمة العذاب ، واستحقوا من الله الانتقام ، وملئوا الارض بالجور والعدوان ، وعموا عباد الله بالظلم والاقتسار ، وحلت عليهم السخطة ، ونـزلت بهم من الله السطوة ، اتاح الله لهم من عترة نبيه ، وأهل وراثته من استخلصهم منهم بخلافته مثل ما اتاح الله من اسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين ، فسفك الله بهم دماءهم مرتدين ، كما سفك بآبائهم دماء آباء الكفرة المشركين ، وقطع الله دابر القوم الظالمينوالحمد لله رب العالمين . ومكن الله المستضعفين ، ورد الله الحق إلى اهله المستحقين ، كما قال جل شأنه : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) القصص/5 .
واعلموا ايها الناس ، ان الله عز وجل انما امر ليطاع ، ومثل ليتمثل ، وحكم ليقبل ، والزم الأخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وآله ليتبع ، وان كثيراً ممن ضل فالتوى ، وانتقل من أهل الجهالة والسفاهة ممن اتخذوا احبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، وقد قال الله عز وجل : (فقاتلواائمة الكفر) سورة التوبة /12 .
فانتهوا معاشر الناس عما يسخط الله عليكم ، وراجعوا ما يرضيه عنكم ، وارضوا من الله بما اختار لكم ، والزموا ما امركم به ، وجانبوا مانهاكم عنه ، واتبعوا الصراط المستقيم ، والحجة البينة ، والسبل الواضحة ، وأهل بيت الرحمة ، الذين هداكم الله بهم بديئاً ، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان اخيرا ، واصاركم إلى الخفض والأمن والعز بدولتهم ، وشملكم الصلاح في اديانكم ومعايشكم في أيَّامهم ، والعنوا من لعنه الله ورسوله ، وفارقوا من لا تنالون القربة من الله إلاَّ بمفارقته .
اللهم العن أبا سفيان بن حرب ، ومعاوية ابنه ، ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم وولده ، اللهم العن ائمة الكفر ، وقادة الضلالة ، واعداء الدين ، ومجاهدي الرسول ، ومغيري الاحكامومبدلي الكتاب ، وسفاكي الدم الحرام .
اللهم انا نتبرأ اليك من موالاة اعدائك ، ومن الاغماض لأهل معصيتك ، كما قلت : (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)المجادلة/22 .
يا ايها الناس ، اعرفوا الحق تعرفوا اهله ، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها ، فإنه انما يبين عن الناس اعمالهم ، ويلحقهم بالضلال والصلاح آباؤهم ، فلا يأخذكم في الله لومة لائمولا يميلن بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم ، وطاعة من تخرجكم طاعته إلى معصية ربكم .
ايها الناس ، بنا هداكم الله ، ونحن المستحفظون فيكم امر الله ونحن ورثة رسول الله والقائمون بدين الله ، فقفوا عند ما نقفكم عليه ، وانفذوا لما نأمركم به ، فإنكم ما اطعتم خلفاء الله وائمة الهدى على سبيل الايمان والتقوى ، وأمير المؤمنين يستعصم الله لكم ، ، ويسأله توفيقكم ، ويرغب إلى الله في هدايتكم لرشدكم ، وفي حفظ دينه عليكم ، حتّى تلقوه به مستحقين طاعته ، مستحقين لرحمته ، والله حسب امير المؤمنين فيكم ، وعليه توكله ، وبالله على ما قلده من اموركم استعانته ، ولا حول لأمير المؤمنين ولا قوة إلاَّ بالله والسلام عليكم"
أقول : ويتضح من الكتاب دعوى العباسيين ان أهل بيت النبي الذين اذهب عنهم الرجس هم عموم بنو هاشم وليسوا خصوص علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين عليهم السلام وإذا ضممنا إلى هذا الكتاب ما ذكرناه في هذا الفصل من الرسائل المتبادلة بين محمد بن عبد الله بن الحسن والمنصور وما ذكرناه من خطبة المنصور سابقا نعرف ان خطة بني العباس كانت تستهدف حصر الوراثة الخاصة للنبي بهم وكونهم المصداق الوحيد لآية التطهير
وقال ابن الاثير في حوادث سنة 321 :
أمر علي بن بليق في عهد القاهر بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد على المنابر ببغداد فاضطربت "العامة" ، فاراد علي بن بليق أن يقبض على البربهاري رئيس الحنابلة - وكان يثير الفتن هو وأصحابه - فعلم بذلك فهرب
وقال في حوادث سنة (323هـ) : وعظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم .. فخرج توقيع الراضي بما يقرأ في الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبِّخهم باعتقاد التشبيه وغيره ، فمنه : (تارة أنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين ، وهيئتكم الرذلة على هيئته ، وتذكرون الكفّ والأصابع والرجلين والنعلين المذهَبين ، والشعر القططوالصعود للسماء ، والنـزول إلى الدنيا ، تبارك الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيراً ، ثمَّ طعنكم على خيار الأئمّة ، ونسبتكم شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله إلى الكفر والضلال ، ثمَّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن وإنكاركم زيارة قبور الأئمة ، وتشنيعكم على زوارها بالابتداع ، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف ، ولا نسب ولا سبب برسول الله صلى الله عليه وآله ، وتامرون بزيارته ، وتدعون له معجزات الأنبياء ، وكرامات الأولياء ، فلعن الله شيطانا زين لكم هذه المنكرات ، وما أغواه)
كان ذلك أمر العامة في بغداد ، أما أمرهم في غير بغداد فقدكان أشد وخاصة في دمشق ، حيث استمر أهلها بالطعن على علي عليه السلام والولاء لمعاوية ، كما هو واضح من كلمات النسائي صاحب السنن ، حين سئل عن سبب تاليفه كتاب "الخصائص" قال : "دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير ، وصنفت كتاب "الخصائص" رجاء أن يهديهم الله .
واوضح منه سبب شهادته على أيديهم كما روى ذلك من ترجم له ، ذكروا : أنه خرج من مصر في اخر عمره إلى دمشق فسئل بها عن معاوية وما جاء في فضائله ، فقال : ألايرضى رأساً برأس حتّى يُفضّل ؟ فما زالوا يدفعون في حضنيه "وفي شذرات الذهب : في خصييه" حتّى أخرج من المسجد ثمَّ حمل إلى الرملة فدفن بها سنة (303هـ)
لقد احتفظت العامة في العهد العباسي بولائها لمعاوية وبني امية وبرز فيهم رواة ومصنفون يعنون بالأخبار التي تعتذر لهم أو تثني عليهم ولعلَّ اقدم نص بين ايدينا يشير إلى هذا الاتجاه هو ما ذكره . الطبري في حوادث سنة 30 هجـ قال : (وفي هذه السنة اعني سنة (30 هجـ) كان ما ذكر من امر أبي ذر ومعاوية واشخاص معاوية اياه منها اليها (اي إلى المدينة) امور كثيرة كرهت ذكرها اما العاذرون معاوية في ذلك فانهم ذكروا قصة كتب بها الي السري يذكر ان شعيبا حدثه سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر ...)
ان هذا الجو الفكري والسياسي للقرون الثلاثة الأولى افرز اربعة اصناف من الرواة والمؤلفين الاوائل في التاريخ والسيرة والحديث والتفسير وهم :
1 . رواة ومؤلفون شيعة لأهل البيت . وهؤلاء بعضهم إمامي وبعضهم زيدي وبعضهم اسماعيلي .
2 . رواة ومصنفون يحملون الولاء لبني امية . وهم الذين رفعوا شعار (الصحابة كلهم عدول) .
3 . رواة ومصنفون يحملون الولاء لبني العباس وهم اغلب المعتزلة .
4 . رواة ومصنفون يحملون رأي الخوارج وهم يرفعون شعار الولاء لأبي بكر وعمر خاصة .
______________________
(1) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري حوادث سنة 211 وفوات الوفيات 2/238 والذهبي : سير أعلام النبلاء 10/281 .
(2) المسعودي : مروج الذهب 3/454-455 . قال المسعودي وتنازع الناس في السبب الذي من اجله امر بالنداء في امر معاوية فقيل في ذلك اقاويل : منها ان بعض سماره حدثه بحديث عن مطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي وقد ذكر هذا الخبر الزبير بن بكار تـ 256 في كتابه في الأخبار المعروفة بالموفقيات التي صنفها للموفق وهو ابن الزبير قال سمعت المدائني يقول : قال مطرف بن المغيرة بن شعبة : وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية ، فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثمَّ ينصرف الىَّ فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه ، اذا جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، فرايته مغتما ، فانتظرته ساعة ، وظننت انه لشى حدث فينا او في عملنافقلت له : ما لي اراك مغتما منذ الليلة ؟ قال : يا بني ، ، اني جئت من عند اخبث الناس ، قلت له : وما ذاك ؟ قال : قلت له وقد خلوت به : انك قد بلغت مناك يا امير المؤمنين ، فلو اظهرت عدلاً وبسطت خيراً فانك قد كبرت ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم فوصلت ارحامهم فوالله ما عندهم اليوم شى تخافه ، فقال لي : هيهات هيهات ! ! ملك اخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فوالله ما عدا ان هلك فهلك ذكره الا ان يقول قائل : أبو بكر ، ثمَّ ملك اخو عدي ، فاجتهد وشمر عشر سنين ، فوالله ما عدا ان هلك فهلك ذكره ، الا ان يقول قائل : عمر ، ثمَّ ملك اخونا عثمان فملك رجل لم يكن احد في مثل نسبه ، فعمل ما عمل وعمل به فوالله ما عدا ان هلك فهلك ذكره ، وذكر ما فعل به ، وان اخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات : اشهد ان محمدا رسول الله فأي عمل يبقى مع هذا ؟ لا ام لك ، والله الا دفنا دفنا .
قال البدري : وقول المسعودي (هو ابن الزبير) يريد ان الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام .
(3) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري ج دار المعارف ج10/59-62 .
(4) ويدخل في هذا السياق أيضاً شعر ابن المعتز في ديوانه الذي يبين موقف العباسيين من الطالبيين .
(5) ابن الاثير : الكامل في التاريخ 8 : 308 . وعاش البربهاري سبعاً وسبعين سنة وتوفي سنة 328هـ وكان معاصراً لابن جرير الطبري .
(6) ابن الاثير : الكامل في التاريخ 8 : 307 .
(7) الذهبي : سير أعلام النبلاء ، ابن حجر : تهذيب التهذيب .
(8) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري 4/283 .