موقف بني عامر

قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري أنه قال : أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فِراس : والله ، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ، قال : فيقال له : أفنهدِف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه .

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم ، قد كانت أدركته السِّن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدَّثوه بما يكون في ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عمّا كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ، ثم أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبي ، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا ، قال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بني عامر ، هل لها من تَلاف ؟ هل لِذُناباها (1) من مُطَّلب ؟ والذي نفس فلان بيده ، ما تقوَّلها إسماعيلي قط (2) وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم ؟

قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي :

قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ، على ما يرى من قومه ، يبذل لهم النّصيحة ، ويدعوهم إلى النّجاة مما هم فيه . وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذِّرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب .

وكان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدِّث : أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وآله بهافمشى إليه رجال من قريش ، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً ، فقالوا له : يا طفيل ، إنّك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل (3) بنا ، وقد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسِّحر يفرق بين الرجل وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه ، وبين الرجل وبين زوجته ، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئاً .

قال : فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه ، حتى حشوت في أذنىّ حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً (4) فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه .

قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله قائم يصلي عند الكعبة . قال : فقمت منه قريباً ، فأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله ، قال : فسمعت كلاماً حسناً قال فقلت في نفسي : واثكل أمي ، والله إنّي لرجل لبيب شاعر وما يخفى علىَّ الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ! فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته ، وإن كان قبيحاً تركته .

قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا ، للذي قالوافوالله ما برحوا يخوِّفونني أمرك حتى سددت أذني بكُرْسُف لئلاّ أسمع قولك ، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك ، فسمعته قولاً حسناً ، فاعرِض علىَّ أمرك . قال : فعرض علىَّ رسول الله صلى الله عليه وآله الإسلام ، وتلا علىَّ القرآن ، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه . قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق (5) .

قصة أعشى بني قيس بن ثعلبة:

 قال ابن هشام : حدثني خَلّاد بن قُرَّة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم : أن أعشى بني قيس بن ثعلبة ، خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يريد الإسلام ، فلما كان بمكة أو قريباً منها ، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره ، فأخبره أنَّه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وآله ليُسْلِم ، فقال له : يا أبا بصيرإنَّه يحرِّم الزنا ، فقال الأعشى : والله إنَّ ذلك لأمر ما لي فيه من أرب ، فقال له : يا أبا بصير ، فإنه يحرِّم الخمر ، فقال الأعشى : أمّا هذه فوالله إنَّ في النّفس منها لعلالات (6) ، ولكنّي منصرف فأتروّى (7) منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم ، فانصرف فمات في عامه ذلك ، ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله (8) .

______________________

(1) ذناب الشيء نهايته . أي هل يمكنكم تدارك الامر ؟

(2) هذا الخبر يفيد عدم وجود من يدعي النبوة صادقا او كاذبا في بني اسماعيل قبل دعوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)وبهذا وبغيره كما في قصة دعوة ابراهيم واسماعيل عند رفع القواعد من البيت يتضح عدم صحة الخبر عن نبوة خالد بن سنان العبسي العدناني وان النبي (صلى الله عليه وآله) قال فيه : ذلك نبي أضاعه قومه ، ولا حنظلة الذي ذكروه انه من ذرية اسماعيل انظر ذكر هذين النبيين المزعومين في مروج الذهب ج1 ص78 وتاريخ ابن كثير ج2 ص271 والسيرة الحلبية ج1 ص21 وتاريخ ابن الاثير وتاريخ الخميس والبحار ج14 ص345.

(3) اي ضاقت بنا الحيلة في امره .

(4) هو القطن .

(5) سيرة ابن هشام ج2 ص226 .

(6) أي بقايا .

(7) اي اشبع .

(8) سيرة ابن هشام ج2 ص229 .