غزوة بدر
وهي الوقعة العظيمة التي فَرَّق الله تعالى فيها بين الحق والباطل ، وأَعَزَّ الإسلام ودَمَغَ (1) الكفر وأهله .
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة في ليال مضت من شهر رمضان في ثلاثمائة رجل وخمسة نفر ، يطلب عِيرَ قريش التي عادت من الشام ، ثم بلغه أنَّ قريشاً خرجت ليمنعوا عِيرَهم ، فاستشار النبي صلى الله عليه وآله الناس لانّه لم يكن قد خرج بهم للقتال وإنما لطلب العِير .
كلام عمر وأبي بكر في بدر: فقام عُمَر فقال : يا رسول الله إنها قريش وعِزُّها والله ما ذَلَّت مذ عَزَّت ، ولا آمنت مذ كفرت ، والله لتقاتلَنَّك فاتَّهِب لذلك أُهْبَتَه وأَعِدّ لذلك عُدَّتَه (2) . فأَعْرَض عنه رسولُ الله صلى الله عليه وآله ، ثم قام أبو بكر فقال فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله (3) .
كلام المقداد : ثم قام المقداد بن عمرو الكندي فقال : يا رسول الله اِمْضِ لِما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون) ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مُقاتلون ، والذي بعثك بالحق لو سِرْتَ بنا إلى بَرْك الغُماد (4) لجالدنا (5) معك من دونه حتى نبلغه فقال له رسول الله خيراً ودعا له به (6) .
قال عبد الله (بن مسعود) : لقد شَهِدْتُ من المُقداد مشهداً لإنْ أكون صاحبَه أحبُّ إلىَّ مما عُدِلَ به ، أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يدعو على المشركين فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله أشْرَق وجهه وَسَرَّه ذاك (7) .
كلام سعد بن معاذ: ثم قال : اشيروا أيّها الناس فقام سعد بن معاذ فقال : كأنَّك يا رسول الله تُريدُنا ! قال : أجل ، فقال : إنَّك عسى أن تكون قد خرجت عن أمر قد أُوحي إليك في غيره ... فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لَخُضناه معك ما بقىَ منّا رجل ... وما نكره أن نلقى عدوَّنا ، إنّا لَصُبُرٌ (8) عند الحرب ، صُدُقٌ (9) في اللقاء ، لعلّ الله يريك منّا بعض ما تَقِرُّ به عيناك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : سيروا على بركة الله ، فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لَكَأنّي انظر إلى مصارع القوم ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه على القَليب (10) ببدر .
وكانت قريش قد خرجت في تسعمائة وخمسين مقاتلاً ، ومعهم القِيان (11)والدِّفاف (12) يغنين .
مبارزة علي عليه السلام وحمزة وعبيدة: روى علي بن إبراهيم بسنده إلى أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لما أصبح الناس يوم بدر اصطفّت قريش أمامها عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد ، فنادى عتبة رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا محمد أَخرِج إلينا أَكْفاءَنا من قريش ، فَبَدَر إليهم ثلاثة من شبان الأنصار ، فقال لهم عتبة : من أنتم؟ فانتسبوا له ، فقال : لهم لا حاجة بنا إلى مبارزتكم ، إنَّما طلبنا بني عمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصار : ارجعوا إلى مواقعكم ، ثم قال : يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة قاتلوا على حقِّكم الذي بعث الله نبيَّكم إذ جاؤا بباطلهم ليُطفِئوا نور الله ، فقاموا (13) ، فقتل علي الوليد ، وجاء فوجد حمزة معتنقاً شيبة بعد أن تَثَلَّمَت في أيديهما السيوف فقال : يا عَمّ طأْطِئْ رأسك وكان حمزة طويلاً فادخل رأسه في صدر شيبة فاعترضه علي بالسيف فطيَّر نصفه ، وكان عتبة قد قطع رجل عُبيدة وفَلَقَ عبيدة هامته (14) فجاء علي فأَجْهَزَ على عتبة أيضاً فيكون علي عليه السلام قد شَرِك في قتل الثلاثة (15) .
وكانت هند بنت عتبة وأخت الوليد تقول :
ما كان لي عن عتبة من صبر
أخي الذي كان كضوء البدر
أبي وعمي وشقيق صدري
بهم كسرت يا علىُّ ظهري (16)
وحمل حمزة وعلي عليه السلام عبيدة بن الحارث وأَتَيَا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فاستعبر وقال : يا رسول الله ألست شهيداً ؟ قال : بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي وقال عبيدة : يا رسول الله ليت أبا طالب حي حتى يرى مصداق قوله :
كذبتم وبيتِ الله نُبزى محمداً
ولما نطاعن دونه ونُناضلِ
ونُسلِمُه حتى نُصرَّع حوله
ونُذْهَل عن أبنائنا والحلائل
وحُمِلَ عبيدة فمات بالصفراء ودفن بها ، وعبيدة يومئذ ابن ثلاث وستين سنة (17) .
شجاعة علي عليه السلام : كان لعلي عليه السلام الدور الأساس في معركة بدر (18) حيث كان نصف القتلى تقريباً بسيفه وقد ذكر الواقدي أسماء تسعة وأربعين رجلاً ممن قُتِل في بدر من المشركين ونصَّ على أنَّ من قتله منهم أمير المؤمنين علي عليه السلام وشرك في قتله اثنان وعشرون رجلاً (19) .
وقال بعضهم إنَّ أهل الغزوات أجمعوا على أنَّ جُملة من قُتِل يوم بدر سبعون رجلاً قتل علي منهم إحدى وعشرين نسمة باتفاق الناقلين وأربعة شاركه فيهم غيره ، وثمانية مختلف فيهم (20) .
وعن أبي نعيم قال : طلب معاوية من رجل حضر بدراً أن يصف علياً فيها قال : رأيته غلاماً شاباً ليثاً عبقريّاً (21) يفري الفَرْيَ (22) لا يثبت له أحد إلاّ قتله ولا يضرب شيئاً إلاّ هتكه ... وكأنَّ له عينين في قَفاه وكان وُثوبُه (23) وثوبَ وحش (24) .
وبسبب ذلك صار علي عليه السلام هدفاً لشعراء قريش يحرِّضون على قتله ومن ذلك شعر أُسيْد بن أبي أياس يحرض مشركي قريش على علي عليه السلام قال :
في كل مجمع غاية أخزاكم
جِذْعٌ أبرُّ على المذاكي القُرَّحِ
لله دَرُّكُمُ أَلَمّا تُنكِروا ؟
قد يُنكِرُ الُحرُّ الكريمُ ويستحي
هذا ابنُ فاطمةَ الذي أفناكُمُ
ذبحاً وقتلاً قعصةً لم يُذبَحِ
أعطوه خرجاً واتقوا تضريبه
فعل الذليل وبيعةً لم تربح
أين الكهول وأين كل دعامة
في المعضلات وأين زين الأبطح
أفناهمُ قعصاً وضرباً يفتري
بالسيف يعمل حدُّه لم يصفح(25)
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن تُطرح قتلى المشركين في القليب (26) فطُرحوا فيها ، ووقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله ونادى أهل القليب رجلاً رجلاً : هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإنِّي وجدت ما وعدني ربّي حقاً (27) فقال له عُمَر : يا رسول الله أتُنادي قوماً قد ماتوا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني (28) .
وكان عدد الأسرى سبعين فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام بقتل رجلين من الأسارى وهما عقبة بن أبي معيط والنّضر بن الحارث ، وأخذ الفِداء من ثمانية وستين رجلاً (29) . وكان فيهم من لا مالَ له ولكنّه يكتب ولم يكن في الأنصار من يحسن الكتابة فَقَبِل من الأسير الذي لا مالَ له أن يعلِّم عشرة من أولاد الأنصار الكتابة (30) .
وكان جميع من قُتِل من المسلمين ببدر أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار .
قال محمد بن إسحاق : وحدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام : أنّ رسول الله التقى والمشركون ببدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان (31) .
وتلقى الناس رسول الله صلى الله عليه وآله بالرَّوْحاء (32) يُهنِّئونه بفتح الله ، وأسلم حينئذ بشر كثير من أهل المدينة (33) .
ما نزل ببدر من القرآن : قال ابن إسحاق : فلما انقضى أمر بدر أنزل الله عزوجل فيه من القرآن الأنفال بأسرها (34) .
منها قوله تعالى : (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)) الأنفال/5-8 .
الايات تفيد أنَّ قسما من الصحابة كان كارها لحرب قريش مع وضوح مبرراتها . ومع وعد الله تعالى باحد امرين اما القافلة واما النصر في القتال فهم لم يكونوا يودون القتال .
وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)) الأنفال/41-44 .
أقول : ومما نزل في بدر أيضاً قوله تعالى (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَار يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيد (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمّ
أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيم (25)) الحج/19-25 .
قال قيس بن عباد في قوله تعالى (هذان خصمان اختصموا في ربهم) قال : هم الذين تبارزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة و أبو عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ، وعن علي عليه السلام أنّه قال : أنا أول من يجثو (35) بين يـدي الرحمن للخصومة يوم القيامة (36) .
|