السنة السادسة من الهجرة
صلح الحديبية

رأى رسول الله صلى الله عليه وآله في النوم أنَّه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ مفتاح البيت وعرَّف مع المعرِّفين (1) ، فخرج للعمرة معه ألف وأربعمائة من أصحابه في هلال ذي العقدة سنة ست ، فمنعته قريش من دخول مكة عنوة (2) ، فأقام في الحديبية (3) ، ثم جرت الرسل والسفراء بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين كفار قريش وطال التراجع (4)والتنازع (5) ،

ثم أن قريشاً بعثت سهيل بن عمرو العامري وحويطبا فولوهم صلحهم وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله علياً في صلحه (6) .

وكتب علي عليه السلام الصلح بخطه (7) : أنهم اصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين على أن يكُفَّ بعضهم عن بعض ، وعلى أنه لا إسلال (8) ولا إغلال (9) ، وأنَّ بيننا وبينهم عَيْبَةٌ مكفوفة (10) وأن من أحبَّ أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل وانّه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وأنَّه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه ردَّه محمد إليه ، وأنَّه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يردوه وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة لا يُكرَه أحد على دينه ولا يُؤذى ولا يُعَيَّروأنَّ محمداً يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه ثم يدخل عليهم في العام القابل مكة فيقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخل عليها إلا بسلاح المسافر ، السيوف في القرب (11) .

وفي الحديبية أخذ النبي صلى الله عليه وآله بضَبْعِ (12) علي عليه السلام كما في رواية جابر الانصاريوهو يقول : هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ، ثم مَدَّ بها صوته وقال : أنا مدينة العلم وعلىٌ بابها ، فمن أراد الدار فليأت الباب (13) .

موقف عمر بن الخطاب من الصلح: وعَظُمَ الصلح على نَفَر من المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام (14) .

جعل عمر بن الخطاب يرُدُّ على رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام (15) يقول : عَلامَ نعطي الدَّنِيَّةَ في ديننا ؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : أنا رسول الله ولن يضيِّعَني ، فقال : أولستَ كنتَ تحدِّثُنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، فأخبرتك أنّا نأتيه هذا العام ؟ قال : لا ، قال صلى الله عليه وآله : فإنّك آتيه ومطوِّف به (16) .

قال عمر : ارتبت ارتياباً لم ارتبه منذ أسلمت إلاّ يومئذ ، وراجعت النبي صلى الله عليه وآله يومئذن مراجعة ما راجعته (17) مثلها قط ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعة (18) ، (وفي رواية مأة على مثل رأيي) تخرج عنهم رغبةً عن القضية لخرجت (19) .

ثم أمر رسول الله المسلمين أن يحلِقوا وينحَروا هَدْيَهم في الحِلّ ، فحلق رجال وقصَّرَ آخرون (20) منهم عثمان بن عفان (21) .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يرحم الله المحلِّقين . قالوا : والمقصِّرين يا رسول الله ؟ قال : يرحم الله المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : يرحم الله المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال عليه السلام : والمقصرين ، قالوا : يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين (22) دون المقصرين ؟ قال عليه السلام : لأنَّهم لم يشكُّوا (23) . قال مالك بن ربيعة : وأنا محلوق يومئذ فما سرَّني حمر النَّعم أو خطر عظيم (24) .

وانصرف الرسول صلى الله عليه وآله إلى المدينة .

روى البخاري أنَّ عمر بن الخطاب كان يسير مع النبي صلى الله عليه وآله ليلاً فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يُجِبْهُ رسول الله صلى الله عليه وآله ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر : ثكلتك أُمّك يا عمر نَزَرْتَ (25) رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبُك ، قال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمتُ أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فىَّ قرآن ، فما نَشِبْتُ (26) أن سمعت صارخاً يصرُخ بي قال : لقد خشيت أن يكون نزل فىَّ قرآن ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسلمت عليه ، فقال : لقد أُنزِلت علىَّ الليلة سورة لَهِيَ أحبُّ إلىّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (27) .

قال مُجَمِّع بن جارية : شهدت الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله فلما انصرفنا عنها إذ الناس يوجِفون (28) الأباعر (29) فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : فخرجنا نوجِف مع الناس حتى وجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله واقفا عند كُراع الغَميم (30) ، فلما اجتمع إليه بعض من يريد من الناس قرأ عليهم (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) ، قال رجل من أصحاب محمد : يا رسول الله أو فتح هو ؟ قال : أي والذي نفسي بيده إنّه لفتح (31) .

قال ابن عُقْبَة : وأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، ما هذا بفتح ، لقد صُدِدْنا (32) عن البيت وصُدَّ هَدْيُنا وردَّ رسول الله صلى الله عليه وآله رجلين من المسلمين كانا خرجا إليه ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله قول اولئك فقال : بئس الكلام بل هو أعظم الفتح لقد رضىَ المشركون أن يدفعوكم بالراحة عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان .  . وردَّكم الله سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح (33) ... ثم أقبل على عمر وقال : أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ؟ أنسيتم يوم الأحزاب (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونا) الأحزاب/10 ؟ فقال المسلمون : صدق الله ورسوله ، يا نبي الله ما فكَّرنا فيما فكَّرت فيه ولأنت أعلم بالله وأمره منّا (34) .

بيعة الشجرة (بيعة الرضوان): قال سَلَمة بن الأكْوَع : بينما نحن قافِلون (35) من الحديبية نادى منادي النبي صلى الله عليه وآله : أيها الناس البيعة ، البيعة ، قال : فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو تحت شجرة سَمُرة (36) فبايعناه ، وذلك قول الله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الفتح/18 (37) .

قال علي بن إبراهيم : واشترط عليهم أن لا ينكروا بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً يفعله ولا يخالفوه في شيء أمرهم به (38) (39) .

وروى ابن سعد عن نافع قال : كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان فيصلون عندها فبلغ ذلك عُمَر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت (40) وكان ذلك في زمن خلافة عمر .

ما نزل من القرآن في الحديبية: ومما نزل من القرآن في أمر الحديبية قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)) الفتح/1-6 .

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْم لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا(27)) الفتح/24-27 .

______________________

(1) تفسير علي بن ابراهيم القمي ج2 ص309 ، الامتاع ص274 ، مغازي الواقدي ج2 ص572 .

(2) العنوة : القهر .

(3) أنساب الأشراف ج1 ص351 .

(4) اي المناقشة .

(5) الدرر لابن عبد البر ج1 ص193 .

(6) تاريخ الطبري ج2 ص630 .

(7) في مصنف عبد الرزاق ج5 ص343 الحديث رقم 9721 عن عكرمة بن عمار قال : اخبرنا ابو زميل سماك الحنفي انه سمع ابن عباس يقول : كاتب الكتاب يوم الحديبية علي بن ابي طالب وقال معمر : سألت عنه الزهري فضحك وقال : هو علي ولو سألت عنه هؤلاء (يعني بني أمية) لقالوا : عثمان .

(8) السرقة الخفية .

(9) الخيانة .

(10) أي صدرا نقيا منطويا على الوفاء ، والعرب تكني عن الصدر بالعيبة وهي مايوضع فيها الثياب لصيانتها ،

(11) تفسير علي بن ابراهيم القمي ج2 ص313 ، أنساب الأشراف ج1 ص350 .

(12) هو وسط العضد بلحمه او هوالعَضُد .

(13) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء ج1 ص192 عن احمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب قال عنه : كان بسر من رأى يضع الحديث ورواه ابن حبان في المجروحين عن احمد أيضاً وقال عنه : يروي عن عبد الرزاق والثقات الأوابد والطامات . أقول : ديدن علماء الجرح والتعديل من العامة اتهامهم الراوي حين ينفرد برواية فضيلة لأهل البيت بالكذب والوضع . والاوابد جمع آبدة وهي الغريبة من الكلام . والطامة الداهية التي تغلب ما سواها وهي هنا كناية عن الكذبة الكبيرة .

(14) الدرر ج1 ص193 .

(15) مغازي الواقدي ج2 ص606 .

(16) البخاريج2 ص978 حديث 2581 كتاب الشروط .

(17) يريد انه كان يرد عليه الكلام ولا يقبل منه .

(18) اي انصارا ومؤيدين لرأيي

(19) مغازي الواقدي ج2 ص607 . أي لوجدت اناسا يؤيدوني لتركنا الصلح وتمردنا على النبي (صلى الله عليه وآله) .

(20) البداية والنهاية ج4 ص169 .

(21) طبقات ابن سعد ج2 ص104 ومسند احمد ج3 ص89 حديث 11865 .

(22) اي لم قويت جانب المحلقين بالترحم عليهم دون المقصرين .

(23) تاريخ الطبري ج2 : 637 ، البداية والنهاية ج4 ص169 ، مسند احمد ج1 ص353 حديث 3311 .

(24) طبقات ابن سعد ج2 ص124 .

(25) اي الحَّ عليه ليكلمه فلم يكلمه واعرض عنه .

(26) اي ما لبثتُ .

(27) البداية والنهاية ج4 ص176 الإمتاع ص302 .

(28) اي يحثون الاباعر لتسرع في السير .

(29) أوجف دابّته : إذا حثها على السير (لسان العرب) .

(30) اسم موضع بين مكة والمدينة .

(31) صحيح البخاري بحاشية السندي ج2 ص 206 ، طبقات ابن سعد ج2 ص105 .

(32) صُدَّ عن البيت : اي منع من دخوله .

(33) عيون الاثر لابن سيد الناس ج2 ص123 .

(34) الإمتاع ص295ـ296 .

(35) اي راجعون.

(36) نوع من الشجر يستفاد من خشبة في تسقيف البيوت .

(37) تاريخ الطبري 2 : ص121 .

(38) تفسير علي بن إبراهيم ج2 ص315 .

(39) أقول : إنَّ الاتجاه العام لروايات صلح الحديبية يفيد ان البيعة كانت قبل رجوعهم من الحديبية وانها كانت للقتال لما اشيع ان قريشاً قتلت عثمان رسول النبي (صلى الله عليه وآله) اليهم وكان النبي قد بعثه ليخبرهم انه لم يجي للحرب بل جاء لاداء الحج ، وبخلاف روايات اصحاب السير جاءت رواية علي ابن إبراهيم في تفسيره التي تفيد ان البيعة كانت بعد ابرام الصلح ورجوع النبي (صلى الله عليه وآله)من الحديبية والهدف هو تصحيح إيمان المسلين بالنبي (صلى الله عليه وآله) على أن لا يناقشوه في شيء يُبيِّنه من أمر الدين ولكنهم لم يفوا بتلك البيعة حيث ناقشوه في أمر حجّة التّمتع كما سيأتي وقد ذكر الطبري في تاريخه ان السورة انما نزل بعد الرجوع من الحديبية وفي هذا تاييد لرواية علي بن ابراهيم .

(40) عيون الاثر ج2 ص124 .