حجة الوداع

لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله ذو القعدة من سنة عشر تجهز بالحج ، وأمر الناس بالجهاز له ، وخرج لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، واستعمل على المدينة أبا دُجانة الساعدي (1) .

وفي سَرَف التي تبعد ستة أميال أو أكثر من مكة بَلَّغ النبي صلى الله عليه وآله عامّة أصحابه أن من أحب أن يجعلها عُمْرة فليفعل ، وكرَّر ذلك حين وصل الى بطحاء (2) مكة .

قال ابن عباس : قدم لأربع مضين من ذي الحجة فصلى بنا الصبح بالبطحاء ثم قال : من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها .

ولما أتمُّوا الطواف والسعي ، أمر أصحابه من كان منهم أهلَّ بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عُمْرة ، وقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سُقْتُ الهَدْي ، ولكنّي لَبَّدْتُ (3) رأسي وسُقت هديي فليس مُحل إلاّ مُحل هديي فقام إليه سراقة بن مالك فقال : يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم ولدوا اليوم ، اعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : بل للأبد ، دخلت العُمْرة في الحج إلى يوم القيامة (4) .

قال جابر : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أحِلّوا من إحرامكم .  . وأقيموا حُلاّلاً حتى إذا كان يوم التروية (5) فأهِلُّوا بالحج واجعلوا الذي قدمتم متعة (أي عُمْرة التَّمَتُّع) قالوا : كيف تجعلها متعة وقد سمينا الحج ؟ قال : افعلوا ما آمُركم به (6) .

فتَعاظم ذلك عندهم (7) ، وفَشَت في ذلك القالَةُ (8) فقالوا : ننطلق إلى مِنى وذَكَرُ أحدنا يَقطُر مَنِيّاً (9) .

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقام خطيباً ، فقال : بلغني أن أقواماً يقولون كذا وكذاوالله لأنا أبَرُّ وأتْقى لله منهم (10) .

قالت عائشة : دخل النبي علىَّ وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك يا رسول الله ؟ أدخله الله النار ، قال : أو ما شَعَرتِ أنّي أمرتُ الناس بأمر فإذا هم يَتَرَدَّدون (11) .

قال جابر : فحلَلَنا حتى وَطِِئنا (12) النساء ، وفعلنا ما يفعل الحُلاّل (13) حتى إذا كان يوم التروية أهْلَلْنا بالحج (14) .

وقدم علي عليه السلام من اليمن ورسول الله صلى الله عليه وآله مُنيخٌ بالبطحاء خارج مكة ، ووجد زوجته فاطمة عليها السلام قد حلَّت كما حلَّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله والذين لم يسوقوا الهدي واكتحلت ولبست ثياباً صبيغاً ، فقال : من أمرك بهذا ؟ قالت : أبي ! فذهب محرِّشاً (15)عليها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره ، فقال صلى الله عليه وآله : صدقت ، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وآله : بم أهللت حين أوجبت الحج ؟ قال : بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وآله قا ل : فإنَّ معي الهدي فلا تَحِل . فكان جماعة الهدي الذي جاء به علي من اليمن والذي أتي به رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة واشتراه في الطريق مائة من الإبل ، واشتركا في الهدي جميعاً (16) .

وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس وكان يوم التروية يوم الجمعة ، وركب حين زاغت الشمس في يوم التروية بعد أن طاف بالبيت أسبوعاً (17) ، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى . ووقف بالِهضاب (18)من عرفة ، وكل عرفة موقف إلاّ بطن عُرَنَة (19) ، وقف على راحلته حتى غربت الشمس يدعو ، ثم قال : أيُّها الناس إنَّ الله تطوَّل عليكم في هذا اليوم فغَفَر لكم إلاّ التبِعات فيما بينكم ... فادفعوا (20) باسم الله .

وكان أهل الجاهلية يدفعون في عرفة إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كهيئة العمائم على رؤوس الرجال ، وظنت قريش أنه صلى الله عليه وآله يدفَع كذلك ، فأخر دَفعَه حتى غربت الشمس ، ثم سار عشية من عرفة إلى مزدلفة ، وكان يقول بيده اليمنى : أيها الناس السكينة السكينة ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين وحمل الحصى من المزدلفة ودفع من جُمْع (21) بعد أن طلعت الشمس على ثَبير (22) ، وأوضع (23) في وادي محسِّر (24) ، ورمى جمرة العقبة يوم النحر ، ولما انتهى إلى المَنحر قال : هذا المنحر وكل مِنى مَنحر (25) .

ونحر رسول الله صلى الله عليه وآله بيده الكريمة ثلاثاً وستين بُدنة ، ثم أعطى علياً عليه السلام فنحر ما غَبَرَ (26) ، وأشركه في هديه .

وقال عرفة بن الحارث : شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وأُتِيَ بالبُدْن (27) فقال : ادع لي أبا الحسن فدُعِيَ له علي عليه السلام ، فقال : خذ بأسفل الحَرْبَة (28) ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بأعلاها ، ثم طعنا البدن فلما فرغ ركب بغلته وأردف (29) عليا (30) ، ثم حلق صلى الله عليه وآله وأفاض إلى البيت فطاف وصلى ثم سعى بين الصفا والمروة ثم رجع إلى منى فمكث بها أيام التشريق (31)يرمي الجمرة .

______________________

(1) الدرر ج1 ص259 .

(2) البطحاء : أرض منبسطة فيها حصى صغير يسيل فيها ماء المطر عند نزوله .

(3) اي التلبيد : الحفاظ على الشعر لئلا يشعث في الاحرام .

(4) سنن البيهقي ج4 ص352 .

(5) هو اليوم الثامن من ذي الحجة سمي يوم التروية لان الناس يتروون فيه من الماء (أي يتزودون فيه من الماء)قبل ذهابهم الى عرفة .

(6) صحيح البخاري ، باب التمتع والاقران والافراد بالحج .

(7) صحيح مسلم باب جواز العمرة ج2 ص909 .

(8) صحيح البخاري كتاب الشركة باب الاشتراك في الهدي ج2 ص885 . فشت : انتشرت ، القالة : الكلام الرديء .

(9) صحيح البخاري كتاب التمني باب لو استقبلت من امريج6 ص2641 ، وإعلام الورى ج1 ص261 ينسب ذلك إلى رجل من بني عدي وان النبي (صلى الله عليه وآله) قال له : انك لن تؤمن بها حتى تموت ، والذي يبدو من مجموع امور انه عمر بن الخطاب ، فقد نهى المسلمين عن متعة الحج في خلافته انظر مقدمة مرآة العقول ج1 ص221 .

(10) صحيح البخاري كتاب الشركة باب الاشتراك في الهدي .

(11) صحيح مسلم ج2 ص879 .

(12) وطِي المرأة : نكحها .

(13) جمع مُحِلّ عكس محرم .

(14) صحيح مسلم ج2 ص882 . الاهلال : رفع الصوت بالتلبية .

(15) التحريش : اغراؤك انسانا بغيره ، أي ذهب يعرض حال فاطمة عليها السلام ويستفسر عن الحل .

(16) الدرر لابن عبد البر ج1 ص262 . اقول : امره (صلى الله عليه وآله) بعدم الحل لان عليا كان قد ساق الهدى ايضا .

(17) اي سبعا .

(18) الهضبة هي الجبل المنبسط على الارض ، وهضاب عرفة هي اراضيها المنبسطة .

(19) وادي بحِذاء عرفات بها مسجد عرفات .

(20) اي اخرجوا كلكم من عرفة الى مزدلفة . الدَّفعة : انتهاء قوم الى موضع بمرة .

(21) أي المزدلفة .

(22) سلسلة جبال منى .

(23) ضرب من سير الابل وهو دون الشِّدَّة .

(24) وادي بين مزدلفة ومنى .

(25) الإمتاع للمقريزي ص526 ، السيرة النبوية لابن كثير .

(26) اي ما بقي غَبَرَ الشيء يغبُر بقي يبقى .

(27) جمع بَدَنَة : وهي الهدي والاضاحي .

(28) الالة دون الرمح .

(29) اي اركبه خلفه على الدابة .

(30) السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص376 .

(31) هي ثلاثة ايام بعد يوم النحر ، وسميت كذلك لانهم كانوا يشرِّقون اللحم فَيَعلُ الشمس أي يشرِّرونه .