شبهات وردود ـ الحلقة الثانية

محتويات الحلقة الثانية

«صفحة 139»

 

الحلقة الثانية ـ الرد على الشبهات التي أثارتها نشرة الشورى حول النص على الإمام علي (عليه السلام)

 

«صفحة 140»

 

«صفحة 141»

مقدمة الطبعة الثانية

صدرت الطبعة الأولى من هذه الحلقة في رجب الأصب سنة 1417 هـ. ق وتلقتها الأوساط العلمية والثقافية بالرضا والقبول، وكانت قد انطوت على اخطاء طباعية استدركتها فى هذه الطبعة مع أضافات وإعادة صياغة بعض المطالب مع اضافة فصل خاص رددت فيه على شبهات الدكتور الشرقاوي المنشورة في العدد الخامس من نشرة الشورى، أرجو ان تنال رضا القارئ الكريم.

المؤلف

شوال / 1417 هـ. ق

«صفحة 142»

«صفحة 143»

المقدمة

وبعد فهذه الحلقة الثانية من شبهات وردود وقد كرستها لشبهات أثارتها نشرة الشورى حول النص على علي (عليه السلام)، وكانت أهم هذه الشبهات هي:

انه لو كان هناك ثمة نص على علي (عليه السلام) لاحتج به علي (عليه السلام) نفسه! !

وانه لو كان هناك نص فان الصحابة اكبر من ان يتصور في حقهم انهم يخالفون النبي (صلى الله عليه وآله)! !

وانه لو كان هناك نص فلماذا بايع علي (عليه السلام) الخلفاء الثلاثة برضاه! !

وقد عنيت هذه الحلقة بشكل خاص باحتجاج علي (عليه السلام) بحديث الغدير، وبإبراز شاهد لمخالفة الصحابة للنص تتفق عليه مصادر السنة والشيعة بل ان تفاصيله في كتب السنة اكثر بكثير مما ذكر في كتب الشيعة وهو موقف الصحابة من حج التمتع سواء أثناء تبليغ النبي (صلى الله عليه وآله) له أو بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) حيث تجمع المصادر السنية فضلا عن الشيعية ان الصحابة وبخاصة القرشيين منهم استنكروا على النبي (صلى الله عليه وآله) أمر متعة الحج وناقشوه عليها وأغضبوه ثم استجابوا لأمره فيها على مضض، وانهم لما صارت السلطة بيدهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) نهوا عنها، وقد أمر بها القرآن والرسول وخضع لهم بقية المسلمين ما عدا عليا (عليه السلام) وأصحابه. هذا مع ان كلام الله تعالى وحديث النبي في هذا المورد يتعلق بقضية عبادية، فيكف يكون أمرهم حينما يتعلق الأمر بقضية الموقع الأول في المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله).

وتناولنا مضافا إلى ذلك شبهة كان من حقها ان تبحث في الحلقة الأولى وهي قول صاحب النشرة (ما دام في الأرض مسلمون ويحتاجون إلى دولة وإمام فلماذا يحصر عدد الأئمة باثني عشر).

«صفحة 144»

أرجو ان أكون قد وفقت في عملي هذا وان يغتفر لي القارئ الكريم النقص الذي قد يلوح هنا وهناك سواء في هذه الحلقة أو التي قبلها راجيا منه ان ينبهني عليه لتلافيه في طبعة أخرى.

اللهم اجعله لي ذخرا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم انك سميع مجيب.

سامي البدري

قم / 1رجب / 1417هجـ.

«صفحة 145»

الحلقة الثانية

الفصل الأول ـ الأئمة الإثنا عشر حجج إلهيون وليسوا مجرد حكام

قوله: مادام في الأرض مسلمون ويحتاجون إلى دولة وإمام فلماذا يحصر عدد الأئمة باثني عشر أقول: الإمامة المحصورة باثني عشر بعد الرسول 9 ليست هي منصب الحكم حسب بل هي منزلة الحجة على الخلق بالقول والفعل والتقرير ومن لوازم هذه المنزلة حصر حق الحكم بصاحبها في زمان حضوره اما في عصر الغيبة فإن منصب الحكم حق للفقهاء العدول.

«صفحة 146»

«صفحة 147»

نص الشبهة

قال صاحب النشرة:

(ما دام في الأرض مسلمون ويحتاجون إلى دولة وإمام وكان محرما عليهم اللجوء إلى الشورى والانتخاب كما تقول النظرية الإمامية وكان لابد أن يعين الله لهم إماما معصوما منصوصا عليه فلماذا إذن يحصر عدد الأئمة في اثني عشر واحدا فقط(1)).

الرد على الشبهة

اقول:

اولا:

ان المستشكل أراد بمصطلح الإمام معنى الحكم والرئاسة التنفيذية في المجتمع كما هو واضح من كلامه هنا وفي موارد متعددة من النشرة.

ثانيا:

ان الإمامة التي حصرت باثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) ليست هي إمامة الحكم حسب بل هي الإمامة الدينية التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة بوصفه حجة الله تعالى بقوله وفعله وتقريره(2) وكون حق الحكم خاصا به في زمانه لا يجوز لغيره ان يمارسه الاّ بإذنه.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الشورى العدد العاشر ص 19.

(2) ويترتب على هذه الإمامة ان الله تعالى لا يقبل عمل امرىء ما لم يكن موافقا في التفاصيل مع قول الحجة وفعله وتقريره ويترتب عليها الشفاعة أيضا، فشفاعة الرسول لا تنال إنسانا لا يقتدي بسنته، ويترتب على ذلك أيضا ان صاحب هذه المنزلة يؤيده الله تعالى بخوارق العادات يجريها على يديه حين يتوقف فتح طريق الهداية عليها.

«صفحة 148»

وكذلك الأمر في أوصيائه الاثني عشر فهم حجج الله تعالى على خلقه بعد نبيه الأكرم بقولهم وفعلهم وتقريرهم وكون حق الحكم خاصا بهم في زمانهم لا يجوز لغيرهم ان يمارسه ا لا بإذنهم ومن هنا اشترطت فيهم العصمة والنص.

وفي ضوء ذلك فان إمامة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) كما يعتقد بها الشيعة ليست هي الإمامة التي يعتقدها الزيدية أو المعتزلة أو السنة فهؤلاء يعتقدون بالإمامة على أنها حكم وإجراء حدود وتولية أمراء وتطبيق أحكام الشريعة في المجتمع حسب.

ويفترق الزيدية عن غيرهم بقولهم: ان الذي له حق إجراء الحدود هم عليوالحسن والحسين (عليهما السلام) ومن دعا إلى نفسه وحمل السيف من ذرية الحسن والحسين بعدهما.

أما أهل السنة والمعتزلة فقد أنكروا ان تكون هناك نصوص تدل على حصر حق الحكم بأهل البيت (عليهم السلام) بالشكل الذي قال به الزيدية فضلا عما قال به الشيعة.

وفي قبال الزيدية والمعتزلة والسنة قالت الشيعة بإمامة أهل البيت لا بمعنى الحكم بل بالمعنى الذي يجعل منزلتهم بمنزلة الأنبياء أي كونهم حججا إلهيين تجب طاعتهم سواء بايعهم الناس على الح كم أو لم يبايعوهم، لا فرق بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) إلا في النبوة والأزواج(1)، أما الحكم وإجراء الحدود فنسبته إليهم كنسبته إلى الرسول من حيث اختصاصه به وعدم جواز تصدي الغير له مادام حاضرا(2).

وهذا المعنى للإمام أي كونه حجة الله تعالى في دينه هو المأثور عن هشام بن الحكم في مناظراته.

قال الشامي لهشام:

ـــــــــــــــــــــــ

(1) روى الكليني في الكافي ج1: 270 عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول الأئمة بمنزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا انهم ليسوا بأنبياء ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي (صلى الله عليه وآله) فأما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ».

(2) انظر كلام القاضي عبد الجبار في كتابه المغني الجزء المتم للعشرين ق1: 36، 39، 89-90 حيث أشار إلى ان الشيعة ينظرون إلى أئمتهم كحجج لله تعالى، وانظر أيضا الشافي في الإمامة للسيد المرتضىج1: 309-310، والشيخ المفيد في كتابه الجمل ط. المؤتمر العالمي: 73-74هـ. ش. والعلامة الحلي في كتابه أنوار الملكوت في شرح ياقوت الكلام لإبراهيم بن نوبختص 204.

«صفحة 149»

« يا غلام سلني في إمامة هذا (وأشار إلى الإمام الصادق (عليه السلام))… قال هشام للشامي يا هذا أربك انظر لخلقه أم خلقه؟ فقال الشامي بل ربي انظر لخلقه. قال ففعل بنظره لهم ماذا؟

قال أقام لهم حجة ودليلا، كيلا يتشتتوا، أو يختلفوا، يتآلفهم ويقيم أودهم(1)ويخبرهم بفرض ربهم.

قال فمن هو؟

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال هشام فبعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

قال الكتاب والسنة.

قال هشام فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟ (2).

قال فسكت الشامي.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للشامي ما لك لا تتكلم؟

قال الشامي ان قلت لم نختلف كذبت، وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه، وان قلت قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة، إلاّ انَّ لي عليه الحجة.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) سله تجده مليا.

فقال الشامي يا هذا من انظر للخلق أربهم أو أنفسهم؟

فقال هشام ربهم انظر لهم منهم لأنفسهم.

فقال الشامي فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟

قال هشام في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو الساعة؟

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الأَوَدُ: العِوَج (لسان العرب) .

(2) ادعى صاحب النشرة ان هشام بن الحكم كان يناظر من اجل الإمامة بمعنى الحكم بينما نصوص مناظراته كما يرى القارىء الكريم تدور حول من له مقام الرسول بكونه حجة في قوله وفعله وتقريره وكونه الفيصل في الاختلاف الفكري والفقهي.

«صفحة 150»

قال الشامي في وقت رسول الله رسول الله (صلى الله عليه وآله) والساعة من؟

فقال هشام هذا القاعد الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء والأرض وراثة عن أب عن جد(1).

قال الشامي فكيف لي ان اعلم ذلك قال هشام سله عما بدا لك.

قال الشامي قطعت عذري فعليَّ السؤال.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) يا شامي أخبرك كيف كان سفرك، وكيف كان طريقك، كان كذا وكذا.

فاقبل الشامي يقول صدقت، أسلمت لله الساعة.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) بل آمنت بالله الساعة، ان الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون والإيمان عليه يثابون.

فقال الشامي صدقت فأنا الساعة اشهد ان لا اله إلا الله وان محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانك وصيُّ الأوصياء»(2).

وهذا المعنى للإمامة الذي ناظر من أجله هشام طفحت به أحاديث الأئمة (عليهم السلام).

روى الكليني عن داود الرقي عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: «ان الحجة لا تقوم لله

ـــــــــــــــــــــــ

(1) يشير قول هشام (رحمهم الله) هذا إلى ما اشتهر عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه كان يخبر بوقوع الملاحم استنادا إلى كتب آبائه (عليهم السلام) ومن ذلك ما اخبر عن مستقبل حركة الحسنيين في زمانه وانه لا يملك أحد منهم و ان ذلك مذكور عنده في كتاب فاطمة (عليها السلام) أصول الكافي 1: 242، وبصائر الدرجات: 169-170. وفي هذا الأخير عن معلى بن خنيس قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ اقبل محمد بن عبد الله بن الحسن فسلم ثم ذهب ورقَّ له أبو عبد الله ودمعت عينه فقلت له: لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع قال (رققت له لانه ينسب في أمر ليس له، لم أجده في كتاب علي من خلفاء هذه الأمة ولا ملوكها) وفي مقاتل الطالبيين ص 206 قال الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن الحسن ان هذا الأمر ليس إليك ولا إلى ولديك وإنما هو لهذا / يعني السفاح / ثم لهذا / يعني المنصور / ثم لولده من بعده لا يزال فيهم حتى يؤمروا الصبيان ويشاوروا النساء. فقال عبد الله والله يا جعفر ما أطلعك الله على غيبه فقال الصادق (عليه السلام): لا والله ما حسدت ابنك وان هذا -يعني أبا جعفر يقتله على أحجار الزيت ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف وقوائم فرسه بالماء. وقد اشتهر ذلك عن الإمام الصادق، انظر تاريخ الطبري(طبعة دار المعارف) 7: 598 وأيضا صفحة 600، ومقاتل الطالبين 347 وابن خلدونفي مقدمتهج1 ص595 ومن الجدير ذكره ان علم الإمام بالمغيبات وغيرها لا ينحصر من خلال قراءة تلك الكتب الموروثة بل هو محدَّث من قبل الملائكة بإذن الله (الكافي ج1: 270) هذا مضافا إلى كونه مؤيدا بروح القدس الذي به يعلم الإمام مادون العرش وما تحت الثرى (الكافي ج1: 272) .

(2) الكافي ج1: ص171 الرواية 4.

«صفحة 151»

على خلقه إلا بإمام حتى يعرف »(1).

وروى أيضا عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « ما زالت الأرض إلا ولله فيها الحجة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله »(2).

وروى أيضا عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « سمعته يقول ان الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام كي ما ان زاد المؤمنون شيئا ردَّهم وان نقصوا شيئا أتمَّه لهم »(3).

وروى أيضا عن بشير العطار قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: « نحن قوم فرض الله طاعتنا(4) وانتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته »(5).

وروى الكليني أيضا عن صفوان بن يحيى قال قلت للرضا (عليه السلام) قد كنا نسألك قبل ان يهب الله لك أبا جعفر (عليه السلام) فكنت تقول يهب الله لي غلاما، فقد وهبه الله لك فاقر عيوننا، فلا أرانا إليه يومك، فان كان كون فإلى من؟

فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) وهو قائم بين يديه.

فقلت جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين؟

فقال: « وما يضره من ذلك فقد قام عيسى (عليه السلام) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين »(6)وفي نسخة إرشاد المفيد وأعلام الورى (ابن اقل من ثلاث سنين).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي ج1 ص 177.

(2) الكافي ج1 ص178.

(3) الكافي ج1 ص178.

(4) روى الكليني في الكافي ج1: 276 عن بريد قال، قال أبو جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء: 63 إيانا عنا خاصة، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا. وفي تفسير فرات الكوفي عن الحسين انه سأل جعفر بن محمد (عليه السلام) عن قوله الله تعالى(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) قال: أولي الفقه والعلم قلنا: اخاص أم عام قال بل خاص لنا. وفيه أيضا عنه (عليه السلام) قال أولي الأمر في هذه الآية هم آل محمد (صلى الله عليه وآله)) ص 108 تحقيق محمد الكاظم ط1410 هج وفي الكافي ج2 باب دعائم الإسلام ح2 وح9 (ان الولاية التي أمر الله عز وجل بها ولاية آل محمد (صلى الله عليه وآله) ثم ذكر قوله تعالى (أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم)) وفي أصول الكافي ج1: 189 الحديث 16 عن الحسين بن علاء قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الأوصياء طاعتهم مفترضة قال نعم هم الذين قال الله عز وجل (أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) وهم الذين قال الله عز وجل (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) أقول: في ضوء هذه النصوص يتضح ان (اولي الامر) في الاية مصطلح خاص اريد به أوصياء الرسول الاثني عشر(عليه السلام) خاصة.

(5) الكافي ج1 ص186.

(6) الكافي ج1. ص 321 الرواية رقم 10.

«صفحة 152»

والإمامة بهذا المعنى عرضها القرآن الكريم للأنبياء السابقين قال تعالى ﴿وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ البقرة / 124.

وقال تعالى ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ الأنبياء / 73.

فالإمام في كلا الآيتين هو الهادي إلى دين الله والحجة على خلقه بقوله وفعله وتقريره.

وفي ضوء ذلك يتضح:

ان الذي ذكرته الأحاديث النبوية من حصر الإمامة بعد النبي باثني عشر إنما هو منزلة خاصة لا يراد بها موقع الحكم وإجراء الحدود حسب بل أريد بها موقع من هو بمقام الرسول في كونه حجة لله تعالى في القول والفعل والتقرير وكون الحكم وإجراء الحدود من خصائصه في زمانه، وقد ألحقت أحاديث أخرى الزهراء (عليها السلام) بالأئمة فهي حجة في قولها وفعلها وتقريرها دون خصوصية الحكم.

وبواسطة هؤلاء الحجج حفظ الله شريعة نبيه من التحريف وصارت ميسرة لكل من أرادها.

مشيئة الله تعالى في آل محمد (صلى الله عليه وآله):

وقد يقال لِمَ حُصِر الحجج بعد النبي باثني عشر ولِمَ حُصر بأسرة النبي (صلى الله عليه وآله)؟

والجواب:

ان حصر حجج الله تعالى بعد نبيه الأكرم بأسرة النبي (صلى الله عليه وآله) وبعدد محدود منهم، وهم علي والزهراء والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين (عليهم السلام)، نظير حصر حججه تعالى بعد نوح وإبراهيم ويعقوب وعمران في ذريتهم كما في قوله تعالى: ﴿ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وإِبْرَاهِيمَ وجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ والكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَد وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الحديد / 26 وقوله: ﴿إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ ونُوحًا وآلَ إِبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ آل عمران / 33-34.

«صفحة 153»

وقد شاءت حكمة الله تعالى ان يجعل في الحجج من بعد محمد (صلى الله عليه وآله) امرأة حجة وهي فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) كما جعل بعد موسى امرأة حجة وهي مريم بنت عمران.

وشاءت حكمة الله تعالى أيضاً ان يجعل من ذرية فاطمة (عليها السلام) خاتم أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) وهو الحجة بن الحسن العسكري كما جعل من ذرية مريم (عليها السلام) من قبلُ حجته عيسى (عليه السلام) خاتم أصفيائه من آل عمران وبني إسرائيل.

بل شاءت حكمة الله تعالى ان يجعل المهدي من آل محمد(صلى الله عليه وآله) نظيرا لعيسى من آل عمران من ناحية الاختلاف في ولادته والامتحان بغيبته فقد اختلف بنو إسرائيل في ولادة المسيح بعد ان كانوا ينتظرونه جميعا للنصوص الثابتة عن أنبيائهم وفي كتبهم(1)، فآمنت طائفة لما ولد وأنكرت طائفة ذلك إلى اليوم.

واختلف بنو إسماعيل (أمة محمد (صلى الله عليه وآله)) في ولادة المهدي المنتظر من ولد فاطمة (عليها السلام) بعد ان اخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عنه وبشر به(2) فآمنت طائفة لما ولد سنة 255 هجـ، وهي لا تزال مؤمنة به ألى اليوم، وأنكرت طائفة ذلك إلى اليوم أيضا.

وامتُحن أنصار عيسى بغيبته، فمنهم من قال قتل، ومنهم من قال أنجاه الله من كيد الظالمين واتصل بخواص تلاميذه لفترة يوجههم ثم غيَّبه الله تعالى ليظهره آخر الزمان.

وكذلك امتحن شيعة المهدي (عليه السلام) بغيبته فمنهم / وهو قليل جدا وفي وقته / من قال انه مات في الغيبة(3)، وقال الأغلب بحياته في غيبته الطويلة التي غاب فيها بعد

ـــــــــــــــــــــــ

(1) جاء في سفر اشعياء / وهو من أسفار الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى / الإصحاح التاسع الفقرة 14 قوله (ولكن الرب نفسه يعطيكم آية. ها العذراء تحبل وتلد إبنا وتدعو اسمه عمانوئيل) وعما نوئيل لفظة عبرية معناها (الرب معنا) ومن الواضح ان النص يشير إلى مريم (عليها السلام) التي حملت من غير رجل وقد أيدها الله تعالى لما ولدت عيسى بان انطقه في المهد ليكون آية لأمه ولبني إسرائيل ومع ذلك فقد كذبت طائفة كبيرة من اليهود ذلك وأنكروا ولادة المسيح المنتظر من العذراء إلى اليوم.

(2) روى أبو داود في سننه عن أبي الطفيل عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم، لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا) وفيه أيضا عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة.) ج2 / 422 ط 1.

(3) وقد مر الكلام على هذا القول في الشبهة الأولى وقد ذكر الشيخ المفيد في الإرشاد والشيخ الطوسي في الغيبة أقوالا أخرى انقرض أصحابها.

«صفحة 154»

غيبته(1) القصيرة وهم ينتظرون ظهوره ليحقق الله تعالى به وعده الذي وعده لنبيه الخاتم.

وشاءت حكمة الله أيضا ان يجعل في آل محمد (صلى الله عليه وآله) حجة لله في سن دون العاشرة من عمره وهو أبو جعفر محمد الجواد (عليه السلام) ليكون نظيرا ليحيى في آل عمران آتاه الله الحكم صبيا.

وشاءت حكمة الله ان يجعل أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) اثني عشر وان يجعل الثاني عشر منهم المهدي يحقق الله تعالى على يده وعده لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) ويرث المؤمنون برسالته الأرض كلها ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء / 105 وان يكون ذلك نظيرا لأوصياء موسى الاثني عشر وما جعله على يد الثاني عشر من أوصيائه وهو داود من تحقق للوعد الذي وعده لموسىوبني إسرائيل من وراثة ارض فلسطين وما حولها.

وشاءت حكمة الله ان يجعل اغلب أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) من ذرية أخيه ووزيره وأول أوصيائه علي (عليه السلام) وان يكون ذلك نظيرا لما جعله الله تعالى من كون اغلب أوصياء موسى (عليه السلام) بعده في ذرية أخيه ووزيره هارون (عليه السلام) (2).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال الفضل بن الحسن الطبرسي (رحمهم الله) في كتابه أعلام الورى ان أخبار الغيبة قد سبقت زمان الحجة بل زمان أبيه وجده وخلدها المحدِّثون من الشيعة في أصولهم المؤلفة أيام السيدين الباقر والصادق (عليه السلام) وآثروها عن النبي والأئمة واحدا بعد واحد. . . وليس يمكن أحدا دفع ذلك ومن جملة ثقاة المحدثين والمصنفين من الشيعة الحسن بن محبوب الزراد وقد صنف كتاب المشيخة الذي هو في أصول الشيعة اشهر من كتاب المزني وأمثاله قبل زمان الغيبة بأكثر من مائة سنة ومن جملة ما رواه عن إبراهيم الخارقي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول لقائم آل محمد غيبتان واحدة طويلة والأخرى صغيرة قال: فقال لي نعم يا أبا بصير إحداهما أطول من الأخرى ثم لا يكون ذلك (يعني ظهوره) حتى يختلف ولد فلان ويظهر السفيانيويشتد البلاء) ص 416. وروى الشيخ الصدوق في إكمال الدين عن سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري ومحمد بن يحيى العطار جميعا قالوا حدثنا احمد بن محمد بن عيسى وإبراهيم بن هاشم واحمد بن أبي عبد الله البرقي ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب جميعا قالوا حدثنا أبو علي الحسن بن محبوب السراد عن داود بن الحصين عن أبي بصير عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي أشبه الناس بي خلقا وخلقا تكون له غيبة وحيرة حتى تضل الخلق عن أديانهم فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب فيملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا) ص 287، البحار 51 صفحة 72.

(2) قضية التناظر بين آل محمد (صلى الله عليه وآله) وآل عمران وآل هارون والحجج الإلهيين في الأمم الماضية مسألة ملفتة للنظر جعلها الله تعالى من المعالم الهادية إلى حقانية حركة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) وبخاصة بعد ان أصبحت حركتهم (عليه السلام) بما فيها غيبة المهدي عج واقعا تاريخيا ناجزا ثابتا تسهل مقارنته مع الواقع التاريخي لحركة الحجج في الأمم السابقة كما ذكرها القرآن الكريم والنصوص الموافقة له من أسفار التوراة والإنجيل المتداولة وقد درسنا ذلك مفصلا وأعددناه في كتاب خاص.

«صفحة 155»

من له حق الحكم في الإسلام:

أما ما يتعلق بمسالة الحكم فان القانون الإسلامي قد أوجب على المسلمين إقامته إلى آخر الدنيا، ومن الطبيعي جداً ان لا يحدد عدد الحكام بعدد معين، وإنما الطبيعي هو ان تحدد مواصفات من له أهلية لإشغال هذا المنصب في المجتمع، وقد حدد القانون الإلهي ذلك صريحا في قوله تعالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ الله وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ المائدة / 44.

والنظرية التي تطرحها الآية من وجود ثلاثة طبقات من العلماء بالكتاب الإلهي يبينون أحكامه وينفذونها في المجتمع، وهم النبيون ثم الربانيون ثم الأحبار، ليست خاصة بالتوراة بل تشمل كل كتاب إلهي تضمَّن الشريعة.

والمراد بالأحبار هم الفقهاء رواة أحاديث الأوصياء.

وفي ضوء الآية الكريمة يكون الذي له حق الحكم في المجتمع هو النبي ومن بعده الوصي ومن بعده الفقيه العادل الكفوء.

وقد وردت النصوص في القرآن والسنة تشير إلى وجود منزلة الربانيين والأحبار في أمة محمد (صلى الله عليه وآله).

روى المحدِّث البحراني في تفسيره البرهان عن العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبى عبد الله (عليه السلام) قوله:

« ان مما استحقت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبِقة التي توجب النار، ثم العلم المكنون بجميع ما تحتاج إليه الأمة حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصه وعامه والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرائب تأويله وناسخه ومنسوخه.

«صفحة 156»

قلت: وما الحجة بأن الإمام لا يكون إلا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت؟

قال: قول الله فيمن أذن لهم بالحكومة وجعلهم أهلها ﴿انا أنزلنا التوراة فيها هدىونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون﴾ فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يؤتون الناس بعلمهم(1).

وأما (الأحبار) فهم العلماء دون الربانيين.

ثم اخبرنا فقال: (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) ولم يقل بما حملوا منه »(2).

شرح الرواية:

قوله (عليه السلام): (ان مما استحقت به الإمامة التطهير… ثم العلم المكنون…).

العلم المكنون هو: العلم المخزون المصون عن الاختلاف، نظير قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَاب مَّكْنُون) الواقعة77-78.

ومراده (عليه السلام) ان الإمامة الإلهية الخاصة تتقوم بأمرين:

الأول: الطهارة من الذنوب صغيرها وكبيرها.

الثاني: العلم بكل ما تحتاج إليه الأمة علما مصونا عن الخطأ والاختلاف.

وكلاهما فضل من الله يمنحه من يشاء من عباده.

قوله (عليه السلام): (قول الله فيمن أذن الله لهم بالحكومة وجعلهم أهلها).

يشير الى ان الذين أذن الله لهم بالحكومة هم ثلاث فئات:

الفئة الأولى: النبيون.

الفئة الثانية: الربانيون.

الفئة الثالثة: الأحبار(3).

قوله (عليه السلام): (فهذه الأئمة دون الأنبياء).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) وفي نسخة (يربون الناس بعلمهم) والظاهر ان الصحيح هو(يؤُمُّون الناس) من التربيئ بمعند الاصلاح اى يصلحون الناس بعلمهم.

(2) تفسير البرهان تفسير الآية.

(3) انظر تفصيل الاستدلال على ان الربانيين في الاية هم الائمة (عليه السلام) في تفسير الآية عند العلامة الطباطبائي (رحمهم الله) .

«صفحة 157»

يشير إلى ان الربانيين في الآية هم الأئمة الإلهيون، وهم العلماء أصحاب العلم المصون عن الخطأ المطهرون عن الذنوب(1) المنصوص عليهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَة مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ السجدة23-24.

ان الأئمة من بني إسرائيل من بعد موسى المشار اليهم فى الآية على قسمين:

الأول: أنبياء ورسل كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى.

الثاني: غير أنبياء ولكنهم علماء معصومون منصوص عليهم وهم آل هارون وطالوت(2) وصاحب سليمان(3) وغيرهم وهؤلاء هم الربانيون المشار إليهم في الآية 44 من سورة المائدة موضوع البحث ولهم نظائر في هذه الامة.

وقد قال الامام الباقر (عليه السلام) في تفسيرها: «انها فينا نزلت»(4)، ومراده (عليه السلام) انها نزلت لبيان مقامهم بواسطة ذكر نظائرهم في الامم السابقة.

وتفسير الإمام الباقر (عليه السلام) هذا من باب البطن.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ومن الجدير ذكره هنا هو ان الوصي فضلا عن الفقيه في عصر النبي (صلى الله عليه وآله)) ليس له ان يمارس الحكم إلا بإذن النبي (عليه السلام) ، وكذلك الأمر مع الفقهاء في زمن حضور الأوصياء، أما زمان الغيبة الكبرى فقد أذن الأوصياء لفقهاء شيعتهم خاصة ان يمارسوا الحكم وأوجبوا على شيعتهم الرجوع إليهم والرضا بهم دون غيرهم وقد استدل الفقهاء على هذا الإذن بقول الإمام الصادق (عليه السلام) (اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا وإياكم ان يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر (التهذيب للطوسي ج6 / 303) وقوله (عليه السلام) من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما) (الكافي ج7 / 412، من لا يحضره الفقيهج3 / 5، التهذيب ج1 / 301، وسائل الشيعة18 / 98، والتوقيع الصادر عن الحجة بن الحسن العسكري (عليه السلام) (اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) إكمال الدين للصدوق ص483.

(2) قال تعالى: ﴿وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَ بَقِيًّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَ آلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الَمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ البقرة: 248.

(3) قال تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقُوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ﴾ النمل: 38-40.

(4) تفسير العياشي ج1: تفسير الآية 44 من سورة المائدة.

«صفحة 158»

وقد وضَّح الامام الباقر معنى (البطن) حين سأله الفضيل بن يسار عن الرواية التي تقول (مافي القرآن آية الا ولها ظهر وبطن) ما يعني بقوله لها ظهر وبطن قال: « ظهره تنزيله وبطنه تأويله ».

وفي رواية مهران عن ابي جعفر (عليه السلام) إيضا قال: « ظهر القرآن الذين نزل فيهم وبطنه الذين عملوا مثل اعمالهم »(1).

قوله (عليه السلام): «ثم اخبر فقال (بما استحفظوا من كتاب الله. .) ولم يقل بما حملوا منه»

إشارة منه (عليه السلام) إلى ان (الإستحفاظ) لا يراد به مجرد حمل العلم فقط، بل يراد به (حمل العلم وعدم تضييعه عمليا) وهذا المعنى صادق دائما مع النبيين والربانيين، أما مع غيرهم فقد يتخلف فيكون عالما بحدود الله ومضيعا لها عمليا.

مسألة الشورى:

أما ما يتعلق بمسالة الشورى فان لها مجالات أربعة:

الأول: الشورى كطريق لمعرفة الحجة المعصوم بعد رسوله ولا شك هي غير صالحة لذلك.

الثاني: الشورى كطريق لتشخيص من هو الأصلح للحكم في زمن الحجج الاثني عشر الذين نص عليهم الرسول، ولا شك هي باطلة في هذا المورد كبطلانها في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذ الحكم من خصائص حجة الله نبيا كان أو وصيا وعلى الأمة ان تبايعه وتبسط يده ولا تبايع غيره.

ومما لا شك فيه ان الشورى في هذين المجالين مما اجمع على رفضه الشيعة في كل عصورهم.

الثالث: الشورى كطريق لتشخيص من هو الأصلح للحكم من بين الفقهاء في فترة الغيبة الكبرى، وهذه المسألة لم تكن موضع بحث عند القدامى من علماء الشيعة لعدم ابتلائهم بها، أما المحدثون فقد ذهب قسم منهم ممن بحثها إلى القول بها(2).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) البرهان ج1: 20.

(2) حصر بعض الفقهاء المعاصرين حجية الترجيح بالانتخاب في فرض التشاح انظر كتاب ولاية الأمر في عصر الغيبة للسيد كاظم الحائري ص 314 فما بعدها. وذهب آخرون إلى عدم تقيدها بذلك الفرض انظر دراسات في ولاية الفقيهج1 للشيخ المنتظريوكتاب الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق للسيد محمد باقر الحكيم ص 108-109وكتاب ولاية الأمرللشيخ الآصفي.

«صفحة 159»

الرابع: الشورى كممارسة من الحاكم في الشؤون التنفيذية العامة كما في كيفية الحرب وغيرها وهذه الشورى قد نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ آل عمران / 159(1).

وفي ضوء ذلك يتضح ان قول القائل (ان الشيعة لا يؤمنون بالشورى والانتخاب) ليس صحيحا على إطلاقه بل لابد من مراعاة التفصيل الآنف الذكر.

مسألة البيعة:

وهناك مسألة اخرى تجد الاشارة اليها هنا وهي مسألة البيعة، والذي يتبناه الشيعة فيها هو: أنَّ البيعة عهد شرعي على النصرة واقامة الحكم لا تصح الا مع من تصح البيعة معه على ذلك(2) وهم: النبي ثم الوصي ثم الفقيه العادل في فترة الغيبة الكبرى.

روى الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه ان عليا (عليه السلام) قال:

« ان فلانا وفلانا (يريد ابابكر وعمر) أتياني وطالباني بالبيعة لمن سبيله ان يبايعني »(3).

قال الشيخ راضي آل ياسين (رحمهم الله):

« وانما على الناس ان يبايعوا من ارادته النصوص النبوية ولا تصحح الامامية

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر الإسلام يقود الحياة للشهيد الصدر رح ص 162.

(2) قال السيد مرتضى العسكري: (تنعقد البيعة في الاسلام اذا توفرت فيها الشروط الثلاثة التالية: أ- ان يكون المبايِـع ممن تصِح منه البيعة ويبايِـع مختارا. ب- ان يكون المبايَع له ممن تصِح مبايعته. ج- ان تكون البيعة لأمر يصِح القيام به. وعلى ما بينا لا تصِح البيعة من صبي او مجنون لانهما غير مكلفين بالاحكام في الاسلام ولا تنعقد بيعة المكره لان البيعة مثل البيع فكما لا ينعقد البيع بأخذ المال من صاحبه قهرا ودفع الثمن له كذلك البيعة لا تنعقد بأخذها بالجبر وفي ظل السيف. وكذلك لا تصِح البيعة للمتجاهر بالمعصية ولا تصِح البيعة للقيام بمعصية الله. اذن فالبيعة مصطلح اسلامي ولها احكامها في الشرع الاسلامي) معالم المدرستين ط4 ج1 ص206.

(3) البحار ج 28: 248. وقريب منه ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج 2: 2-5 « لما قيل لعلي (عليه السلام) بايع قال لهم انا احق بهذا الأمر منكم لا ابايعكم وانتم أولى بالبيعة لي. . . ».

«صفحة 160»

بيعة غيره »(1).

وقال ايضا:

« لما كان الواجب على الناس ديناً الانقياد الى بيعة الامام المنصوص عليه كان الواجب على الامام مع قيام الحجة بوجود الناصر قبول البيعة، …، ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه »(2).

وقال الشهيد الصدر (رحمهم الله):

« ولا شك ان البيعة للقائد المعصوم واجبة لا يمكن التخلف عنها شرعا »(3).

وقال السيد محمود الهاشمي:

« الناس مكلفون بأن يقوموا بالقسط، وهم من اجل ذلك لا بد وان يبايعوا القائد المنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى كي يهيئوا له فرصه اقامة القسط وهذه مسؤولية الامة ايضا، اذ ان من اصول الفكر السياسي في الاسلام (البيعة) لولي الامر المنصب من قبل المبدأ الاعلى او وليه بشكل خاص، او بالشكل العام ضمن الشروط والمواصفات المعينة المعروفة، كما يسمى عند الفقهاء بـ (القضية الحقيقية) ولا نقصد (بالبيعة) جانبها الشكلي او الصوري، وان كان ذلك ايضا محمودا ولازما، وانما نقصد بها لزوم (الطاعة) لتمكين هذا القائد (الحاكم) من القيام بدوره القيادي في اقامة العدل والقسط بين الناس، ولكن لا يكون الا من خلال (المبايعة) واقرار (الطاعة) له »(4).

وقال السيد مرتضى العسكري:

« فالحاجة الى البيعة هي تنفيذ الاحكام الاسلامية والامام (عليه السلام) بحاجة الى من ينصره لتنفيذ الاحكام. . ولا يلزم من ذلك ان يتعاهد جميع الناس، اذ ان تعاهد مقدار من الناس بانهم يقومون بتنفيذ الاحكام الاسلامية يعتبر كافيا »(5).

وقال ايضا في سؤال وجه اليه عن رسائل اهل الكوفة هل يمكن اعتبارها بيعة قال:

ـــــــــــــــــــــــ

(1) صلح الحسن ص 54.

(2) صلح الحسن ص 60.

(3) الاسلام يقود الحياة. 162.

(4) مصدر التشريع ونظام الحكم في الاسلام ص 102.

(5) صحيفة الجهاد العدد (700) 1995.

«صفحة 161»

« نعم، ولكن البيعة وقعت بعد ذهاب مسلم بن عقيل حيث يصدق على كتبهم قول الامام امير المؤمنين (عليه السلام) (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر)… فيجب عليه تلبية طلب جماعة من المسلمين. . وكذلك فان الكوفة كانت مركزا للجند كالشام مثلا فكان ارسالهم الكتب اليه يلزمه باجابة طلبهم وكان ملزما شرعا ان يجبيهم الى طلبهم »(1).

اقول: ومن الجدير ذكره ان هذه البيعة الواجبة مع المعصوم ليس دورها دور انشاء حق الحكم للمعصوم لان حقه في ذلك ثابت بالنص كما مر بيانه وانما دورها دور تمكينه وبسط يده.

قال السيد كاظم الحائري:

« ان المعصوم (عليه السلام) على رغم ان له ولاية الامر والحكومة بتشريع من قبل الله تعالى لم يكن من المقرر الهيا ان يرضخهم لما له من حق الحكومة بالاكراه الاعجازي، كما انه لا تجبر الامة على الاحكام الاخرى كالصلاة والصوم بالجبر الاعجازي والا لبطل الثواب والجزاء، لان الناس يصبحون مسيرين عن غير اختيار. بل كان من المقرر ان يصل المعصوم الى السلطة بالطرق الاعتيادية ومن الواضح الوصول الى السلطة بالطريق الاعتيادي وبغير الاعجاز ينحصر في وجود ناصرين له من البشر، فكان اخذ البيعة منهم لاجل التأكد من وجود ثلة كافية من الامة تعهدوا بنصر المعصوم والعمل معه في جهاده وسائر اموره الحكومية ولولاهم لعجز المعصوم حسب القوة البشرية ومن دون الاعجاز عن تحقيق السلطة والحكومة خارجا »(2).

الخلاصة:

وخلاصة الجواب: ان الامر الذي حُصِرَ باثني عشر هو منزلة خاصة لا يرادبها موقع الحكم واجراء الحدود حسب، بل اريد بها منزلة الحجة على الخلق في القول والفعل والتقرير، والله تعالى اعلم حيث يجعل رسالته وحجته وفي أي اسرة وبأي عدد.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الجهاد العدد (700) 1995.

(2) رسالة الثقلين العدد 12 مغزى البيعة مع المعصومين.

«صفحة 162»

اما الحكم واجراء الحدود فهو من اختصاص هؤلاء الحجج في زمانهم وحضورهم ولا يجوز لاحد ان يمارسه الا بإذنهم اما في عصر الغيبة فقد اذن الائمة (عليه السلام) لفقهاء شيعتهم ورواة احكامهم ان يمارسوه وامروا شيعتهم بالرجوع اليهم للاحتكام اليهم والاخذ عنهم.

اما الشورى فقد تبين ان الذي رفضه الشيعة منها هو ما كان في قبال النص، اما ما كان في طوله وامتداده فليس كذلك.

اما البيعة على الحكم فالذي يراه الشيعة هو عدم صحتها مع من لا تصح معه شرعا وان الذي تصح معه بل تجب هو النبي ثم الوصي ثم الفقيه العادل في عصر الغيبة.

«صفحة 163»

الحلقة الثانية

الفصل الثاني ـ ملاحظات على مقال الدكتور البغدادي في رده على الشهيد الصدر (رحمه الله)

«صفحة 164»

«صفحة 165»

البغدادي يرد على الشهيد الصدر!

نشر احمد الكاتب في نشرته الشورى العدد الثالث مقطعا من كلام الشهيد الصدر اقتطعه من كتابه (بحث حول الولاية) الذي يبرهن فيه على بطلان الشورى في المجال الأول والثاني الآنفي الذكر ويثبت فيه النص على علي (عليه السلام) وبقية أهل البيت(عليهم السلام). وقد صدَّر صاحب النشرة الكلام المقتطع بمانشيت عريض « الصدر: الصحابة لم يعرفوا نظام الشورى » وقدم له مقدمة طلب فيها من القراء والمفكرين المسلمين ان يولوها كبير اهتمامهم لأنها رؤية لا تزال حية في أذهان الكثير من المثقفين وانه يستقبل أية مناقشة لها ثم نشر في العدد السادس مقالا يحمل عنوان الشورى منهج حياة المسلمين » وبتوقيع الدكتور عبد الله البغدادى(1) يرد فيه على الشهيد الصدر وقد جاء الرد في محورين هما:

المحور الأول: يثبت فيه البغدادي ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه في القضايا التنفيذية العامة ويأخذ برأيهم فيها ثم ذكر قصة مشورة النبي أصحابه في قصة بدر واحد وغيرها.

المحور الثاني: وينكر فيه وجود النص على علي (عليه السلام) ويقول ان بيعة الخلفاء كانت على أساس الشورى ودون تهديد أو قوة سلاح ومما قاله في هذا الصدد:

« ان ما جرى في السقيفة من نقاش حصل فيه ترشيح لأبي بكر وآخر لسعد بن عبادة، وقد تغلب الرأي الأول، ولم يكن ذلك تمام الشورى، بل انه كان مجرد ترشيح، والبيعة التي تمت في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) والتي اجمع عليها جمهور المهاجرين والأنصار كانت لأبي بكر وكان ذلك هو الاستفتاء (للجيل الطليعي من الأمة الذي يضم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) لا ندري فيما إذا كان هذا الاسم له وجود واقعي أو هو اسم مستعار آخر لصاحب النشرة!

«صفحة 166»

المهاجرين والأنصار) كما وصفه الشهيد الصدر. ولو لم يبايع المسلمون / وقد فعلوا ذلك طواعية دون تهديد أو قوة سلاح / لما انعقدت بيعة أبي بكر.

وكذلك الأمر في استخلاف أبي بكر لعمر أو في استخلاف عمر للستة، فالأمر لا يعدو ان يكون ترشيحا خاضعا للقبول أو الرفض من الأمة التي تدلي بصوتها في إعطاء البيعة أو رفض ذلك.

أما الاستنتاج من الشهيد الصدر بأن (الطريق الوحيد الذي بقي منسجما مع طبيعة الأشياء، ومعقولا على ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك النبي هو ان يختار النبي بأمر من الله شخصا فيعده إعدادا رساليا وقياديا لتتمثل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية) (ولم يكن هذا الشخص المرشح للإعداد الرسالي والقيادي والمنصوب لتسلم الدعوة وتزعمها فكريا وسياسيا إلا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)).

فالرد عليه ان الغرابة بمكان ان يكون ذلك (هو الطريق الوحيد الذي بقي منسجما مع طبيعة الأشياء) ومع ذلك لم يجد أغلبية تؤيده من (الجيل الطليعي للامة) بل لم يذكر أحد ممن حضر السقيفة أو شهد البيعة في المسجد النبوي نصا أو وصية من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك.

والأغرب من ذلك هو انه لم يرد نص صريح في القرآن والسنة يشير إلى هذا الاختيار النبوي الذي هو (بأمر من الله)!

والأغرب من ذلك كله. . ان الإمام على (عليه السلام) لم يحتج لنفسه – فيما ثبت عنه – بأي قول يشير إلى هذا (التعيين) بل كان مما حاجج به الإمام علي (عليه السلام) معاوية الذي نازعه سلطانه الشرعي قوله: (ان القوم الذين بايعوني هم القوم الذين بايعوا أبا بكروعمر. .) » انتهى كلامه.

تعليقنا على الرد في محوره الأول:

هو ان الشهيد الصدر (رحمهم الله) لم يرفض الشورى في مجال ممارسة الحاكم للشؤون التنفيذية العامة ولم يرفض دورها في تشخيص المرجع في فترة الغيبة الكبرى ودور الانتخاب في حسم حالة تعدد المرجعيات المتكافئة المستوفية للشروط اللازمة وقد

«صفحة 167»

وضَّح ذلك مفصلا في كتابيه (لمحة فقهية تمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية في إيران) و (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء). وان الذي كان ينفيه من الشورى في كتابه (بحث حول الولاية) هو الشورى في مجال تعيين القيادة الفكرية والسياسية التي تخلف النبي (صلى الله عليه وآله) والتي تقع على امتداد الرسالة في كل شىء إلا النبوة والأزواج كما مرَّ توضيحه.

وكان ينبغي على صاحب النشرة ان ينبه إلى ذلك وينشر مقاطع من كلام الشهيد الصدر توضح رأيه في ذلك.

أما تعليقنا على الرد في محوره الثاني:

فسيأتي تباعا في هذه الحلقة وفي غيرها، ومن الجدير ذكره ان إشكالاته التي أثارها ليست مما ينفرد به بل هي إشكالات أثارها قبله كل من كتب من علماء السنة و مثقفيهم في هذا الموضوع وأجاب عليها الشيعة.

«صفحة 168»

«صفحة 169»

الحلقة الثانية

الفصل الثالث ـ احتجاج علي (عليه السلام) بحديث الغدير

قال البغدادي: ان عليا (عليه السلام) لم يحتج في ما ثبت عنه بأي قول يشير إلى النص عليه اقول: لقد احتج علي (عليه السلام) بحديث الغدير وقد تواتر ذلك عنه في كتب الحديث

«صفحة 170»

«صفحة 171»

نص الشبهة

قال البغدادي: « والأغرب من ذلك كله. . ان الإمام علي (عليه السلام) لم يحتج لنفسه – فيما ثبت عنه – بأي قول يشير إلى هذا (التعيين) ».

الرد على الشبهة

اقول:

أولا:

لقد ثبت تاريخيا ان عليا (عليه السلام) قد احتج بحديث الغدير في اكثر من مناسبة كان اشهرها في المصادر التاريخية والحديثية الميسرة بين أيدينا هي مناشدته للناس في مسجد الكوفة بعد عودته من حرب الجمل.

قال عبد الحق الدهلوي البخاري(1) في كتابه اللمعات في شرح المشكاة في تعليقه على حديث الغدير:

« وهذا حديث صحيح لا مرية فيه وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائيواحمدوطرقه كثيرة جدا رواه ستة عشر صحابيا(2) وفي رواية لاحمد انه سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثون صحابيا وشهدوا به لعلي (عليه السلام) لما نوزع أيام خلافته وكثير من أسانيده صحاح وحسان ولا التفات لمن قدح في صحته(3) ولا إلى قول بعضهم (ان

ـــــــــــــــــــــــ

(1) عالم سني انظر ترجمته في كتاب سبحة المرجان ص 52.

(2) بل سمعه من النبي(صلى الله عليه وآله) كل من كان معه في حجة الوداع وهم مابين سبعين ألف إلى مائة ألف وقد أحصى العلامة الاميني في كتابه الغديرالجزء الأول مائة وعشرة من الصحابة في ضوء المصادر الحديثية والتاريخية التي تيسرت له.

(3) كان ممن قدح في صحة حديث الغدير ابن حزم الأندلسي في ما نقل عنه ابن تيمية في منهاج السنة ج4: 86، وقال ابن تيمية في الصفحة نفسها عن حديث الغدير انه ليس في الصحاح ولكن هو مما رواه العلماء وتنازع الناس في صحته ونقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث انهم طعنوا فيه وضعفوه. وذهب إلى تضعيفه أيضا الايجي في المواقف ج8: 391، والرازي في كتابه نهاية العقول، وقد استوفى الرد عليهم صاحب العبقات، انظر خلاصة عبقات الأنوار ج6: 135-404.

«صفحة 172»

زيادة اللهم وال من والاه إلى آخره) موضوع فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي(1)كثيرا منها كذا قال الشيخ ابن حجر في الصواعق المحرقة ».

أقول:

روى احمد بن حنبل عن عبد الله بن عمر الجشمي البصري (ت235) عن عبيد الله بن عمر القواريري عن يونس بن أرقم عن يزيد بن زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (ت 83) قال شهدت عليا في الرحبة(2) قال: « انشد الله رجلا سمع رسول الله وشهد يوم غدير خم إلا قام ولا يقوم إلا من رآه فقام اثنا عشر بدريا فقالوا نشهد انا سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم غدير خم (الست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم فقالوا بلى يا رسول الله قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) »(3).

وفيه أيضا بسند آخر قال (صلى الله عليه وآله) « واخذل من خذله »(4).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء ج14: 277: « جمع الطبري (ابن جرير) طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء رأيت شطره فبهرني لسعة رواياته وجزمت بوقوع ذلك. ونقل عنه ابن كثير في تاريخه ج5: 214 انه قال « وصدر الحديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) متواتر اتيقن ان رسول الله 9 قاله، واما (اللهم وال من والاه) فزيادة قوية الاسناد ».

أقول: وقد ذكر ياقوت في معجم الأدباء ج18: 83-85. ان بعض الشيوخ ببغداد قال بتكذيب حديث غدير خم وقال ان علي بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله 9 بغدير خم فبلغ أبا جعفر الطبري ذلك فابتدأ بالكلام في فضائل علي بن أبي طالب وذكر طرق حديث غدير خم، قال ياقوت قال أبو بكر بن كامل حضرت أبا جعفر الطبري حين حضرته الوفاة فسألته ان يجعل كل من عاداه في حل فقال كل من عاداني وتكلم فيَّ إلا رجلا رماني ببدعة قال ياقوت ودفن ليلاخوفامن العامة لانهم كانوا يتهمونه بالتشيع.

أقول: اتهم الطبري بالتشيع لروايته حديث الغدير في كتابه الذي ذكره الذهبي وحديث الوصية في كتابه التاريخ وكانت عقيدته كما ذكر ياقوت هي الاعتقاد بإمامة أبي بكر وعمر وعثمانوعلي7 وما عليه أصحاب الحديث في التفضيل وكان يكفِّر من كفَّر أصحاب رسول الله من الروافض والخوارج ولا يقبل أخبارهم ولا شهاداتهم (معجم الأدباء ج18: 83-85) .

(2) الرحبة: ساحة مسجد الكوفة.

(3) ج1: 119 قال في الفتح الرباني إسناده صحيح.

(4) ج1: 119 وفيها (إلا ثلاثة لم يقوموا فأصابتهم دعوته) .

«صفحة 173»

وفيه أيضا بسنده عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ت100(1) قال:

« جمع علي (عليه السلام) الناس في الرحبة ثم قال لهم: انشد الله كل امرئ سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام فقام ثلاثون من الناس فشهدوا.

قال أبو واثلة: فخرجت وكأن في نفسي شيئا فلقيت زيد بن أرقم فقلت له إني سمعت عليا (عليه السلام) يقول كذا وكذا.

قال: فما تنكر قد سمعت رسول الله يقول ذلك له »(2).

وقوله (فخرجت وكأن في نفسي شيئا) يبدو منه ان أبا الطفيل استعظم النتائج المترتبة على حديث الغدير وهي هلاك وضلالة من خالف عليا أو خذله أو قاتله أو قدَّم نفسه عليه لذلك راح يستزيد عن القضية اكثر(3).

ومن الجدير ذكره هنا ان حديث الغدير الذي استنشده علي (عليه السلام) لم يكن يتضمن ذكر علي (عليه السلام) فقط بل تضمن أيضا ذكر أهل بيته، وقد روى الحاكم النيسابوري الرواية كاملة عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال:

« خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى انتهينا إلى غدير خم عند شجيرات خمس ودوحات عظام فكنس الناس ما تحت الشجيرات ثم استراح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية فصلى ثم قام خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثم قال:

أيها الناس إني تارك فيكم أمرين(4) لن تضلوا ان اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي ثم قال أتعلمون أني أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا نعم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كنت مولاه فعلي مولاه… »(5).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) صحابي ولد في أحد وأدرك من عمره ثماني سنوات مع النبي (صلى الله عليه وآله) .

(2) ج4: 370.

(3) وقد روى حديث المناشدة هذا من التابعين منهم سعيد بن وهب، وزيد بن يثيع، وعبد خير، وحبة العرني، وعمرو بن ذي مر، وسعيد بن حدان، وأبو سليمان، وزاذان، وعميرة بن سعد، وغيرهم وقد اخرج أحاديث هؤلاء أبو نعيم في حلية الأولياء وابن كثير في البداية والنهاية والخطيب في تاريخ بغداد والنسائي في الخصائص وابن المغازلي في المناقب وابن حجر العسقلاني في الإصابة وابن الأثير في أسد الغابة وغيرهم.

(4) في رواية مسلم واحمد (ثقلين) .

(5) المستدرك على الصحيحين 3: 110، 3: 533 تاريخ دمشق ترجمة علي (عليه السلام) ج2: 36 الحديث رقم 534 وقد رواه البلاذري أيضا في الحديث رقم 48 من ترجمة علي (عليه السلام) ص110 تحقيق المحمودي وفيه قول النبي (صلى الله عليه وآله) (كأني قد دعيت فأجبت وان الله مولاي وانا مولى كل مؤمن وانا تارك فيكم. . .) ورواه ابن كثير في البداية والنهاية ج2 ص206 عن سنن النسائي ورواه أيضا محمد بن جرير الطبري عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم وعن عطية عن أبي سعيد الخدري ورواه أيضا ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص23. كماورواه أيضا في كنز العمال ج 13: 104الحديث رقم (36340) تصحيح الشيخ صفوة السقا.

«صفحة 174»

وفي رواية الطبراني بعد قوله عترتي « وان اللطيف الخبير نَبَّأَني انهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض وسألت ذلك لهما، فلا تَقدَّموهُما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم »(1).

وقد ورد حديث النبي (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته في مناسبات شتى ولم يكن مقتصرا على مناسبة غدير خم.

قال ابن حجر الهيثمي: « اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا عديدة كثيرة وردت عن نيف وعشرين(2) صحابيا وفي بعض تلك الطرق انه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة(3) وفي أخرى انه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه(4) وفي أخرى انه قال ذلك بغدير خم وفي آخر انه قال ذلك لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف(5) »(6).

ثانيا:

وفي ضوء حديث الثقلين وحديث الولاية كان علي (عليه السلام) أيام حكومته يوضح للناس حقيقة منزلته ومنزلة أهل البيت (عليهم السلام).

فمن كلماته قوله (عليه السلام): « لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد ولا يُسَوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم أساس الدين وعماد اليقين إليهم يفىء الغالي وبهم يلحق

ـــــــــــــــــــــــ

(1) المعجم الكبير ج5: ص167 الحديث رقم4971 وقال في مجمع الزوائد 9: 164 فيه حكيم بن جبير وهو ضعيف قال ابن حجر في التقريب ضعيف رمي بالتشيع.

(2) في غاية المرام للبحراني وصلت الأحاديث من طرق السنة إلى 39 حديثا.

(3) كما روى ذلك الترمذي في ج5: 621 والمزي في تهذيب الكمال ج10: 51 والخطيب التبريزي في المشكاة ج3: 258 والطبراني في المعجم الكبير ج3: 63 ح 2679.

(4) أخرجه العصامي في سمط النجوم العوالي ج2: 502 برقم 136 عن أبي بكر بن أبي شيبة، وذكره أيضا البزار في زاوئده.

(5) أخرجه في الصواعق ص75 عن ابن أبي شيبة.

(6) الصواعق المحرقة 79-90.

«صفحة 175»

التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل لى منتقله » (خ2).

وقوله (عليه السلام): « أين الذين زعموا انهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، ان رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى، ان الأئمة من قريش غُرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (خ 152).

وقوله (عليه السلام): « وخلف فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلَّف عنها زهق، ومن لزمها لحق ».

وقوله (عليه السلام): « هم عيش العلم وموت الجهل. . لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه وانقطع لسانه عن منبته » (خ 239).

وقوله (عليه السلام) عن نفسه: « وأنا من رسول الله كالضوء من الضوء والذراع من العضد » (الكلام رقم 451).

وقوله (عليه السلام): « لقد علمتم اني أحق بها من غيري » خ 74.

وقوله (عليه السلام): « أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلىَّ الطير » (خ3).

وفي ضوء ذلك يتضح ان الولاية لعلي (عليه السلام) في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) لا تعني المحبة والنصرة(1)، لان هذين الأمرين من حق كل مؤمن، و علي (عليه السلام) أول المؤمنين، وليست لغيره سوابق في الإيمان والجهاد كسوابقه بل ليست لغيره من الطاعة والانقياد لله ورسوله كانقياده وطاعته، وحقه في المحبة والنصرة محفوظ من هذه الناحية، وإنما أراد بالولاية تلك الولاية الخاصة بالرسول دون غيره من المؤمنين، هذه الولاية التي تجعل المؤمنين إلى آخر الدنيا في جانب والرسول في جانب آخر، وولاية الرسول التي ينفرد بها هي ولاية الله تعالى، وولاية الله تعالى لا تقف عند حدود المحبة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) كما ذهب إلى ذلك الدهلوي صاحب التحفة الاثني عشرية والشيخ النبهاني في كتابه الشخصية الإسلامية ج2: 69 وغيرهما من علماء السنة.

«صفحة 176»

والنصرة، بل تمتد إلى جانب الإتباع والطاعة والاحتكام إليه، والوقوف عند أمره ونهيه حيا كان او ميتا(1)، وهذا هو المعنى الذي فهمه أبو واثلة واستعظمه، لان معناه عليه ان يرتبط بعلي (عليه السلام) كارتباطه برسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى بعد موته وهكذا كان أمره إذ عرف أبو الطفيل عامر بن واثلة انه من شيعة علي (عليه السلام) وشهد مشاهده كلها، وبقي أبو الطفيل بعد علي (عليه السلام) وقد سأله معاوية يوما كيف وَجْدُك على خليلك أبي الحسن يا بن واثلة قال: كحب الفاقد لأخيها وزوجها وولدها وإلى الله تعالى أشكو التقصير(2).

ثالثا:

وإذا أراد القارئ الكريم مزيدا من التفصيل عن حديث الغدير وما أثير حوله من اشكالات سندية ودلالية وأجوبة علماء الشيعة على ذلك فعليه بكتاب الغدير ج 1 للعلامة الاميني (رحمهم الله) وكتاب عبقات الأنوار ج6 – 9 تعريب وتلخيص العلامة الميلاني فأنهما أوسع وافضل ما كتب في هذا الباب.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال السيد كاظم الحائري: ان ولاية المعصوم غير مخصوصة بأيام حياته ونفهم ذلك من قوله تعالى(النبي اولا بالمؤمنين من انفسهم) ومن قوله (صلى الله عليه وآله) من كنت مولاه فهذا علي مولاه. (الامامة وقيادة المجتمع للحائري ص213) .

(2) كتاب الوافدين من الرجال على معاوية للعباس بن بكار الضبي ص 26.

«صفحة 177»

الحلقة الثانية

الفصل الرابع ـ السقيفة برواية عمر بن الخطاب

قال البغدادي: ان ما جرى في السقيفة كان مجرد ترشيح والبيعة تمت في المسجد دون تهديد أو إكراه. اقول: روايات كتب الحديث والسيرة تثبت ان الذي جرى في السقيفة بيعة وليس مجرد ترشيح.

«صفحة 178»

«صفحة 179»

نص الشبهة

قال البغدادي:

« ان ما جرى في السقيفةمن نقاش… لم يكن ذلك تمام الشورى بل انه كان مجرد ترشيح والبيعة تمت في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله). وقد فعلوا ذلك طواعية دون تهديد أو قوة سلاح ».

الرد على الشبهة

أقول: ان قوله هذا خلاف ما ثبت في كتب السيرة والحديث والتاريخ وخلاف المشهور عند أهل السنة.

حيث ذكرت هذه الكتب ان الذي جرى في السقيفة بيعة وليس مجرد ترشيحومن ثم استشهد فقهاء السنة كالماوردي وغيره بما جرى في السقيفة من بيعة عمر، وأبي عبيدة، واسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة، لأبي بكرعلى صحة انعقاد الحكم ببيعة خمسة(1).

نعم الذي ذكره البغدادي هو رأي البعض من علماء السنة حيث يرى ان حكومة أبي بكر انعقدت ببيعته العامة في المسجد دون بيعته في السقيفة(2).

قصة السقيفة:

وإلى القارئ الكريم نص كلام عمر بن الخطاب حول السقيفة كما رواه البخاري في صحيحه قال:

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الأحكام السلطانية للماوردي الشافعي: 7، المغني للقاضي عبد الجبار المعتزلي. الجزء المتم للعشرين القسم الأول ص 256.

(2) الشخصية الإسلامية الشيخ النبهاني ج2: 35.

«صفحة 180»

« حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: ان عمر قال في أول جمعة قدمها من حجته الأخيرة:

إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر.

من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.

وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم.

أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة.

وخالف عنا علي والزبير ومن معهما.

واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر.

فقلت لأبي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين، فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزَّمِّل بين ظهرانيهم، فقلت من هذا؟ فقالوا هذا سعد بن عبادة، فقلت ما له؟ قالوا يوعك.

فلما جلسنا قليلا، تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفَّت دا فَّةٌ(1) من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر.

فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الدافة: القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد.

«صفحة 181»

فتكلم أبو بكر فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا.

فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي… أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر…

فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.

فكثر اللغط وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف، فقلت ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار.

ونَزَوْنا على سعد بن عبادة.

فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة، فقلت قتل الله سعد بن عبادة.

قال عمر وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكرخشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يقتلا »(1).

وفيما يلي شرح لفقراتها التي تتصل بموضوعنا:

قوله: (فلا يغترن امرؤ ان يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت إلا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى المسلمين شرها).

نسب البلاذري هذا القول إلى الزبير، ونسبه ابن أبي الحديد إلى عمار، و(الفلتة كما قال ابن الاثير وغيره هي الفجأة وقال ابن الأثير أيضا ومثل هذه البيعة جديرة بأن تكون مهيجة للشر والفتنة فعصم الله تعالى من ذلك ووقى).

أقول: والأمر الفجائي هو ما لم يتوقع حدوثه، ومعنى ذلك ان بيعة أبي بكر لم تكن متوقعة ولا مترقبة، لان الأعناق كانت ممدودة إلى علي (عليه السلام) قال ابن اسحق وكان

ـــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري كتاب المحاربين باب رجم الحبلى ج8: 208-211.

«صفحة 182»

عامة المهاجرين وجل (كل) الأنصار لا يشكون ان عليا (عليه السلام) هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) »(1) وذلك لشدة لصوقه بالنبي (صلى الله عليه وآله) وسابقته المتميزة والنص عليه في الغدير وغيره.

وقوله (وقى الله شرها) يفيد ان بيعة أبي بكر التي فوجئ المسلمون بها ولم يكونوا يترقبونها كانت تنطوي على الشر وسفك الدم والسبب في ذلك هو أنَّ صاحب الحق الشرعي (علي (عليه السلام)) قد أبى ان يبايع ودعا الأنصار إلى نصرته ولو كانوا أجابوه لكان هناك قتال بينه وبين القوم وتفصيل ذلك في الفقرة الآتية.

قوله: (وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة. وخالف عنا علي والزبير ومن معهما. واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر.).

الذي يظهر من بعض الروايات ان عليا (عليه السلام) وبني هاشم كانوا مشغولين بدفن النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي اثناء ذلك اجتمعت فئة من الأنصار في بيت سعد بن عبادة يتداولون أمر الحكم، ثم انضم إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسالم مولى ابي حذيفة، ثم بويع لأبي بكر، وامتنع علي (عليه السلام) ومن معه من بني هاشم وغيرهم عن بيعته واجتمعوا في دار فاطمة (عليها السلام) (2)(3).

قال ابن قتيبة: « وخرج علي (عليه السلام) كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو ان زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي (عليه السلام) أفكنت ادع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ادفنه في بيته واخرج أنازع الناس

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الأخبار الموفقيات لابن بكار تـ 272 ص 580 ومثله في تاريخ اليعقوبي2: 103.

(2) لم يذكر البخاري مكان اجتماعهم وتخلفهم عن البيعة وذكره احمد ابن حنبل فى المسندج 1: 55 بروايته عن إسحاق بن عيسى الطباععن مالك بن انس عن ابن شهاب الزهري. انظر أيضا فتح الباري ج15: 163 وسيرة ابن هشام 3384.

(3) وقد وضعت في قبال ذلك من قبل سيف بن عمر وغيره روايات تفيد ان عليا (عليه السلام) بايع أبا بكر طواعية وانه لما سمع بجلوس أبي بكر للبيعة خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلا كراهية ان يبطئ عنها حتى بايعه وقد ناقش هذه الروايات واثبت بطلانها العلامة العسكري في كتابه عبد الله بن سبأ ج1.

«صفحة 183»

سلطانه، فقالت فاطمة ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم »(1).

وفي ضوء ذلك فان تصوير الواقع التاريخي بعد وفاة الرسول بوجود ثلاث كتل ليس صحيحا، لان كتلة الأنصار المزعومة لم تكن كتلة بالمعنى الذين كانت عليه الكتلة القرشية، وإنما كانت اجتماعا طارئا، لا يبعد ان يكون الحزب القرشي قد دفع إليه بواسطة عدد من أعضائه من الأنصار(2).

أما علي (عليه السلام) وبنو هاشم ومن معهم فقد صاروا كتلة في قبال الحزب القرشي حين رفضوا بيعة أبي بكر.

والذي يظهر بشكل واضح من نصوص تاريخية وحديثية متعددة ان الحزب القرشي كان له وجود زمن النبي، وكانت أطروحته تتمثل بشعار (حسبنا كتاب) الله وبالموقف السلبي من علي (عليه السلام).

و في قبال ذلك كانت مجموعة من الصحابة كأبي ذر وعمار وسلمان وغيرهم، قد عرفت في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها شيعة علي (عليه السلام) استجابة لأمر الله ورسوله في علي (عليه السلام).

المجتمعون في دار فاطمة (عليها السلام):

وقد ذكر المؤرخون في عداد من تخلف عن بيعة أبي بكر في بيت فاطمة مع علي(عليهما السلام) والزبيركلا من العباس بن عبد المطلب وعتبة بن أبي لهب وسلمان الفارسيوأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود والبراء بن عازب وأبي بن كعب.

وقد ذكر ابن عبد ربه ان أبا بكر بعث عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمةوقال له: ان أبوا فقاتلهم فاقبل بقبس من نار على ان يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت يا ابن الخطاب اجئت لتحرق دارنا قال نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة(3).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الإمامة والسياسة ج1: 19.

(2) منهم اسيد بن حضير رئيس الاوس وبشير بن سعد أحد وجوه الخزرج وستأتي ترجمتهما.

(3) العقد الفريد 4: 259-260، كنز العمال 3: 140 والإمامة والسياسة 121 انساب الأشراف 1: 586.

«صفحة 184»

روى الطبري قال أتى عمر بن الخطاب منزل علي (عليه السلام) وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: « والله لأُحرِّقنَّ عليكم أو لتخرجن إلى البيعة »(1).

وقد ذكر أصحاب الحديث عن الزهري: « ان عليا (عليه السلام) وبني هاشم بقوا ستة اشهر لم يبايعوا حتى ماتت فاطمة »(2).

وقوله (عليه السلام): « ولم يكن لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت »(3).

وقوله: « لو وجدت أربعين ذوي عزم! »(4).

وفي كتاب معاوية إلى علي (عليه السلام) « وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار،

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري ج 3: 202. روى الذهبي في ميزان الاعتدال ج3: 108 وابن حجر في لسان الميزان ج4: 188 في ترجمة علوان بن داود قول أبي بكر في مرضه الذي توفي فيه (وددت أني لم اكشف بيت فاطمة وتركته وان اغلق على الحرب) ورواه أيضاالمسعودي في مروج الذهب ج2: 309والطبري في تاريخه ج3: 430. واقدم مصدر تاريخي روى ذلك هو كتاب الأموال: 174 لأبي عبيد (ت 224 هجـ) غير انه كنى عنها ولم يصرح بها قال قال أبو بكر (وددت أني لم اكن افعل كذا وكذا لخلة ذكرها) (قال أبو عبيد لا أريدذكرها) .

أقول فإذا كان أبو عبيد القاسم بن سلام وأمثاله يتحامون ذكر اصل الهجوم على دار فاطمة (عليها السلام) فهل يترقب ممن ذكره منهم ان يعنى بتفاصيل الهجوم ونتائجه المروعة على الزهراء (عليها السلام) بوصفها الوجه البارز في مخاطبة القوم ومن هنا يظهر للقارئ خطأ قول: ابن أبي الحديد ج2/60: « فاما الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة (عليها السلام) وانه ضربها بالعصا فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى ان ماتت وان عمر ضغطها بين الباب والجدار. . . وألقت جنينا ميتا وجعل في عنق علي (عليه السلام) حبل يقاد به. . . فكله لا اصل له عند أصحابنا. . . . وانما هو شىء تنفرد الشيعة بنقله » لقد غاب عن ابن أبي الحديد ان الطبري لم يذكر تفاصيل ما جرى بين أبي ذر ومعاوية بعد إشارته إلى اصل الخبر خشية من العامة إذ جاء في تاريخه « كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية في الشام وأشخاص معاوية إياه منها أليها (إلى المدينة) أمور كثيرة كرهت ذكرها » ج4 ص283 وقوله عن المكاتبات التي جرت بين محمد بن أبي بكر ومعاوية بن أبي سفيان « جرت مكاتبات بينهما كرهت ذكرها لما فيها مما لا يحتمل سماعها العامة » الطبري ج4 ص557. فهل يترقب منه ومن نظرائه من المؤرخين ان يذكروا تفاصيل الهجوم الذي جرى على بيت فاطمة (عليها السلام) وبخاصة وان نتائج ذلك على شعور العامة اكثر بكثير من نتائج ذكر تفاصيل ما جرى بين أبي ذر ومعاوية أو ما جرى بين محمد بن أبي بكر ومعاوية أيضا. على اننا لا نعدم الحصول على طرف من المعلومات في هذاالمصدر السني أو ذاك لمن أراد التتبعوالاستقصاء.

(2) صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر ج3: 38 وصحيح مسلم 1 / 72، 5: 153 الاستيعاب 2: 244، أسد الغابة بترجمة أبي بكر (ولم يبايع علي (عليه السلام) إلا بعد ستة اشهر) انساب الأشراف 1: 586 وفي الغدير 3: 102 عن الفصل لابن حزم 96-97 (وجدنا عليا (رض) تأخر عن البيعة ستة اشهر) .

(3) قال ابن أبي الحديد وهو قول ما زال يكرره علي (عليه السلام) ولقد قاله عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (شرح النهج ج2: 22) .

(4) شرح النهج ج2: 22.

«صفحة 185»

ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين، يوم بويع أبو بكر الصديق، فلم تدع أحدا من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدللت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول الله، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسةولعمري لو كنت محقا لأجابوك…، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم »(1).

قوله: (وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر).

أقول: هذا الوصف لا ينطبق على أبي بكر إذ لم تكن له قرابة خاصة من النبي أو سابقة جهادية مميزة أو نص يؤهله لذلك بخلاف علي (عليه السلام) حيث جمع ذلك كله.

قوله: (ولا نعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش).

وفي رواية احمد بن حنبل عن مالك بن انس (ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) وفي رواية ابن اسحق (قد عرفتم ان هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم وان العرب لا تجتمع إلا على رجل منهم…).

ونستفيد من هذا الكلام امرين هما:

الاول: ان الامر المتنازع عليه في السقيفة ليس هو مجرد السلطة الاجرائية بل هو سلطة اجرائية مقرونة بسلطة دينية وذلك لان العرب لم يكونوا في الجاهلية يخضعون لقريش اجرائيا بل كانوا يخضعون لها دينيا حيث يدينون بكل امر تضعه قريش في امر الدين وبخاصة الحج وهو امر مذكور في كل كتب السيرة(2)، وفي ضوء هذه السلطة

ـــــــــــــــــــــــ

(1) وقعة صفين نصر بن مزاحم 182 ابن أبي الحديد 2: 67.

(2) قال ابن اسحاق: « وكانت قريش ابتدعت امر الحُمْس جمع احمس وهو المتصلب في الدين وسميت قريش حُمْسا لزعمهم بأنهم المتشددون في الدين) ثم ابتدعوا في ذلك امورا لم تكن لهم منها انهم حرموا على اهل الحل (وهم العرب الساكنون خارج مكة) ان يأكلوا من طعام جاؤا به معهم من الحل الى الحرم اذا جاؤا حجاجا او عمارا ولا يطوفوا بالبيت اذا قدموا اول طوافهم الا في ثياب الحمس (اي في ثياب احد القرشيين) فان لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة فان تكرم من متكرم من رجل او إمرأة ولم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل القاها اذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا احد غيره ابدا فكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقى. قال ابن اسحاق فحملوا على ذلك العرب فدانت به. . . فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) فوضع الله تعالى امر الحمس وما كانت قريش ابتدعت منه (اي هدم الله قيمته » السيرة النبوية لابن هشام ج1/201-203.

«صفحة 186»

تجرأ عمر في حكومته على تحريم متعة الحج وقبول الناس ذلك منهم(1).

الثاني: ان المهاجرين الاربعة في السقيفة انما غلبوا الانصار الحاضرين بأساس جاهلي كان الاسلام قد أَماته، وهذا الاساس هو الامتياز الديني لقريش وقد نزعه الاسلام عن قريش وكرسه لمحمد (صلى الله عليه وآله) واهل بيته (عليهم السلام).

وامام شعار عمر ورفع الراية القرشية انكسر سعد بن عبادة في هذا الاجتماع المدبر من الحزب القرشي بإعلان اسيد بن حضير(2) رئيس الاوس وبشير بن سعد احد وجوه الخزرج(3) ميلهما إلى الحزب القرشي ومن ثم بيعتهما ومن معهما من أتباعهما أبا بكر.

قوله: (كان والله ان اقدم فتضرب عنقي… احب إلىَّ من ان أتأمر على قوم فيهم أبو بكر).

وقد قال قبل ذلك (وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر).

أقول: لست ادري هل هاتان الكلمتان من أبي حفص كانتا على سبيل الجد أم شأنه فيهما شأنه في كلمته لما توفي النبي (صلى الله عليه وآله) وكشف هو والمغيرة بن شعبة الثوب عن وجه النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: واغشياه ما اشد غشي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم اخذ يهدد بالقتل من قمال ان رسول الله قد مات، واخذ يقول ان رجالا من المنافقين يزعمون ان رسول الله توفي، وان رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد ان قيل مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون ان رسول الله مات، (من قال انه مات علوت رأسه بسيفي هذا، وإنما ارتفع إلى السماء) (4).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر الفصل السابع من هذا الكتاب.

(2) أسد الغابة ترجمة اسيد بن حضير وفيه انه اسلم على يد مصعب بن عمير في العقبة الأولى وان أبا بكر في خلافته كان يكرمه ولا يقدم عليه أحدا وتوفي سنة 20 وحمل عمر عنه السرير حتى وضعه بالبقيع انظر تفصيل موقف بشير بن سعد واسيد بن حضير في تاريخ الطبري ج3 / 221.

(3) وقد قيل انه أول من بايع أبا بكر من الأنصار كان قد شهد العقبة الثانية وبدرا والمشاهد كلها قتل يوم عين التمر مع خالد سنة 12 هجـ. .

(4) تاريخ اليعقوبي 2: 95، الطبري / البداية والنهاية لابن كثير 5: 242 تيسير الوصول 2: 41، انساب الأشراف 1: 565، تاريخ أبي الفداء 1: 164.

«صفحة 187»

قال ابن أبي الحديد « ان عمر لما علم ان رسول الله قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة وتغلب أقوام عليها، أما من الأنصار أو من غيرهم، فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس، فاظهر ما أظهره، وأوقع تلك الشبهة في قلوبهم، حراسة للدين والدولة، إلى ان جاء أبو بكر »(1).

وفي ما أوردناه من رواية البخاري وشرحها كفاية في توضيح حال السقيفة وإنها كانت بيعة خاصة لأبي بكر في أجواء العصبية القبلية وليست مجرد ترشيح له ثم أردفت ببيعة عامة اقترنت بالتهديد وقوة السلاح.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر شرح النهج ج2: 43.

«صفحة 188»

«صفحة 189»

الحلقة الثانية

الفصل الخامس ـ الشورى السداسية برواية عمر بن ميمون

قال البغدادي: ان استخلاف أبي بكر لعمر وكذلك حصر عمر الشورى بالستة كان ترشيحا خاضعا للقبول والرفض من الأمة. اقول: قال الماوردي ان بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة، وقد روت المصادر السنية المعتبرة ان عمر قال لأبي طلحة الأنصاري اختر خمسين رجلا من الأنصار فأجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم فإن اجتمع خمسة ورضوا واحدا وأبى واحد فاشدخ رأسه.

«صفحة 190»

«صفحة 191»

نص الشبهة

قال البغدادي: « ان استخلاف أبي بكر لعمر وكذلك استخلاف عمر للستة كان ترشيحا خاضعا للقبول أو الرفض من الأمة ».

الرد على الشبهة

اقول: ان قوله هذا رأىٌ شاذ وافقه عليه بعض السنة.

قال الماوردي: « وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله، فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته، لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما:

أحدهما: ان أبا بكر عهد بها إلى عمر فاثبت المسلمون إمامته بعهده.

والثاني: ان عمر عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها وخرج باقي الصحابة منها… فان لم يكن ولدا ولا والدا جاز ان ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه وان لم يستشر فيه أحدا من أهل الاختيار لكن اختلفوا هل يكون ظهور الرضا منهم شرطا في انعقاد بيعته أولا؟

فذهب بعض علماء أهل البصرة إلى ان رضا أهل الاختيار شرط في لزومها للامة. .

والصحيح ان بيعته منعقدة، وان الرضا بها غير معتبر لان بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة »(1).

وقال النووي وغيره: « اجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بأهل الحل والعقد لإنسان حيث لا يكون هناك استخلاف غيره »(2).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الأحكام السلطانية: 10.

(2) فتح الباري ج16: 334.

«صفحة 192»

وقصة الشورى واستخلاف عثمان صريحة في أنها كانت بيعة من عبد الرحمن لعثمان بعد ما فوضه الأربعة ان يكون الأمر أمره، ومن هنا قال عبد الرحمن لعلي بايع وإلاّ ضربت عنقك(1).

ونحن نورد فقرات من رواية مفصلة رواها الطبري عن عمر بن شبة بأسانيده إلى عمرو بن ميمون.

قصة الشورى:

قال عمرو بن ميمون:

« ان عمر لما طُعِنَ قيل له يا أمير المؤمنين لو استخلفت! قال: من استخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته فان سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول (انه أمين هذه الأمة) (2).

ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته فان سألني ربي قلت سمعت نبيك يقول (ان سالما شديد الحب لله)(3).

فقال له رجل أدلك عليه، عبد الله بن عمر… قال بحسب آل عمر ان يحاسب منهم رجل واحد. . ان استخلفت فقد استخلف من هو خير مني، وان اترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انساب الأشراف ج4: 508. واللفظ في صحيح البخاري ج9: 98(فلا تجعل على نفسك سبيلا) .

(2) مما لا شك فيه ان هذا الحديث من الموضوعات وقد وضع في قبال ما عرف عن علي (عليه السلام) والأئمة من ولده أنهم أمناء الله في أرضه وحججه على عباده، وتوجد زيارة لقبر علي (عليه السلام) معروفة بزيارة أمين الله.

(3) انظر أيضا في طبقات عمر بن سعد ج3: 343 وتاريخ المدينة لابن شبة922 ومسند احمد بن حنبل ج1: 20 ومختصر تاريخ بن عساكر ج4319 وقد كان أبو عبيدة وسالم أول من حضر من المهاجرين أمر السقيفة (الأحكام السلطانية ص7) قال في الاستيعاب: 568 في ترجمة سالم (وكان سالم من أهل فارس معدودا من المهاجرين لانه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة تولى أبا حذيفة وتبناه أبو حذيفة وقد روي انه هاجر مع عمر ونفر من الصحابة من مكة وكان يؤمهم إذا سافر معهم وقد كان عمر يفرط في الثناء عليه، وقد روي عنه انه قال لو كان سالم حيا ما جعلتها شورى وذلك بعدما طعن فجعلها شورى) أقول والحديث من الموضوعات ولو تنزلنا وسلمنا به فان من الغريب ان يخضع أبو حفص لقول النبي (صلى الله عليه وآله) في سالم (ان سالم شديد الحب لله) ولا يخضع لقول النبي (صلى الله عليه وآله) في علي يوم خيبر (لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار يفتح الله على يده) ثم دعا عليا (عليه السلام) وهو ارمد فأعطاه الراية وكان الفتح على يده.

«صفحة 193»

فخرجوا ثم رجعوا فقالوا يا أمير المؤمنين لو عهدت عهدا، فقال كنت عزمت بعد مقالتي لكم ان انظر فأولي رجلا أمركم، هو أحراكم ان يحملكم على الحق وأشار إلى علي(1)… فما أريد ان أتحملها حيا وميتاً(2).

عليكم بهؤلاء الرهط الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (انهم من أهل الجنة) علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد وطلحة والزبير فليختاروا رجلا. ثم دعا بهم وقال لهم إني نظرت فوجدتكم رؤساءهم وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم.

وقال لأبي طلحة الأنصاري اختر خمسين رجلا من الأنصار، فاجمع هؤلاء

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر أيضا طبقات ابن سعد ج3: 342 وفي انساب الاشراف ج3: 103 قال عمر لئن ولوها الاجيلح ليركبن بهم الطريق، وانظر ايضا المصنف لعبد الرزاق الصنعاني ج5: 446، وفي الرياض النضرة لمحب الدين الطبري (تـ 694) ط2 بمصر 373، ج2: 95 قال عمر لله درهم ان ولوها الأصلع كيف يحملهم على الحق وان كان السيف على عنقه قال محمد بن كعب فقلت أتعلم ذلك منه ولا توليه فقال ان تركتهم فقد تركهم من هو خير مني.

(2) وفي رواية البلاذري 4: 501 قال (اكره ان أتحملها حيا وميتا) قلت (بل تحمل أبو حفص حيا وميتا مسئولية إبعاد علي(عليه السلام) عن موقعه الذي وضعه الله ورسوله فيه، اما تحمله لذلك حياً فقد تبين حين شدَّ عن وسطه وذبَّ عن بيعة أبي بكر وفرضها على المسلمين بكل وسيلة ممكنة حتى لو ادى ذلك إحراق باب فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما مر تفصيله في الفصل الثالث، واما تحمله للأمر ميتا فقد تبيَّن حين ابتكر الشورى السداسية وعيَّن أفرادها وفرض على علي(عليه السلام) ان يكون أحدهم ليضمن ثلاثة أمور الأول: ان لا يبايَع علي(عليه السلام) إذ ليس له من أصوات الخمسة الآخرين الاصوت الزبير في قبال عثمان الذي له اربعة اصوات هذا مضافا الى شرط جديد في البيعة وهو العمل بسيرة الشيخين وهو يعلم جيدا ان عليا سوف يرفض مثل هذا الشرط. الثاني: ان تُضمن بيعة علي لعثمان ولو كرها قبل ان يخرجوا من البيت وهو يعلم من تجربة السقيفة ان عليا سوف يمتنع من البيعة ويطالب المسلمين بنصرته وانه اذا بايع ولو كرها امنوا من تحركه ضدهم. الثالث: ان تخلق الاندادلعلي (عليه السلام) كالزبير الذي كان بالامس جنديا لعلي (عليه السلام) يدافع عنه في قصة السقيفة ثم صار بعد قتل عثمان نِدّاً له ينافسه على الامر ويقاتله عليه. وتذكر المصادر التاريخية ان عمر كان على يقين من ان الشورى السداسية ستكون لصالح عثمان. قال ابن سعد في طبقاته بترجمة سعيد بن العاص ما خلاصته: « ان سعيد بن العاص اتى الخليفة عمر يستزيده في الأرض ليوسع داره فوعده الخليفة بعد صلاة الغداة وذهب معه الى داره قال سعيد فزادني وخط لي برجليه فقلت يا امير المؤمنين زدني فانه نَبَتَتْ لي نابتة من ولد واهل فقال حسبك واختبئ عندك انه سيلي الامر من بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك قال فمكثت خلافة عمر بن الخطاب حتى استخلف عثمان. . . فوصلني واحسن وقضى حاجتي واشركني في امانته ». وسعيد بن العاص هو من اقرباء عثمان فهو سعيد بن العاص بن سعيد بن احيحة بن امية وعثمان هو ابن عفان بن ابي العاص بن امية.

قال العلامة العسكري « ويتضح من هذه المحاورة ان امر تولية عثمان الخلافة كان قد بُتَّ فيه في حياة الخليفة عمر وتعيين الستة في الشورى كان من اجل تمرير هذا الامر. . » معالم الدرستين ج1/183.

«صفحة 194»

الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم، فان اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشدخ رأسه، وان اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، فان رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فان لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين ان رغبوا عما اجتمع عليه الناس(1).

واستشار عبد الرحمن الناس(2) فقال له عمار بن ياسر ان أردت ان لا يختلف المسلمون فبايع عليا، فقال المقداد بن الأسود صدق عمار ان بايعت عليا قلنا سمعنا واطعنا.

وقال ابن أبي سرح ان أردت إلا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد الله بن أبي ربيعة صدق ان بايعت عثمان قلنا سمعنا واطعنا.

وقال عمار: أيها الناس ان الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم.

فقال رجل من بني مخزوم لقد عدوت طورك يا ابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها(3).

فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن افرغ قبل ان يفتتن الناس.

ودعا عبد الرحمن على ا فقال له عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده.

قال أرجو ان افعل واعمل بمبلغ علمي وطاقتي(4).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) في طبقات بن سعد بسنده عن سماك ان عمر قال للانصار ادخلوهم بيتا ثلاثة ايام فان استقاموا والاّ فأدخلوا عليهم فاضربوا اعناقهم ج3: 342، وفي انساب الأشراف للبلاذري4: 503 قال عمر ليتبع الاقل الاكثر فمن خالفكم فاضربوا عنقه ومثله في كنز العمال 12: 681.

(2) وفي صحيح البخاري ج9: 97 قال عبد الرحمن لاهل الشورى لست بالذي انافسكم على هذا الامر ولكنكم ان شئتم اخترت منكم فجعلوا ذلك الى عبد الرحمن ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه وفي ج5: 22 قال عبد الرحمن لاهل الشورى اجعلوا امركم الى ثلاثة منكم فقال الزبير جعلت امري الى علي فقال طلحة جعلت امري الى عثمان وقال سعد قد جعلت امري الى عبد الرحمن بن عوف ثم قال عبد الرحمن لعلي وعثمان اجعلوه اليّ والله عليّ ان لاآلوا عن افضلكم.

(3) انظر ايضا انساب الاشراف تحقيق المحمودي ج2: 144 خبر 142.

(4) وفي تاريخ اليعقوبي 1: 162 ان عليا (عليه السلام) قال لعبد الرحمن لما عرض عليه البيعة على كتاب الله وسنة النبي وسيرة ابي بكر وعمر قال: « ان كتاب الله وسنة نبيه لايحتاج معهما الى اجّيري أحد ». والأجيري بالكسر والتشديد: العادة والطريقة) .

«صفحة 195»

ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، فقال نعم فبايعه(1).

فقال علي: حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلاّ ليرد الأمر إليك(2).

فقال عبد الرحمن يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا فأني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان.

فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم، إني لأعجب من قريش انهم تركوا رجلا لا أقول ان أحداً اعلم ولا أقضى منه بالعدل أما والله لو أجد عليه أعوانا(3).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) وفي صحيح البخاري: ابايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبدالرحمنوبايعه الناسس المهاجرونوالانصاروامراءالأجنادوالمسلمون

(2) وفي تاريخ اليعقوبي 1: 162 قال علي (عليه السلام) لعبد الرحمن بن عوف انت مجتهد ان تزوي هذا الامر عني.

(3) جاء في تاريخ اليعقوبي ج2: 163 قول المقداد: واعجبا لقريش ودفعهم هذا الامر عن اهل بيت نبيهم. وفي مروج الذهب ج2: 343 قال المقداد: يا عبد الرحمن اعجب من قريش انما تطولهم على الناس بفضل اهل هذا البيت قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعده من ايديهم، اما وايم الله يا عبد الرحمن لو أجد على قريش انصارا لقاتلتهم كقتالي أياهم مع النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر) .

(قال المسعودي وجرى بينهم من الكلام خطب طويل قد أتينا على ذكره في كتابنا أخبار الزمان في أخبار الشورى والدار) .

قلت قد أورد الكلام مفصلا ابن أبي الحديد في شرح النهج (ج 9: 56) نقلا عن سقيفة الجوهري:

قال عوانة قال إسماعيل قال الشعبي فحدثني عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي قال كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو فسمعته يقول. . . اما و الله لو ان لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد فقال عبد الرحمن ثكلتك أمك لا يسمعن هذا الكلام الناس فإني أخاف ان تكون صاحب فتنة و فرقة. قال المقداد ان من دعا إلى الحق و أهله و ولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة و لكن من أقحم الناس في الباطل و آثر الهوى على الحق فذلك صاحب الفتنة و الفرقة. قال فتربد وجه عبد الرحمن ثم قال لو اعلم انك إياي تعنى لكان لي و لك شأن. قال المقداد إياي تهدد يا بن أم عبد الرحمن ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف. قال جندب بن عبد الله فاتبعته و قلت له يا عبد الله أنا من أعوانك، فقال رحمك الله ان هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان و لا الثلاثة، قال فدخلت من فوري ذلك على علي (عليه السلام) فلما جلست إليه قلت يا أبا الحسن و الله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك فقال صبر جميل و الله المستعان. فقلت و الله انك لصبور قال فان لم اصبر فما ذا اصنع، قلت إني جلست إلى المقداد بن عمرو آنفا و عبد الرحمن بن عوف فقالا كذا و كذا ثم قام المقداد فاتبعته فقلت له كذا فقال لي كذا فقال علي (عليه السلام) لقد صدق المقداد، فماذا اصنع؟ فقلت تقوم فى الناس فتدعوهم إلى نفسك وبخبرهم انك أولى بالنبي (صلى الله عليه وآله) ، وتسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك فإذا أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين، فان دانوا لك فذاك وإلا قاتلتهم وكنت أولى بالعذر قتلت أو بقيت، وكنت أعلى عند الله حجة، فقال (عليه السلام): اترجو يا جندب ان يبا يعني من كل عشرة واحد؟ قلت ارجو ذلك، قال لكني لا ارجو ذلك، لا والله ولا من المائة واحد وسأخبرك ان الناس ينظرون إلى قريش فيقولون هم قوم محمد وقبيله واما قريش بينها تقول ان آل محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلا ويرون انهم اولياء هذا الأمر دون قريش ودون غيرهم من الناس وهم ان وَلَوْه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا و متى كان في غيرهم تداولته قريش بينها لا و الله لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا. فقلت جعلت فداك يا بن عم رسول الله لقد صدعت قلبي بهذا القول ا فلا ارجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك و أدعو الناس إليك فقال يا جندب ليس هذا زمان ذاك. قال فانصرفت إلى العراق فكنت اذكر فضل علي على الناس فلا اعدم رجلا يقول لي ما اكره واحسن ما اسمعه قول من يقول دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك فأقول ان هذا مما ينفعني و ينفعك فيقوم عني و يدعني.

و زاد أبو بكر احمد بن عبد العزيز الجوهري حتى رُفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبه أيام وَلِيَنا فبعث إليَّ فحبسني حتى كُلِّم فيَّ فخلى سبيلي.

وروى الجوهري قال نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم يا معشر المسلمين أنا قد كنا ما كنا نستطيع الكلام قلة و ذلة فأعزنا الله بدينه و وأكرمنا برسوله فالحمد لله رب العالمين يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم تحولونه هاهنا مره و هاهنا مره ما أنا آمن ان ينزعه الله منكم و يضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله و وضعتموه في غير أهله. فقال له هشام بن الوليد بن المغيرة يا بن سمية لقد عدوت طورك و ما عرفت قدرك ما أنت و ما رأت قريش لأنفسها انك لست في شىء من أمرها و إماراتها فتنح عنها. و تكلمت قريش بأجمعها فصاحوا بعمار و انتهروه فقال الحمد لله رب العالمين ما زال أعوان الحق أذلاء ثم قام فانصرف.

«صفحة 196»

فقال عبد الرحمن يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة »(1).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري ج4: 224 عن عمر بن شبة عن علي بن محمد (المدائني) عن وكيع عن الاعمش عن ابراهيم (التيمي) ومحمد بن عبد الله الانصاري عن ابن ابي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب، وابي مخنف عن يوسف بن يزيد عن عباس بن سهل، ومبارك بن فضالة عن عبيد الله بن عمر ويونس بن ابي اسحق عن عمر و بن ميمون الاودي، وفي تاريخ المدينة المطبوع لابن شبة ج3 ص 924 سقط من الرواية نحو من ثلاث ورقات من اولها مع الاسانيد. وقد روى الرواية ايضا ابن عبد ربه في العقد الفريد ج2744-280 روى القسم الاول منها عن يونس عن الحسن وهشام بن عروة عن ابيه، ومن هذا القسم قول عمر لابي طلحة « وقم على رؤوسهم (اي الستة اهل الشورى) فان اجتمع خمسة على رأي واحد وابي واحد فاشدخ راسه بالسيف. . » وروى القسم الثاني (ومنه قول المقداد واختلاف بني امية وبني هاشم) عن ابي الحسن المدائني وكلا القسمين لم ينسبهما الى عمرو بن ميمون. وقد حاول يحيى اليحيي في رسالته للماجستير (مرويات ابي مخنف) ط الرياض 1410 ان يجعل متن الرواية بقسميها على انها رواية ابي مخنف وان قصة الشورى في الطبري انما هي تلفيق بين متون رواية ابراهيم التيمي وشهربن حوشب وابي مخنف، ولا دليل له على ذلك اذ لو كان الطبري قد صنع ذلك لاشار اليه كما هو ديدنه (نظير ما صنعه في المورد الذي رواه في ج4، 213، وج4: 198وغيرها) ولو كان ابن شبة صنعه لاشار اليه ولو اشار اليه لذكره الطبري عنه لان روايته انما هي رواية ابن شبة باسانيدها التي ذكرها ولم يضف اليها شيئا آخر. وقد حاول مؤلف رسالة الماجستير ايضا تضعيف رواية ابن سعد في الطبقات ج3: 342 بسنده الى سماك بن حرب التي تفيد ان عمر امر بادخال اهل الشورى بيتا ثلاثة ايام فان استقاموا والا فلتضرب اعناقهم. بدعوى ان سليمان بن حرب ضعيف ونقل ذلك عن التقريب لابن حجر غير ان المؤلف لم ينقل للقارىء بأمانة ما وجده في المصدر اذ قال ابن حجر في التقريب (ان سماك بن حرب صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة) ، وهذا التخصيص قد قال به ابن المدائني قبل ابن حجر، وفي ميزان الاعتدال للذهبي قال في ترجمة سماك (صدوق صالح من اوعية العلم مشهور وقال يعقوب بن شيبة هو في عكرمة غير صالح) .

«صفحة 197»

أقول ان هذه الرواية لا تدع شكا في ان حصر عمر الأمر في الستة على ان يبايعوا أحدهم لم يكن مجرد ترشيح ولو كان كذلك فما الداعي إلى الأمر بقتل الواحد إذا خالف الخمسة والاثنين إذا خالفا الأربعة؟

ان التأمل في الفقرات التي أوردناها تلفت نظر القارئ إلى ان السلطة كانت بيد قريش وان المسلمين كانوا مغلوبين على أمرهم، وان مثل عمار بن ياسر الذي يقول فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ان عمارا ملئ أيمانا إلى أخمص قدميه) (من ابغض عمار ابغضه الله تعالى) (1) كان يقال له حين هتف باسم علي ما أنت وتأمير قريش لأنفسها).

ومن هنا قال المقداد(2) قوله « أما والله لو أجد عليه أعوانا » الآنف الذكر.

علي (عليه السلام) يتظلم من قريش:

وقد نبَّه علي (عليه السلام) في أحاديثه مرارا إلى هذه الحقيقة المرة في تغلب قريش بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) على الأمر كما في قوله: « اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغرّوا عظيم منزلتي، واكفأوا إنائي، واجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري، وقالوا إلا ان في الحق ان تأخذه، وفي الحق ان تُمنعه، فاصبر مغموما، أو مُت متأسفا، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنية، فاغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجاوصبرت من كظم الغيظ على أمرِّ من العلقم، وآلم للقلب من حز الشفار(3).

وقوله (عليه السلام): « فجزى قريشا عني الجوازي فانهم ظلموني حقي واغتصبوني

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الاستيعاب: 1138 ترجمة عمار.

(2) قال في الاستيعاب: 1480 في ترجمته: كان قديم الاسلام وهو من السبعة الاوائل الذين اظهروا الاسلام بمكة وقد شهد مشاهد النبي (صلى الله عليه وآله) كلها.

(3) كلام: 217 نهج البلاغة الخطبة: 172.

«صفحة 198»

سلطان ابن امي »(1).

وقوله: « لقد أخافتني قريش صغيرا، وانصبتني كبيرا، حتى قبض الله رسوله فكانت الطامة الكبرى »(2).

وقوله في رسالته لاخيه عقيل: « فان قريشا قد اجتمعت على حرب اخيك اجتماعها على حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل اليوم، وجهلوا حقي، وجحدوا فضلي، ونصبوا لي الحرب، وجدُّوا في اطفاء نور الله، اللهم فاجزِ قريشا عني بفعالها، قد قطعت رحمي وظاهرت عليَّ… »(3).

وقوله: « أما والله لقد تقمصها(4) فلان(5) وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير، (6) فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا(7)، وطفقت ارتئي بين ان أصول بيد جذاء(8)، أو أصبر على طخية عمياء(9)… فرأيت الصبر على هاتا احجى… حتى إذا مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده… فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لَشَدَّما تشطرا ضرعيها، فصيّرها في حوزة خشناء، يغلظ كَلْمُها… فصبرت على طول المدةوشدة المحنة(10)، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة، زعم أني أحدهم، فيالله

ـــــــــــــــــــــــ

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج9: 306.

(2) شرح النهج ج9: 54 ومروج الذهب ج3: 12.

(3) الامامة والسياسة ج1: 56 انساب الاشراف ج2: 75 الاغاني ج15: 46 نهج البلاغة ج3: 68 حمهرة رسائل العرب ج1: 595.

(4) الضمير يرجع الى الخلافة والامرة

(5) يريد ابا بكر.

(6) أي لا يضاهيه في منزلته في زمانه احد.

(7) الكشح بين الخاصرة والجنب وطويت عنها كشحا كناية عن تركها.

(8) الجذاء المقطوعة.

(9) الطخية هي الظلمة ونسبة العمى اليها مجاز عقلي وانما يعمى القائمون فيها اذ لا يهتدون الى الحق، والمعنى فكرت في حالين حال القيام وليس من ناصر الا اهل بيتي وافراد قلائل وهم لا يكفون للنصرة او الصبر على ظلمة وبعد عن الحق وعودة الى الجاهلية بأسم الاسلام وهي ظلمة يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير كناية عن شدتها وطولها. ثم رأى (عليه السلام) ان الصبر على الحال الاخيرة احجى أي الزم واجدر عقلا وشرعا.

(10) استمرت هذه المحنة التي اشار اليها(عليه السلام) خمسا وعشرين سنة وتمثلت بالانقلاب على الاعقاب وكان ابرز مظاهره اضافة الى العدول عمن نصبه الله ورسوله حجة يهتدون بهديه ويحتكمون اليه لا الى غيره احياء بعض الاعراف الجاهلية (انظر الفصل السابع من هذا الكتاب) والمنع من نشر احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وبخاصة تلك التي ترتبط بالتعريف بأهل بيته (عليهم السلام) انظر مصادر ذلك صفحة 159 – 163، من وقد نتج عن هذه السياسة جهل صغار الصحابة فضلا عن اهل البلاد المفتوحة شرقا وغربا بمنزلة اهل البيت (عليهم السلام) وقد اشار إلى ذلك (عليه السلام) في كلام يتحدث فيه عن حال قريش ايام حكم الثلاثة حيث الفتوح بقيادتها وارتفاع ذكرها في تلك الأيام وخمول ذكره (عليه السلام) (فكنا ممن خمل ذكره وخبت ناره وانقطع صوبه وصيته حتى اكل الدهر علينا وشرب) شرح النهج 2: 299.

«صفحة 199»

وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت اقرن إلى هذه النظائرولكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا(1)، فصغا رجل(2) منهم لضغنه، ومال(3) الآخر لصهره، مع هن وهن(4)، إلى ان قام ثالث(5) القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى ان انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بِطنته.

فما راعني إلا وانثيال الناس كعرف الضبع(6) إليَّ ينثالون عليَّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالآمر نكثت طائفة(7) ومرقت أخرى(8) وقسط آخرون(9)… أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كِظَّةِ ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غار بها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز »(10).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) اسـف الـطائر دنا مـن الارض. والمعنـى انه (عليه السلام) سالمهم فدنا منهم واقتـرب حين كانوا يرغبون بذلك وابتعد عنهـم حين يجد رغبتهـم فــي ذلك.

(2) يشير الى سعد بن ابي وقاص قال الشيخ محمد عبده في شرحه للنهج « وكان في نفسه (أي سعد) شىء من علي كرم الله وجهه من قبل اخواله لان امه حمنة بنت سفيان بن امية بن عبد شمس ولعلي في قتل صناديدهم ما هو معروف ومشهور ».

(3) يشير الى عبد الرحمن بن عوف فقد كان صهرا لعثمان لان زوجته ام كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط كانت اختا لعثمان من امه.

(4) يشير الى اغراض اخرى كره ذكرها.

(5) يشير الى عثمان وقوله نافجا حضنيه أي رافعا لهما والحضن ما بين الابط والكشح ويقال للمتكبر جاء نافجا حضنيه. والنثيل الروث. والخضم: الاكل باقصى الاضراس او ملء الفم بالمأكول. والبطنة البطر والاشر.

(6) عرف الضبع: ما كثر على عنقها من الشعر ويضرب به المثل في الكثرة والازدحام. وينثالون يتتابعون مزدحمين.

(7) يشير إلى طلحة والزبير وأتباعهما.

(8) يشير إلى أهل النهروان.

(9) يشير إلى أهل صفين.

(10) الخطبة: 3. وهذه الخطبة هي المعروفة با الشقشقية وقد ذكروا في سبب تسميتها بذلك انه (عليه السلام) لما بلغ كلامه إلى الموضع الانف الذكر قام اليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا فاقبل ينظر فيه فلما فرغ من قراءته قال له ابن عباس (رضي الله عنه) يا امير المؤمنين لو اطردت مقالتك من حيث افضيت فقال هيهات يابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت.

قال ابن عباس فوالله ما اسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام الا يكون امير المؤمنين بلغ منه حيث اراد.

قال ابن ابي الحديد حدثني شيخي ابو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ ابي محمد عبد الله بن احمد المعروف يابن الخشاب هذه الخطبة، فلما انتهيت الى هذا الموضع، قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمك امر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف الا يكون بلغ كلامه ما اراد والله مارجع عن الاولين ولاعن الاخرين، ولا بقي في نفسه احد لم يذكره الا رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل. قال: فقلت له: اتقول انها منحولة! فقال: لا والله، واني لأعلم انها كلامه، كما اعلم انك مصدق. قال: فقلت له: ان كثيرا من الناس يقولون انها من كلام الرضي رحمه الله تعالى فقال انى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الاسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنِّفَت قبل ان يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط اعرفها، واعرف خطوط من هو من العلماء واهل الادب قبل ان يخلق النقيب ابو احمد والد الرضي.

قال ابن ابي الحديد: وقد وجدت انا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا ابي القاسم البلخي امام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل ان يخلق الرضي بمدة طويلة. ووجدت ايضا كثيرا منها في كتاب ابي جعفر بن قبة احد متكلمي الامامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الانصاف) وكان ابو جعفر هذا من تلامذة الشيخ ابي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل ان يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا. شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج1: 203-206.

«صفحة 200»

ومن الواضح ان الأنصار واغلب المهاجرين بعد ان انفلتوا من سلطان قريش(1)وعادت إليهم حريتهم تهافتوا على علي (عليه السلام) كتهافت الفراش يطلبون منه البيعة بصفته الشخص الذي دعا الكتاب والسنة إلى بيعته أما في زمن أبي بكر وعمر فلم تكن لهم حرية ان يبايعوا من أرادوا وأراده الكتاب والسنة إذ بايع خمسة أشخاص أبا بكر وهم عمر وأبو عبيدة وسالم من المهاجرين واسيد بن حضير وبشير بن سعد ومن تبعهما من الأنصار ممن كان حاضرا ولبّس الأمر على طائفة من الأنصار بسبب العصبية القبلية وأُجبِر الباقي على البيعة بشكل أو بآخر، وقد أشار علي (عليه السلام) إلى هذه الحرية في إحدى خطبه بقوله « ولئن رُدَّ عليكم أمركم أنكم لسعداء »(2). وأشار إلى التلبيس بقوله « ما ختلتكم عن أمركم ولا لبَّسته عليكم ».

ـــــــــــــــــــــــ

(1) كان ذلك بسبب عوامل عدة اهمها اختلاف قريش مع عثمان بسبب ايثاره بالولايات والاموال بني امية دون غيرهم من قبائل قريش.

(2) خطبة: 178.

«صفحة 201»

الحلقة الثانية

الفصل السادس ـ علي (عليه السلام) بايع الخلفاء مكرهاً

قال: ان عليا (عليه السلام) بايع الخلفاء برضاه والشيعة يؤولون ذلك بالتقية. اقول: قال السيد المرتضى (رحمه الله) وكيف يشكل على منصف ان بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن عن رضا والأخبار متظاهرة بين كل من روى السير بما يقتضي ذلك، حتى ان من تأمل ما روي في هذا الباب لم يبق لديه شك في انه (عليه السلام) ألجئ على البيعة وصار إليها /بعد المدافعة والمحاججة/ لأمور اقتضت ذلك ليس من جملتها الرضا.

«صفحة 202»

«صفحة 203»

نص الشبهة

قال صاحب النشرة: « وذهب فريق آخر من الباطنية إلى قراءة التاريخ الإسلامي قراءة أخرى وإنكار بعض الأحداث الماضية أو يفسرها تفسيرا معاكسا وتبرير أعمال مثل بيعة الإمام أمير المؤمنين للخلفاء الثلاثة بأنها كانت للتقية »(1).

وقال أيضا: « واضطر المتكلمون (الشيعة)… إلى إعادة كتابة التاريخ وتأويل بيعة الإمام أمير المؤمنين للخلفاء الثلاثة ودخوله معهم في الشورى عند انتخاب عثمان واحتجاجه على معاوية بانتخابه عبر الشورى… تأويل كل ذلك بالتقية والإكراه وما إلى ذلك من تأويلات تعسفية ظالمة ».

وقال ايضا: « ويعترف المؤرخون الشيعة ببيعة الإمام علي (عليه السلام) لأبي بكر… ويفسرون ذلك بالتقية. وتقول بعض الروايات الشيعية ان بيعة أبي بكر تمت بالقوة والإكراه.

وقد رد القاضي عبد الجبار في المغني على ذلك بقوله: انه لم يجر إكراه وإنما تعلق بذلك بعض الإمامية بروايات ليست صحيحة… وانه لا يجوز من مثل علي التقية… وهلا ظهرت منه التقية يوم الجمل وصفين »(2).

الرد على الشبهة

أقول: جعل صاحب النشرة الشيعة الإمامية الاثني عشرية أحد أفراد (الباطنية) وستأتي مناقشته على ذلك في موضع آخر.

قوله (ويعترف المؤرخون الشيعة ببيعة الإمام علي لأبي بكر ويفسرون ذلك

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الشورى العدد 3 ص 9.

(2) نظرية الامامة الالهية احمد الكاتب الفصل الرابع المبحث الرابع.

«صفحة 204»

بالتقية) يشير فيه إلى جواب السيد المرتضى ومن جاء بعده من علماء الشيعة الى اليوم ردا على مقولة السنة والمعتزلة من ان عليا (عليه السلام) امتنع عن بيعة أبي بكر ثم بايع راضيا.

ونحن نورد جواب السيد المرتضى باختصار وهو: ان عليا (عليه السلام) صحيح ترك النكير والخلاف بعد ما ظهر منه وبايع بعد وفاة فاطمة (عليها السلام) ولكنه ظهر منه في خلافته ما يكشف ان تركه الخلاف والمنازعة وإظهاره البيعة كان تقية، فهنا قضيتان:

الأولى: ان عليا (عليه السلام) بعد ما بويع واستقر الأمر له بعد عثمان اظهر النكير على الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه وكشف بذلك انه كان قد سالمهم وبايعهم لاعتبارات عدة ليس منها الرضا بهم وقد روي عنه (عليه السلام) انه كان يقول: « بايع الناس والله أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت أمري وألزقت كلكلي(1)بالأرض ثم ان أبا بكر هلك واستخلف عمر وقد والله علم اني أولى بالناس مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت أمري ثم ان عمر هلك وجعلها شورى وجعلني فيها سادس ستة كسهم الجدة فقال اقتلوا الأقل فكظمت غيظي وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض (ثم ان عثمان قتل فجاؤني فبايعوني طائعين غير مكرهين) حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر بالله »(2) وقوله (عليه السلام) (حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر بالله) منبها على ان سبب قتاله لطلحة والزبير ومعاوية وكفه عمن تقدم انه لما وجد الأعوان والأنصار لزمه الأمر وتعين عليه فرض القتال وفي الحال الأولى كان معذورا لفقد الأعوان والأنصار.

وروى الواقدي في كتاب الجمل بإسناده ان أمير المؤمنين (عليه السلام) حين بويع خطب فحمد الله أثنى عليه ثم قال: « حق و باطل و لكل أهل و لئن أمر الباطل لقديما فعل و لئن قل الحق لربما و لعل و قلما أدبر شىء فاقبل و إني لأخشى ان تكونوا في فترة و ما علينا إلا الإجتهاد وقد كانت لكم أمور ملتم فيها عليَّ ميلة لم تكونوا عندي فيها بمحمودين أما أني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الكلكل: الصدر.

(2) انظر ابن عساكرفي تاريخ دمشق 3: 101، 174-175 بترجمة اميرالمؤمنين.

«صفحة 205»

همته بطنه ويحه لو قُصَّ جناحُه و قُطِع رأسُه لكان خيرا له »(1)(2).

وقوله (عليه السلام) « لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى… » الخ الخطبة.

وقوله (عليه السلام) « ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه واله وإلى يوم الناس هذا ».

الثانية: ان ترك الإنكار بعد ظهوره منه (عليه السلام) لا يدل على رضاه، لان المسالمة وترك الإنكار قد تكون معبرة عن الرضا وقد تكون معبرة عن التقية والخوف على النفس.

قال السيد المرتضى (رحمهم الله):

« فان قال (أي صاحب المغني) ليس يجب علينا ان نقول فيما يدل على رضاه اكثر من بيعته وترك نكيره لان الظاهر من ذلك يقتضي ما ذكرناه وعلى من ادعى انه كان مبطنا بخلاف الرضا ان يدل على ذلك فانه خلاف الظاهر.

قيل له: ليس الأمر على ما قدرته لان سخط أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الاصل لأنه لا خلاف بين الأمة في انه عليه السلام سخط الأمر وأباه ونازع فيه وتأخر عن البيعة (فهنا أمران الأول سخطه (عليه السلام) الثاني: امتناعه عن البيعة) ثم انه لا خلاف في انه بايع بعد ذلك وترك النكير، فيبقى الأمر الأول وهو سخطه على حاله لم ينقله عنه شىء ويجب على من ادعى تغير الحال ان يثبت ذلك وليس له ان يجعل البيعة وترك الإنكار والخلاف دلالة الرضا لانا قد بينا ان البيعة وترك الإنكار قد يكونان عن رضا وقد يكونان عن غيره ».

ثم قال (رحمهم الله) أيضا:

« وكيف يشكل على منصف ان بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن عن رضا والأخبار متظاهرة بين كل من روى السير بما يقتضي ذلك، حتى ان من تأمل ما روي في هذا الباب لم يبق لديه شك في انه (عليه السلام) أُلجئ على البيعة وصار إليها بعد المدافعة والمحاججة لأمور اقتضت ذلك ليس من جملتها الرضا.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ابن ابي الحديد ج1: 275.

(2) ابن ابي الحديد ج1: 275.

«صفحة 206»

وقد روى أبو الحسن احمد بن يحيى بن جابر البلاذري -وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقاربة الشيعة والضبط لما يرويه معروف- قال: حدثني بكر بن الهيثم قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي (عليه السلام) حين قعد عن بيعته وقال ائتني به بأعنف العنف، فلما أتاه جرى بينهما كلام فقال له علي (عليه السلام): احلب حلبا لك شطره والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤمرك غدا، …، ثم أتى فبايعه »(1) وهذا الخبر يتضمن ما جرت عليه الحال وما يقوله الشيعة بعينه وقد انطق الله تعالى به رواتهم.

وقد روى البلاذري عن المدائني عن مسلمة بن محارب عن سليمان التيمي عن أبي عون « ان أبا بكر أرسل إلى علي (عليه السلام) يريده على البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه قبس فلقيته فاطمة (عليها السلام) على الباب فقالت: يا ابن الخطاب أتراك محرِّقا عليَّ بابي قال: نعم وذلك أقوِّي فيما جاء به أبوك وجاء علي (عليه السلام) فبايع »(2)، وهذا الخبر قد روته الشيعة من طرق كثيرة، وإنما الطريف ان نرويه لشيوخ محدثي العامة وكلهم كانوا يروون ما سمعوا بالسلامة، وربما تنبهوا على ما في بعض ما يروونه عليهم فكفوا عنه، وأي اختيار لمن يحرَّق عليه بابه حتى يبايع.

وقد روى إبراهيم بن سعيد الثقفي، قال حدثنا احمد بن عمرو البجلي، قال حدثنا احمد بن حبيب العامري عن حمران بن أعين عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: « والله ما بايع علي (عليه السلام) حتى رأى الدخان قد دخل بيته ».

وروى المدائني عن عبد الله بن جعفر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « لما ارتدت العرب مشى عثمان إلى علي (عليه السلام) فقال: يا ابن عم انه لا يخرج أحد إلى قتال هؤلاء وأنت لم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انساب الاشراف ج1: 587.

(2) انساب الاشراف ج1: 586 وفي ذيل الخبر (وقال علي(عليه السلام) كنت عزمت ان لا اخرج من منزلي حتى اجمع القرآن) . اقول هذه الزيادة موضوعة على علي (عليه السلام) لتبرير تأخره عن البيعة وقد وردت في خبر آخر رواه البلاذري عن ابن سيرين قال: قال ابو بكر لعلي (عليه السلام) اكرهت امارة (امارتي) قال لا ولكني حلفت ان لا ارتدي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) برداء حتى اجمع القرآن كما انزل) (ج1: 587) ولا شك ان القرآن كان مجموعا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) لان آخر آية نزلت هي آية اكمال الدين في 18 ذي الحجة وبقي النبي (صلى الله عليه وآله) بعدها سبعين يوما تقريبا وهي كافية لجمع القرآن ان لم يكن جمع قبل ذلك. كما هو الاليق بتصرف النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) مع القرآن.

«صفحة 207»

تبايع، ولم يزل به حتى مشى إلى أبي بكر فَسُرَّ المسلمون بذلك، وجَدَّ الناس في قتالهم »(1).

وروى البلاذري عن المدائني عن أبي جري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: « لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة بعد ستة اشهر فلما ماتت ضَرَع إلى صلح أبي بكر، فأرسل إليه ان يأتيه، فقال عمر لان تأته وحدك قال: وماذا يصنعون بي فأتاه أبو بكر فقال له (عليه السلام): … والله لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) احب إلي من قرابتي فلم يزل علي (عليه السلام) يذكر حقه وقرابته حتى بكى أبو بكر فقال ميعادك العشية، فلما صلى أبو بكر خطب وذكر عليا (عليه السلام) وبيعته ثم بايع أبا بكر فقال المسلمون: أصبت وأحسنت »(2).

ومن تأمل هذا الخبر وما جرى مجراه عليهم كيف وقعت الحال في البيعة، وما الداعي إليها، ولو كانت الحال سليمة والنيات صافية، والتهمة مرتفعة، لما منع عمر أبا بكر ان يصير إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).

وروى إبراهيم الثقفي عن محمد بن أبي عمير عن أبي عن صالح بن أبي الأسود عن عقبة بن سنان عن الزهري قال: « ما بايع علي (عليه السلام) إلا بعد ستة اشهر، وما اجتُرِئَ عليه إلا بعد موت فاطمة (عليها السلام) ».

وروى إبراهيم عن يحيى بن الحسن، عن عاصم بن عامر، عن نوح بن دراج، عن داود بن يزيد الاودي، عن أبيه عن عدي بن حاتم قال: « ما رحمت أحدا رحمتي عليا حين أتى به مُلَبَّبا فقيل له: بايع، قال: فان لم افعل؟ قالوا: إذا نقتلك، قال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، ثم بايع كذا وضم يده اليمنى ».

وروى إبراهيم عن عثمان بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد البجلي عن داود بن يزيد الاودي عن أبيه عن عدي بن حاتم قال « إني لجالس عند أبي بكر إذ جىء بعلي (عليه السلام) فقال له أبو بكر: بايع، فقال له علي (عليه السلام): فأن لم افعل؟ فقال: اضرب الذي

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انساب الاشراف ج1 587.

(2) روى الخبر مفصلا البخاري في كتاب المغازي باب غزرة خيبر ج3: ص 46ورواه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد ج5: 154.

«صفحة 208»

فيه عيناك(1)، فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: اللهم اشهد، ثم مد يده ».

وقد روي هذا المعنى من طرق مختلفة، وبألفاظ متقاربة المعنى وان اختلفت ألفاظها، وانه (عليه السلام) كان يقول في ذلك اليوم لما أُكرِه على البيعة وحُذِّرَ من التقاعد عنها: « يا ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمتبي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين » ويردد ذلك ويكرره، وذِكْرُ اكثر ما روي في هذا المعنى يطول فضلا عن ذكر جميعه، وفيما أشرنا إليه كفاية ودلالة على ان البيعة لم تكن عن رضىواختيار ».

ثم قال (رحمهم الله) أيضا:

« ومن أدل دليل على ان كفه (عليه السلام) عن النكير وإظهار الرضا لم يكن اختيارا وإيثارا، بل كان لبعض ما ذكرناه انه لا وجه لمبايعته بعد الإِباء إلا ما ذكرناه بعينه فان إباءهالمتقدم لا يخلو من وجوه:

إما ان يكون ما ادعاه صاحب الكتاب من انشغاله بالنبي (صلى الله عليه وآله) وابنته، واستيحاشه من ترك مشاورته، وقد أبطلنا ذلك بما لا زيادة عليه(2) ».

أو لأنه كان ناظرا في الأمر ومريبا في صحة العقد أما بأن يكون ناظرا في صلاح المعقود له الإمامة، أو في تكامل شروط عقد إمامته، ووقوعه على وجه الصحة، وكل ذلك لا يجوز ان يكون خافيا على أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا ملتبسا، بل كان به اعلم واليه اسبق، ولو جاز ان يخفى على مثله وقتا ووقتين لما جاز ان يستمر الأوقات، وتتراخى المدد في خفائه وكيف يشكل عليه صلاح أبي بكر للإمامة وعندهم ان ذلك كان معلوما ضرورة لكل أحد، وكذلك عندهم صفات العاقدين وعددهم، وشروط العقد الصحيح مما نص النبي (صلى الله عليه وآله) واعلم الجماعة به على سبيل التفصيل. فلم يبق شىء يرتئي فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وينظر في أصابته النظر الطويل يحمل عليه إباؤه وامتناعه

ـــــــــــــــــــــــ

(1) لو لم يبايع علي (عليه السلام) لقتل جهرةً كما قتل مالك بن نويرة وقيل عنه قتل مرتدا انظر قصة قتل مالك في شرح النهج 18: 203 نقلا عن المغني للقاضي عبد الجبار. او يقتل غيلة كما قتل سعد بن عبادة في خلافة عمر حيث بعث اليه عمر رجلا وقال له ادعه الى البيعة وان ابى فأستعن بالله عليه فجاءه فرفض البيعة فرماه بسهم فقتله واشيع عنه ان الجن قتله(البلاذريج1: 589) . وفي شرح النهج ج18: 223 ان قتل سعد كان في خلافة أبي بكر.

(2) انظر الشافي ج3: 249-250 حيث تعرض لذلك.

«صفحة 209»

من البيعة في الأول إلا ما نذكره من أنها وقعت في غير حقها ولغير مستحقها، وذلك يقتضي ان رجوعه إليها لم يكن إلا لضرب من التدبير(1).

وقوله (إلا لضرب من التدبير) أي للتقية والخوف على النفس.

رد على القاضي عبد الجبار:

اما قول صاحب المغني: « انه لايجوز من مثل علي (عليه السلام) التقية… وهلا ظهرت منه التقية يوم الجمل وصفين ».

فيَرُدُّه قول علي (عليه السلام) « لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر و… لا لقيت حبلها على غاربها » وقوله (عليه السلام) « لوجدت أربعين ذوى عزم لقاتلتهم » وقوله (عليه السلام) لجندب بن عبد الله الازدى حين اقترح عليه ايام الشورى ان يقوم فى الناس فيدعوهم الى نفسه ويسألهم النصر فان اجابه عشرة من مأة شدَّ بهم على الباقين اجابه (عليه السلام) « اترجو ان يبايعنى من كل عشرة واحد؟ قلت ارجو ذلك قال: لكني لا أرجو ذلك لا والله ولا من المأة واحد سأخبرك ان الناس انما ينظرون الى قريش فيقولون هم قوم محمد وقبيله… لا والله لايدفع الناس (أي قريش) هذا الامر طائعين ابدا ».

وكذلك يرده قوله علي (عليه السلام) فى خطبته الشقشقية « فنظرت فاذا ليس لي رائد الا ذاب ولامساعد الا اهل بيتي فضننت بهم عن المنية »(2).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر كتاب الشافي ج3: 217-251.

(2) مرت مصادر هذه الكلمات فى الفصل الاول والفصل الخامس.

«صفحة 210»

«صفحة 211»

الحلقة الثانية

الفصل السابع ـ قصة متعة الحج والعبرة منها

قال البغدادي: لو كان ثمة نص على علي (عليه السلام) فأن الصحابة اكبر من ان يخالفوا أمر النبي (صلى الله عليه وآله). أقول: لم يكن الصحابة معصومين وقد تورطوا في اكثر من مرة بمخالفة النص الصريح وقصة متعة الحج من اكبر الشواهد.

«صفحة 212»

«صفحة 213»

نص الشهبة

قال البغدادي:

« ان من الغرابة بمكان ان يكون الطريق الوحيد هو ان يختار النبي بأمر الله شخصا/ هو علي / يعده قياديا ورساليا ومع ذلك لم يجد أغلبية تؤيده من الجيل الطليعي للامة ».

الرد على الشبهة

اقول: تزول هذه الغرابة إذا عرفنا ان أغلبية الصحابة كانوا قد خالفوا في تشريعات عبادية فضلا عن غيرها ولعل افضل حادثة تصور لنا هذه الحقيقة بكل وضوح هي مسألة حج التمتع وقد وردت أخبارها في كل كتب الحديث والى القارئ الكريم خلاصة عنها:

العمرة والحج في الإسلام:

هناك ثلاثة أنواع من الحج في الإسلام:

الأول حج التمتع: وهو فرض من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، ويتألف من عمرة التمتع وحج التمتع، وصورة عمرة التمتع هي، ان يحرم من الميقات في اشهر الحج ثم يأتي مكة ويطوف بها سبعا، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا، ثم يقصر، فيحل من جميع ما حرم عليه بالإحرام، ويقيم بمكة محلا إلى يوم التروية أي اليوم الثامن من ذي الحجة فينشئ إحراما لحج التمتع من الحرم، ثم يخرج إلى عرفات، ثم يفيض عنها بعد غروب التاسع إلى المشعر، ومنه إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، ثم الذبح ثم الحلق ان كان حجه صرورة وبه يتحلل إلا من النساء

«صفحة 214»

والطيب، ثم يطوف ويصلي ويسعى فيحل له الطيب، ثم يطوف طواف النساء ويصلي فتحل له النساء، ثم يرجع إلى منى للمبيت بها ورمي الجمرات الثلاث، فإذا بات ليلتين بمنى جاز له النفر في اليوم الثاني عشر بعد الزوال، ويسمى هذا الحج بحج التمتع، لان الحاج يتمتع بالحل بين إحرامي العمرة، والحج ومدة الحل بين الإحرامين هي متعة الحج التي حرمها الخليفة عمر وتبعه اكثر المسلمين في وقته.

الثانى حج الإفراد: ويتألف من حج أولا ثم عمرة يأتي بها بعد الانتهاء من المناسك في منى، وتسمى هذه العمرة بالمفردة، كما يسمى الحج بحج الإفراد، لان الحاج يأتي بكل منهما مفردا وليس في هذا الحج هدي.

الثالث حج القران: هو كحج الإفراد مع ملاحظة ان الحاج يسوق الهدي معه عند إحرامه، وقد سمي بذلك لان الحاج يقرن بين التلبية وسوق الهدي.

والنوعان الأخيران من الحج فرض حاضري المسجد الحرام.

العمرة والحج في الجاهلية:

كان الحج والعمرة من اهم الشعائر في الجاهلية وهما إضافة إلى أمور أخرى مما بقي من دين إبراهيم (عليه السلام)، وقد تحملت قريش بوصفها سكان البيت وذرية ابراهيم (عليه السلام) مسئولية إقامة الحج وتعليم الناس الوافدين إلى مكة أحكام الحج وكانت مكة قد عَظُمَ شأنها بعد حادثة الفيل، وانعكس ذلك على قريش، وابتدعت قريش بعد وفاة عبد المطلب بدعا خاصة في الحج وتابعتها العرب على ذلك، وكان من تلك البدع هو بدعة تحريم العمرة في اشهر الحج وجعلها من افجر الفجور.

قال ابن القيم: (اعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة. . والمقصود مخالفة هدي المشركين فانهم كانوا يكرهون العمرة في اشهر الحج) زاد المعاد 1 / 209.

حجة الوداع:

كانت حجة الوداع هي الحجة الأولى والأخيرة التي بيَّن النبي (صلى الله عليه وآله) فيها أحكام حج

«صفحة 215»

التمتع، وكان قد جعل عمرة التمتع جزءا من الحج، وقد وقعت هذه الحجة في السنة العاشرة من الهجرة، وذلك بعد ان أسلمت جزيرة العرب ومن شاء الله من أهل اليمن وقدم المدينة بشر كثير يريدون ان يأتموا برسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال أهل السير: « فخرج لخمس بقين من ذي القعدة ومعه أزواجه وأهل بيته وعامة المهاجرين والأنصار ومن شاء الله من قبائل العرب وإفناء الناس »(1).

روى أبو داود في سننه(2) ان النبي (صلى الله عليه وآله) لما وصل إلى عسفان (وهي بين الجحفة ومكة والجحفة تبعد عن مكة أربعة مراحل) قال له سراقة بن مالك المذحجي يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال (صلى الله عليه وآله):

« ان الله تعالى قد ادخل عليكم في حجكم هذا عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلاّ من كان معه هدي ».

وتكرر منه (صلى الله عليه وآله) نظير ذلك في (سَرَف) التي تبعد ستة أميال من مكة(3).

ولننظر الآن كيف تلقى الصحابة تشريع حج التمتع.

موقف قريش من حج التمتع:

روى مسلم في صحيحه(4) عن جابر قال:

« أهللنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحج فلما قدمنا مكة امرنا ان نحل ونجعلها عمرة فَكَبُرَ ذلك علينا وضاقت به صدورنا فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله). . فقال: أيها الناس أحلوا، فلولا الهدي الذي معي فعلت مثل الذي أمرتكم به. قال فأحللنا حتى وطئنا النساء، وفعلنا ما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج ».

وفي رواية البخاري في صحيحه عن جابر أيضا: « فبلغه (أي النبي (صلى الله عليه وآله)) انا نقول:

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الامتاع 1: 511. وفي السيرة الحلبية 3: 308 ان الذين خرجوا معه كانوا اربعين الفا وقيل كانوا سبعين الفا وقيل كانوا تسعين الفا وقيل كانوا مائة الف واربعة عشر الفا وقيل عشرين الفا وقيل كانوا اكثر من ذلك.

(2) 1: 159.

(3) صحيح البخاري 1: 189. وصحيح مسلم: 875. وأيضا في بطحاء مكة سنن البيهقي 5: 4.

(4) صحيح مسلم: 882 ح138.

«صفحة 216»

لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس امرنا ان نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا ».

ومثله رواية مسلم وابن ماجة وأبي داود ومسند احمد.

وفي رواية أخرى للبخاري(1) أيضا: « ففشت في ذلك القالَةُ فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقام خطيبا فقال: بلغني ان أقواما يقولون كذا وكذا والله لانا أبَرُّ واتقى لله منهم » وفي رواية سنن ابن ماجة ومسند احمد ومجمع الزوائد: « قال الناس يا رسول الله قد احرمنا بالحج فيكف نجعلها عمرة؟ قال: انظروا ما آمركم به فافعلوا، فردوا عليه القول، فغضب، فانطلق ثم دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله! قال: ما لي لا اغضب وأنا آمر أمرا فلا أُتَّبَع »(2).

وفي رواية مسلم(3): « قالت عائشة: قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل عليَّ وهو غضبان، فقلت من أغضبك يا رسول الله ادخله الله النار؟ قال: وما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ».

قال العلامة العسكري: « يبدو ان الممتنعين من التمتع بالعمرة إلى الحج الذين تعاظم عليهم ذلك كانوا من مهاجرة قريش من أصحاب النبي ويدل على ذلك أولا: ما رواه ابن عباس في حديثه (ان هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة ومحرم). وثانيا: ان الذين منعوها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم ولاة المسلمين من قريش ».

حج التمتع على عهد ابي بكر:

روى البيهقي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال:

« حججتُ مع أبي بكر فجرَّد، ومع عمر فجرد ومع عثمان فجرد »(4). ومعنى جَرَّد أي افرد الحج.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) 2: 52.

(2) مسند احمد 4: 286، مجمع الزوائد 3: 233، سنن ابن ماجة: 993.

(3) صحيح مسلم: 879.

(4) سنن البيهقي 5: 5.

«صفحة 217»

حج التمتع على عهد عمر:

روى مالك بن انس في الموطأ عن عبد الله بن عمر قال:

« ان عمر بن الخطاب قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم فان ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته ان يعتمر في غير اشهر الحج ».

وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند احمد وغيرهم عن أبي موسى الاشعري قال: « كنت أفتي الناس بذلك (أي بالحل بعد إتمام أعمال متعة الحج) في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال انك لا تدري ما احدث أمير المؤمنين في شان النُّسُك فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشىء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه ائتموا(1). . ثم ذكر أمره بفصل الحج عن العمرة ».

وفي حلية الأولياء(2): « ان عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في اشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول الله وأنا أنهى عنها وذلك:

ان أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا اشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله ان كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهَلَّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما، والحج افضل من العمرة، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك، وان أهل هذا البيت (أي أهل مكة) ليس لهم ضرع ولا زرع، وإنما ربيعهم في من يطرأ عليهم ».

وفي رواية مسلم: « فقال عمر: قد علمت ان النبي فعله وأصحابه ولكن كرهت ان يضلوا معرِّسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم »(3).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) يؤكد قول الاشعري هذا ان السلطة القرشية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت قد عرضت نفسها على انها السلطة التشريعية، بمعنى ان الدين هو ما تقرره، مضافا الى السلطة الاجرائية.

(2) 5: 205.

(3) صحيح مسلم: 896 ح157. مسند الطيالسي 2: 70 ح516. مسند احمد 1: 49 – 50، سنن النسائي 2: 16. من هذه الرواية نفهم ان عمر كان من الذين انكروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) امر متعة الحج وانه قال ضمن من قال (انغدوا حجاجا ورؤوسنا تقطر) .

«صفحة 218»

وقد نقل النووي في شرح صحيح مسلم(1) عن القاضي عياض ان عمر كان يضرب على متعة الحج ».

حج التمتع على عهد عثمان:

تابَعَ الخليفة عثمان سَلَفه عمر في ما استن من الفصل بين الحج والعمرة والضرب عليها قال ابن حزم(2): « ان عثمان سمع رجلا يُهِلُّ بعمرة وحج، فقال: عليَّ بالمُهِل، فضربه وحلقه »، الضرب للتأديب والحلق للتشهير، وفي الشطر الثاني من خلافة عثمان حيث نَقِمَ المسلمون عليه كثيرا من أحداثه، سجلت كتب الحديث اكثر من رواية تشرح معارضة علي (عليه السلام) بقوة تحريم متعة الحج.

موقف علي (عليه السلام) من حج التمتع:

روى مالك في الموطأ: « ان المقداد بن الأسود دخل على علي (عليه السلام) بالسُقْيا وهو يُنجِع بَكرات له دقيقا وخبطا، فقال هذا عثمان بن عفان ينهى ان يقرن بين الحج والعمرة، فخرج علي (عليه السلام) وعلى يديه اثر الدقيق والخبط فما أنسى اثر الدقيق والخبط، على ذراعيه، حتى دخل على عثمان فقال: أنت تنهى عن ان يُقْرَنَ بين الحج والعمرة، فقال: عثمان ذلك رأيي، فخرج عليٌّ (عليه السلام) مغضبا وهو يقول: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا(3).

وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند احمد واللفظ للاول عن سعيد بن المسيب قال: « حج علي وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع فقال علي إذا رأيته ارتحل فارتحلوا فلبى علي وأصحابه بالعمرة… »(4).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) 1: 170.

(2) المحلى 7: 107.

(3) موطأ مالك الحديث 40 من باب القِران في الحج: 336، وابن كثير 5: 129، و(السقيا) قرية جامعة بطريق مكة، و(ينجع) يسقي، و(بكرات) جمع بكرة ولد الناقة أو الفتى منها، و(الخَبْط) ضرب من ورق الشجر حتى ينحات عنه ثم يستخلف من غير ان يضر ذلك باصل الشجر واغصانها قال الليث (الخَبَط) خَبَط ورق العِظاء من الطلح ونحوه يخبط يضرب بالعصا فيتناثر ثم يعلف الابل.

(4) سنن النسائي 2: 15 كتاب الحج باب حج التمتع. ومسند احمد 1: 57 الحديث 402 بمسند عثمان. ومستدرك الصحيحين 1: 472. وتاريخ ابن كثير 5: 126 و 127.

«صفحة 219»

قال الإمام السندي بهامشه: « قال (إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا) أي ارتحلوا معه ملبين بالعمرة ليعلم أنكم قدمتم السنة على قوله، وانه لا طاعة له في مقابل السنة »(1).

وفي صحيح البخاري وسنن النسائي وسنن الدارمي وسنن البيهقي ومسند احمد ومسند الطيالسي وغيرها عن علي بن الحسين (عليهما السلام) عن مروان بن الحكم قال: « شهدت عثمان وعليا (عليه السلام) وعثمان ينهى عن المتعة وان يجمع بينهما فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة معا قال ما كنت لأدع سنة النبي (صلى الله عليه وآله) لقول أحد »(2).

وفي لفظ النسائي: « فقال عثمان أتفعلها وأنا أنهى عنها فقال علي لم اكن لأدع سنة رسول الله لأحد من الناس ».

هذا هو موقف علي (عليه السلام) من أمر متعة الحج في عهد عثمان، وهو موقفه ايضا في عهد عمر ولكنه (عليه السلام) لم يتابع إنكاره على عمر، بقوة لشدة عمر المعروفة ولما تولى علي (عليه السلام) الأمر بعد قتل عثمان كان من الطبيعي ان يحث على إقامة سنة النبي (صلى الله عليه وآله) في حج التمتع وغيرها وكذلك كان الأمر في عهد الحسن (عليه السلام).

حج التمتع على عهد معاوية:

لما تولى معاوية أمر الحكم عمل على إحياء سنن الخلفاء الثلاثة وكان منها تحريم متعة الحج ففي سنن النسائي عن ابن عباس قال: هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة. وقد تمتع النبي (صلى الله عليه وآله).

وفي موطأ مالك وسنن النسائي وسنن الترمذي عن محمد بن عبد الله بن الحارث: « انه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: يا بن قيس لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل، فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد

ـــــــــــــــــــــــ

(1) يتضح من الرواية وتعليق السندي ان عليا (عليه السلام) واصحابه كانوا في الحج على السنة وكان عمر وعثمان ومن اقتدى بهما على خلاف السنة.

(2) صحيح البخاري 1: 190.

«صفحة 220»

نهى عن ذلك، فقال سعد: قد فعلها رسول الله وفعلناها معه ».

أقول: قوله (قد فعلها رسول الله)، تعبير غير صحيح من الراوي لان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قد ساق الهدي ولم يحل، وإنما أمر بالحل.

لقد جدَّ معاوية خاصة بعد وفاة الحسن (عليه السلام) في المنع من متعة الحج فلم يكن يجرؤ من يعرف الحقيقة وثبت عليها من المجاهرة بها كما يظهر من الرواية الآتية:

روى مسلم عن مطرِّف قال: « بعث إليَّ عمران بن الحصين في مرضه الذي توفي منه فقال: أني محدثك بأحاديث لعل الله ان ينفعك بها بعدي فان عشت فاكتم عني وان مت فحدِّث بها ان شئت. . واعلم ان نبي الله (صلى الله عليه وآله) قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب يحرم، ولم ينه عنها رسول الله، قال فيها رجل برأيه ما شاء »(1).

اقول: اراد بالرجل الذي قال فيها برأيه ما شاء هو عمر.

حج التمتع على عهد ابن الزبير:

ولما ولي ابن الزبير مكة اكثر من عشر سنوات واصل هو وبنو أبيه في منع المسلمين من عمرة التمتع فوقعت بينهم وبين أتباع علي (عليه السلام) مناظرات ومساجلات، ففي صحيح مسلم(2): « كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها ».

وفي زاد المعاد: « قال عبد الله بن الزبير افرِدوا الحج أي لا تجمعوا بين الحج والعمرة ودعوا قول أعماكم هذا (يريد ابن عباس) فقال عبد الله بن عباس: ان الذي أعمى قلبه لأنت، ألا تسأل أمك عن هذا، فأرسل إليها فقالت: صدق ابن عباس جئنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجاجا فجعلناها عمرة، فحللنا الإحلال كله، حتى سطعت المَجامِر بين الرجال والنساء »(3).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح مسلم ج168: 161، 169. وعمران بن حصين توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين. يتضح من هذه الرواية ان السلطة القرشية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت قد عرَّضت سنة محمد (صلى الله عليه وآله) للتحريف حين ادخلت فيها برأيها ما شاءت كما عرَّضت سنة ابراهيم في الحج بعد وفاة عبد المطلب حين ادخلت فيها برأيها ما شاءت من بدعة الحمس وتحريم العمرة في اشهر الحج.

(2) الحديث 194.

(3) زاد المعاد 1: 248. انظر أيضا زوائد المسانيد الثمانية 1: 330 الحديث 1108 والمصنف لابن أبي شيبة 4: 103.

«صفحة 221»

وفي مسند احمد: « قال عروة بن الزبير لابن عباس: متى تضل الناس يا بن عباس؟

قال وما ذاك يا عُرَيَّة(1)؟

قال تأمرنا بالعمرة في اشهر الحج وقد نهى عنها أبو بكر وعمر!

فقال ابن عباس: قد فعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2). وفي رواية أخرى « فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول قال النبي (صلى الله عليه وآله) ويقولون نهى أبو بكر وعمر(3).

وفي صحيح مسلم عن أبي نضرة قال: « كنت عند جابر فأتاه آت فقال: ان ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر فعلناها مع رسول الله ثم نهى عنها عمر فلم نَعُد لهما(4).

ولم يفلح ابن الزبير في إرجاع الناس في أمر متعة الحج إلى ما سنه فيها عمر، وتعلقت قلوبهم بسنة النبي (صلى الله عليه وآله) كما أحياها علي (عليه السلام)، ففي صحيح مسلم:

« قال رجل من بني الهجيم لابن عباس ما هذه الفتيا التي تشغفت أو تشغبت بالناس ان من طاف بالبيت فقد حل فقال سنة نبيكم وان رغمتم، وفي رواية بعدها: ان هذا الأمر قد تفشغ بالناس من طاف بالبيت فقد حل »(5). وقوله تشغفت أي علقت بقلوب الناس وتشغبت أي خلطت عليهم أمرهم وتفشغ أي انتشر وفشا بين الناس.

حج التمتع على عهد بني مروان:

وحاول عبد الملك ومن جاء من بعده من حكام بني أمية أحياء موقف عمر، وكان الناس في زمانهم يتخوفون من الإفتاء بمتعة الحج كما يظهر ذلك من رواية ابن حزم عن منصور بن المعتمر قال: حج الحسن البصري وحججت معه في ذلك العام، فلما قدمنا مكة جاء رجل إلى الحسن، فقال: يا أبا سعيد إني رجل بعيد الشقة من أهل خراسانوإني قدمت مُهِلاًّ بالحج، فقال له الحسن: اجعلها عمرة واحل، فانكر ذلك

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تصغير عروة.

(2) مسند احمد 1: 252.

(3) مسند احمد: 337.

(4) صحيح مسلم الحديث 1249 ص 914.

(5) صحيح مسلم 206: 207.

«صفحة 222»

الناس على الحسن، وشاع قوله بمكة، فأتى عطاء بن أبي رباح فذكر ذلك له، فقال صدق الشيخ لكنا نفرق ان نتكلم بذلك »(1).

حج التمتع على عهد بني العباس:

زال الـتخوف والـحرج عن الـمسلمين عن الـعمل بمتعة الـحج في عـصر بنـي العـباس، وانتشر القـول بعمرة التمتع علـى عهدهمولـعل لـموقف جـدهم عـبد الله بـن العباس دخـلا في ذلك، وعلـى عهدهم تبنى احمد بن حنبل القول بعمرة التمتع ثم استمر في أتباعه إلى اليوم(2).

العبرة من قصة حج التمتع:

أقول: إذا كان سبعون ألفا إلى مائة ألف أو اكثر كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، وهي آخر سنة من حركة النبوة، قد سمعوا من النبي (صلى الله عليه وآله) أمر حج التمتع ثم عملوا به بعد مشاكسة وممانعة، ومع ذلك استطاع الخليفة عمر ان ينهاهم عنها، ويعاقبهم إذا خالفوا أمره فيها، ولم يجرؤ على الوقوف أمام هذه المخالفة إلا علي (عليه السلام) ونفر من أصحابه معه كمقداد وعمار وغيرهما، فهل يُستغرَب منهم ان يخالفوا نص النبي (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) في حادثة الغدير ودواعي المخالفة هنا أقوى لمكان الرئاسة والتقدم على الغير؟

ثم لو قارن الباحث بين كيفية تبليغ النبي (صلى الله عليه وآله) حكم متعة الحج وتدرجه فيه وكيفية تبليغ النص في ولاية علي (عليه السلام) وتدرجه فيه، ثم ردود الفعل إزاء الحُكمين في زمان النبي وبعده، وكيفية تخطيط علي (عليه السلام) لإحياء نص النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أهل بيته يوم الغدير وإحياء سنته (صلى الله عليه وآله) في متعة الحج، لدهش من شدة التشابه، وقد جعل الله تعالى في ذلك عبرة لمن أراد الاعتبار.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) المحلى 7: 103. توفي الحسن البصري سنة 110 هجـ وقد قارب التسعين وعطاء توفي سنة114هجـ.

(2) استفدنا اكثر ما ورد من بحث العلامة العسكري في كتابه معالم المدرستين ط4 ج2: 197-251. ويعد بحثه في حج التمتع بحق افضل ماكتب في بابه.

«صفحة 223»

ويتضح تدرج النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغه امر متعة الحج حين سئل في الطريق عن ذلك وقوله (صلى الله عليه وآله) (دخلت العمرة في الحج الى الابد)، وقوله (صلى الله عليه وآله) (من شاء منكم ان يجعلها عمرة او يجعلها حجة). ثم لما اتموا طوافهم امرهم امرا قاطعا بان من لم يسق الهدي ان يجعلها عمرة وكان رد فعلهم زمن النبي (صلى الله عليه وآله) هو كثرة لغطهم ومناقشتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) حتى اغضبوه، اما رد فعلهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فهو العمل على خلافها زمن ابي بكر ثم نهي عمر كل المسلمين عن العمل بها.

وتميز موقف علي (عليه السلام) بالاستنكار على عمر استنكارا لينا لما يعلم من شدته، ثم استنكارا شديدا على عثمان في اخريات حكومته حيث تضعضعت سلطته، وكثر كلام الناس عليه، ثم العمل على احياء متعة الحج زمان حكمه.

اما تدرج النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغه الولاية لاهل البيت (عليهم السلام) وتسمية علي (عليه السلام) فهو واضح لمن يتأمل كلمات النبي (صلى الله عليه وآله) فيهم منذ واقعة الدار والى ما قبل حجة الوداع، اذ يجدها خاصة غير عامة فحديث الدار كان مع بني هاشم، وحديث الكساء كان امام ام سلمة وامام هذه المجموعة او تلك من اصحابه وهكذا الامر في كل ما اثر عنه (صلى الله عليه وآله) من احاديث في فضل علي (عليه السلام) او احد من اهل بيته، اما في خطبته يوم عرفة وحديثه في الغدير فقد كان ذكر اهل بيته وعلي (عليه السلام) امام كل اصحابه الذين بلغ عددهم مأة الف او يزيدون، وقد كثر لغطهم لما قرن النبي (صلى الله عليه وآله) اهل بيته بالقرآن وجعل التمسك بهما امانا من الضلالة وذكر الاثني عشر منهم(1)، وبسبب اللغط والصخب لم يسم عليا في خطبته في عرفة.

وعند رجوعه (صلى الله عليه وآله) من الحج ووصوله الى غدير خم نزل قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لايَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ﴾ فقام النبي وخطب اصحابه وذكر اهل بيته (عليهم السلام) وسمى عليا (عليه السلام)، وجعل ولاية علي كولايته وهي كولاية الله تعالى واستجاب الناس لامر الله في علي وسلموا جميعا عليه بامرة المؤمنين، حتى قال عمر بخ بخ لك يا علي

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مسند احمد ج5: 99 حديث سمرة بن جندب؟

«صفحة 224»

اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن و مؤمنة.

وكان رد الفعل بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) هو العدول عن علي (عليه السلام) بل النهي عن ذكر احاديث النبي فيه وفي اهل بيته بل نهيهم عن رواية السنة النبوية مطلقا كرد فعلهم ازاء حج التمتع ونهيهم عنها، كما مرت مصادر دلك فى صفحة 159 – 163 من هذا الكتاب.

وتميز موقف علي (عليه السلام) بالاستنكار على اهل السقيفة والامتناع عن البيعة ثم سالمهم حفظا على حياته، ولما صار الامر اليه بعد قتل عثمان احيا ما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي اهل بيته، وفي مسجد الكوفة وهو يجمع الالاف المؤلفة من المصلين روى علي (عليه السلام) حديث الغديرواستنشد من كان حاضرا من الصحابة لتأييده، وبسبب ذلك صارت رواية حديث الغدير متميزة من ناحية كثرة رواتها من الصحابة والتابعين وقد سجل الحافظ ابن عقدة في القرن الرابع الهجري رواية مأة وعشرة من الصحابة الامر الذي لم يسجل مثله لاي حديث آخر من احاديث النبي (صلى الله عليه وآله) سواء في الفضائل او في الاحكام.

«صفحة 225»

الحلقة الثانية

الفصل الثامن ـ أسئلة الدكتور الشرقاوي حول نظرية النص

«صفحة 226»

«صفحة 227»

أسئلة الدكتور الشرقاوي

نشرت نشرة الشورى في حقل رسائل القراء رسالة موقعة باسم الدكتور الشرقاوي فيما يلي نصها:

« السيد رئيس تحرير (الشورى) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

تلبية لدعوتكم إلى مناقشة موضوع الشورى عند جيل الصحابة، ومساهمة في ممارسة الشورى والدخول في نادي (الشورى) أود ان أقول في البداية انني لم اقرأ نقدا موضوعيا هادئا لنظرية الشورى كما قرأته في المقال الموجز للشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) والمقتبس من كراسة له حول (الولاية). . ولست ادري فيما إذا كان ذلك هو رأيه الأخير أم ان له استدراكات أخرى على الموضوع

وعلى أي حال فقد شدتني فكرته القائلة بضرورة قيام الرسول بعملية توعية للامة والدعاة على نظام الشورى وحدوده وتفاصيله. لو كان قد اتخذ منه موقفا إيجابيا، ولأعد المجتمع الإسلامي إعدادا فكريا وروحيا لتقبل هذا النظام، ولطرح فكرة الشورى على نطاق واسع وبعمق وبإعداد نفسي عام وملء لكل الثغرات وإبراز لكل التفاصيل التي تجعل الفكرة عملية، خاصة وان الشورى كفكرة ومفهوم غائم لا يمكن وضعه موضع التنفيذ ما لم تشرح تفاصيله ومقاييس التفضيل عند اختلاف الشورىوهل تقوم على أساس العدد والكم أم على أساس الكيف والخبرة. . وما إلى ذلك من الأسئلة والنقاط المهمة التي أثارها الشهيد الصدر، وقطع على ضوئها بعدم تبني الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لنظام الشورى، وعدم إسناد زعامة الأمة إلى القيادة التي تنبثق عن هذا النظام.

ومع ان الشهيد الصدر قد انتهى بعد إسقاط أو سقوط نظرية الشورى إلى طرح نظرية النص والتعيين وإعداد النبي للإمام علي من بعده لكي يتولى زعامة الأمة فكريا

«صفحة 228»

وسياسيا، إلا انني وقبل ان ادخل في مناقشة الموضوع أتساءل فيما إذا كانت هنالك ضرورة لان يسند النبي (صلى الله عليه وآله) زعامة الدعوة إلى أي قائد من بعده خاصة وانه خاتم النبيين وقد اكمل الله تعالى على يديه الدين وقال له: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

وبكلمة أخرى. . لماذا نفترض ان النظام السياسي الذي أعقب مرحلة النبوة كان يجب ان يتمتع بهالة قدسية دينية أو ان يقوم بأدوار لإكمال الرسالة إلا يمكن ان يكون الرسول قد ترك وراءه نظاما سياسيا مدنياً وترك للمسلمين حرية اختيار النظام وتطويره حسب الزمان والمكان

وإذا كان لابد ان يترك الرسول وراءه نظاما سياسيا يشكل امتدادا لخط النبوة وتتمثل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية، وانه – كما يقول الصدر – قد اختار الإمام علي بن أبي طالب واعده إعدادا رساليا وقياديا، وعهد إليه زعامة الأمة من بعده فكريا وسياسيا، فان الاشكالات التي أخذها الصدر كلها ترد على هذه النظرية أيضا وبشكل أقوى.

ويمكن ان نعيد تكرار كل تلك الملاحظات والتساؤلات هنا مرة أخرى. . فتقول مثلا:

ان نظرية النص والتعيين فكرة غامضة وغائمة لا يكفي طرحها هكذا لعدم إمكانية وضعها موضع التنفيذ ما لم تشرح تفاصليها وبدقه، وهل تقتصر على شخص الإمام علي وحده ام تمتد إلى ما وراءه؟ وهل يوصي كل إمام لرجل من عامة المسلمين من بعده أم تنحصر في سلالة معينة ولماذا؟ وهل ان النص والتعيين لمرحلة زمنية معينة فقط أم أنها نظرية ممتدة إلى يوم القيامة؟ وإذا كانت الإمامة في سلالة الإمام علي فهل هي في ولد الحسن أو الحسين أو في أولادهما جميعا؟ وكيف تنتقل الإمامة من واحد إلى آخر؟ وكيف نعرف الإمام بعد الإمام وما هي علامات الإمامة؟

وهل أوصى الرسول بأسماء الأئمة من بعده إلى يوم القيامة وأعلن ذلك؟ وإذا كانت أسماء الأئمة قد حددت من قبل فماذا يعني البداء الذي حدث لعدد من الأئمة الذين أوصوا إلى بعض أبنائهم كالإمام الصادق الذي أوصى إلى إسماعيل والإمام الهادي

«صفحة 229»

الذي أوصى إلى ابنه محمد، فتوفوا قبل استلام مقاليد الإمامة؟

وإذا كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد بين كل هذه التفاصيل فلماذا لم تصل إلينا؟ وإذا كانت قد وصلت إلى الشيعة الأوائل فلماذا افترقوا خلال قرن من الزمان إلى اكثر من خمسين فرقة حيث كانوا يحتارون بعد وفاة كل إمام ويتشرذمون إلى عدة خطوط حسب عدد أولاد كل إمام؟

ولماذا كانت نظرية النص مجهولة عند أهل البيت (عليهم السلام)، ولم يذكرها الإمام علي (عليه السلام) في مناظراته مع أصحاب الشورى عند انتخاب الخليفة الثالث عثمان بن عفان؟ ولماذا كانت نظرية النص غائبة عن أذهان الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين ذهبوا فور وفاة الرسول إلى السقيفة يتأولون أمر انتخاب خليفة للمسلمين، ولم يخطر ببالهم وجود بيعة في أعناقهم للإمام علي (عليه السلام) في غدير خم؟

نرجوا ان توضحوا الفرق في النظريتين الشورى والإمامة، في العدد القادم من (الشورى) وتجيبوا على تلك الأسئلة المحيرة التي تقف عقبة امام الإيمان بنظرية النص، خاصة وان الشهيد الصدر لم يذكر مسألة استمرار الإمامة بعد الإمام علي (عليه السلام) ولم يخض في أي جانب من التفاصيل. وشكرا والسلام عليكم.

د. عبد السميع الشرقاوي / مانشستر »(1).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الشورى العدد الرابع ص 6وقد اجاب عنها احمد الكاتب اجابة مشوهة تنسجم مع رؤيته الخاطئة لمسألة الامامة وقد غضضنا الطرف عن مناقشة اجابته وآثرنا اجابة اسئلة الشرقاوي مباشرةً.

«صفحة 230»

قضيتان في اسئلة الشرقاوي

اقول: ان أسئلة الدكتور الشرقاوي تدور حول قضيتين رئيسيتين:

الأولى: مبررات القول بفكرة النص ومبررات رفض فكرة الشورى.

الثانية: اشكالات حول فكرة النص من خلال اثارة عدة اسئلة حولها.

القضية الأولى:

اما مبررات القول بفكرة النص فقد وضحها الشهيد الصدر في كتابه (بحث حول الولاية) وهي بشكل مختصر كما يلي:

كان أمام النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثة طرق بالإمكان انتهاجها تجاه مستقبل الدعوة.

أولهما: الطريق السلبي وذلك بان يترك مستقبل الدعوة للظروف والصدف.

ثانيها: الطريق الإيجابي وذلك بان يجعل القيمومة على الدعوة للمهاجرين الأنصار.

ثالثها: ان يختار بأمر الله تعالى من يقوم مقامه.

الطريق الأول (الإهمال):

ثم ناقش الشهيد الصدر (رحمهم الله) الطريق الأول بأن سلط الضوء على الأخطار التي كانت تواجه التجربة الإسلامية الأولى.

سواء تلك التي تنشأ من وجود المنافقين اللذين كانوا يكيدون للنبي (صلى الله عليه وآله) في حياته إضافة إلى مسلمة الفتح والطلقاء الذين اسلموا خضوعا للأمر الواقع انفتاحا على الحقيقة.

أو تلك التي تنشا من عدم النضج الرسالي وتفاوت الفهم والذوبان بالإسلام عند

«صفحة 231»

المهاجرين والأنصار أو تلك التي تنشأ من طبيعة مواجهة الفراغ دون تخطيط مسبق وهو بنفسه ينطوي على خطر كبير فكيف إذا أضفنا إليه الأمرين السابقين.

ان افتراض الطريق الأول معناه ان النبي كان لا يشعر بتلك الأخطار، وهو أمر لا يمكن تصوره في حق قائد مارس العمل العقائدي فضلا عن خاتم الأنبياء، أو انه كان يشعر بذلك ويقدره إلا انه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يهمه أمر سلامة المسيرة من بعده وهذا التفسير أيضا لا يمكن ان يصدق عليه (صلى الله عليه وآله) إذ ان سيرته (صلى الله عليه وآله) حافلة بشواهد كثيرة تدل على ضد ذلك، واهم هذه الشواهد ما أجمعت كتب الحديث عند السنة والشيعة على نقله هو قوله (صلى الله عليه وآله) وهو على فراش المرض: « هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده »(1).

فان هذه المحاولة منه (صلى الله عليه وآله) المتفق على نقلها وصحتها تدل وبوضوح على انه (صلى الله عليه وآله) كان يفكر في أخطار المستقبل وانه كان معنيا بصيانة المسيرة بعده من الضلال والانحراف وبالتالي فان افتراض الطريق الأول غير صادق في حقه (صلى الله عليه وآله).

الطريق الثاني (الشورى):

وقد ناقش السيد الشهيد الطريق الثاني بقوله ان الوضع العام الثابت عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وجيل المهاجرين والأنصار ينفي فرضية ان النبي (صلى الله عليه وآله) قد انتهج هذا الطريق.

إذ لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) أراد ان يسند الأمر إلى جيل المهاجرين والأنصار دون حصرها بأهل بيته (عليهم السلام) لكان من أبده الأشياء التي يتطلبها هذا الموقف هو ان يقوم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) عن ابن عباس قال: « لما حُضِرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال، النبي (صلى الله عليه وآله) هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر ان النبي (صلى الله عليه وآله) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. . . صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج7: 9 افست دار الفكر على ط. استانبول، ص 7 ص 156 ط. وج 4: 7 دار احياء المكتب وج4: 5 ط الميمنية بمصر وج 6 ص 97 ط بمبي وج 4 ص 6 ط المطبعة الخيرية بمصر. صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75 ط محمد علي صبيح وط المكتبة التجارية. وج 2 ص 16 ط عيسى الحلبي وج 11 ص 95 ط مصر بشرح النووي، مسند احمد ج 4 ص 356 ح 2992 بسند صحيح ط دار المارف بمصر (انظر المراجعات بتحقيق حسين الراضي فقد اورد المصادر تفصيلا في الملاحق ص 192 – 195) .

«صفحة 232»

الرسول (صلى الله عليه وآله) بعملية توعية للأمة على نظام الشورى وتفاصيله وإعداد المجتمع الإسلامي لتقبل هذا النظام.

ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد قام بتلك التوعية لكان من الطبيعي ان تنعكس في الأحاديث المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وفي ذهنية جيل المهاجرين والأنصار مع أننا لا نجد في الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أي صورة تشريعية محددة لنظام الشورى.

واما ذهنية المهاجرين والأنصار فلا نجد فيها ملامح أو انعكاسات كاشفة عن توعية من هذا القبيل فان هذا الجيل كان يحتوي على اتجاهين.

أحدهما: الاتجاه الذي يتزعمه أهل البيت (عليه السلام) وكان يؤمن بالوصية.

والآخر: الاتجاه الذي تمثله السقيفة والخلافة التي قامت فعلا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وكل الأرقام والشواهد في سيرة أصحاب هذا الاتجاه تدل بصورة لا تقبل الشك على انه لم يكن يؤمن بالشورى، إذ ان أبا بكر حين اشتد به المرض عهد إلى عمر وولاه على الأمة، وسار عمر على المنهج نفسه حين عين ستة يختارون من بينهم واحدا وكان يقول « لو كان سالم حيا ما جعلتها شورى »(1).

ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد قرر ان يجعل من جيل المهاجرين والأنصار قيما على الدعوة من بعده، لتحتم عليه ان يعبئ هذا الجيل تعبئة رسالية وفكرية واسعة تجعله قادرا على مواجهة المشكلات الفكرية التي تواجهها الدعوة في حالة انفتاحها على شعوب متعددة وأراضي جديدة.

ولكننا لا نجد أثرا لذلك الإعداد، والمعروف عن الصحابة انهم كانوا يتحاشون من ابتداء النبي (صلى الله عليه وآله) بالسؤال، بل امسكوا عن تدوين آثار الرسول (صلى الله عليه وآله) وسننه على رغم أنها المصدر الثاني من مصادر الإسلام، وكون التدوين هو الأسلوب الوحيد لحفظه(2).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مرت مصادر ذلك في قصة الشورى المبحوثة في هذا الكتاب.

(2) اقول بل رأينا الخلافة تنهى عن نشر السنة النبوية وتأمر بإحراق مادونه الصحابة.

اما مسألة النهي فتوضحه الأخبار الآتية: روى الذهبي ان ابا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: « انكم تحدثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) احاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم اشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه » تذكرة الحفاظ بترجمة ابي بكر ج: 3-2. وروى ايضا عن قرظة بن كعب انه قال: لما سيَّرنا عمر الى العراق مشى معنا عمر الى صرار، ثم قال: اتدرون لم شيعتكم؟ قلنا: اردت ان تشيعنا وتكرمنا، قال: ان مع ذلك لحاجة، انكم تأتون اهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدويِّ النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وانا شريككم، قال قرظة: فما حدثت بعده حديثا عن رسول الله ». تذكرة الحفاظ ح1: 4-5 وجامع بيان العلم لابن عبد البر باب ذكر من ذم الاكثار من الحديث دون التفهم له 2: 147. وكان في الصحابة مثل قرظة بن كعب ممن تابعوا سنة الخلفاء وامتنعوا عن نشر سنة الرسول نظير عبد الله بن عمر وسعد بن ابي وقاص فقد روى الدارمي في باب من هاب الفتيا بكتاب العلم من سننه 1: 84-85. عن الشعبي قال: جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله. وفي رواية اخرى عنه، قال قعدت مع ابن عمر سنتين او سنة ونصف فما سمعته يحدث عن رسول الله شيئا الا هذا الحديث. وروي عن السائب بن يزيد، قال: خرجت مع سعد -ابن ابي وقاص- الى مكة فما سمعته يحدث حديثا عن رسول الله حتى رجعنا إلى المدينة. وكان في الصحابة من خالف سنة الخلفاء في نهيهم عن نشر الحديث النبوي واصر على رواية سنة الرسول وتحمل في سبيل ذلك الارهاق والاذى. روى الذهبي « ان عمر بن الخطاب حبس ثلاثة: ابن مسعود، وابا الدرداء، وابا مسعود الانصاري، فقال: اكثرتم الحديث عن رسول الله » تذكرة الحفاظ ج1: 7 ترجمة عمر. وروى الدارمي: « ان ابا ذركان جالسا عند الجمرة الوسطىوقد اجتمع الناس يستفتونه فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: الم تُنْهَ عن الفتيا؟ فرفع رأسه اليه، فقال ارقيب انت عليَّ؟ لووضعتم الصَّمصامة على هذه واشار الى قفاه ثم ظننت اني انفذ كلمة سمعت من رسول الله قبل ان تجيزوا عليَّ لانفدتها » سنن الدارمي1: 132 وطبقات ابن سعد 2: 354 بترجمة ابي ذر، واختصرها البخاري واوردها في صحيحه 1: 161 باب العلم قبل القول، ومعنى اجاز على الجريح: اجهز عليه. وللمزيد من هذه الاخبار انظر معالم المدرستين ج2 ط4: 47-51.

اما مسألة إحراق مدونات الصحابة في الحديث فتوضحه الاخبار التالية: روى الذهبي في تذكرة الحفاظ 1: 5 عن عائشة « انَّ ابا بكر جمع خمسمائة من حديث النبي ودعابنار فاحرقها ». وروى الخطيب البغدادي فى كتابه تقييد العلم: 52 ط مصر 1974 بسنده الى القاسم بن محمد « ان عمر بن الخطاب بلغه انه قد ظهر فى ايدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها، وقال: ايها الناس انه قد بلغنى انه قد ظهرت فى ايديكم كتب فاحبها إلى الله اعدلها واقومها فلا يبقين احد عنده كتاب الا اتاني به فارى فيه رأيي، قال فظنوا انه يريد ان ينظر فيها ويقومها على امر لا يكون فيه اختلاف، فاتوه بكتبهم فاحرقها بالنار، ثم قال: امنية كأمنية اهل الكتاب ». وفي طبقات ابن سعد5: 188 « قال عبد الله بن العلاء: سألت القاسم يملي عليَّ احاديث، فقال: ان الاحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فانشد الناس ان يأتوه بها فلما اتوه بها امر بتحريقها ثم قال: مثناة كمثناة اهل الكتاب، فمنعني القاسم يومئذ ان اكتب حديثا ». وروى الخطيب عن سفيان بن عينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة « ان عمر بن الخطاب اراد ان يكتب السنة ثم بدا له ان لا يكتبها، ثم كتب في الامصار: من كان عنده منها شىء فليمحه ». تقييد العلم: 53، جامع بيان العلم 1: 65. وروى الخطيب أيضا عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: « جاء علقمة بكتاب من مكة او اليمن صحيفة فيها احاديث في أهل البيت بيت النبي، فاستأذنا على عبد الله (بن مسعود) فدخلنا عليه، قال فدفعنا اليه الصحيفة، قال فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء فقلنا له: يا ابا عبد الرحمن انظر فيها فان فيها احاديث حِسانا، قال فجعل يميثها فيها ويقول: نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن القلوب اوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما سواه ». (وماث يميث مَيْثًا اذاب الملح في الماء) . وفي رواية اخرى عن عبد الرحمن بن الاسود عن ابيه قال: « جاء رجل من اهل الشام إلى عبد الله بن مسعود ومعه صحيفة، فيها كلام من كلام ابي الدرداء وقصص من قصصه، فقال: يا ابا عبد الرحمن الا تنظر ما في هذه الصحفية من كلام اخيك ابي الدرداء وقصص من قصصه، فاخذ الصحيفة فجعل يقرأ فيها وينظر حتى اتى منزله فقال يا جارية آتيني بالإجّانة مملوءة ماء، فجاءت به فجعل يدلكها ويقول: (الم تلك ايات الكتاب المبين. . . نحن نقص عليك احسن القصص) اقصصا احسن من قصص الله تريدون او حديثا احسن من حديث الله تريدون ». تقييد العلم: 54.

«صفحة 233»

«صفحة 234»

وقد اثبتت الاحداث بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ان جيل المهاجرين والأنصار لم يكن يملك أي تعليمات محددة عن كثير من المشاكل الكبيرة، حتى ان المساحة الهائلة من الأرض التي امتد إليها الفتح الإسلامي لم يكن لدى الخليفة والوسط الذي يسنده أي تصور محدد عن حكمها الشرعي، وعما إذا كانت تقسم بين المقاتلين أو تجعل وقفا على المسلمين عموما، بل اختلفوا في عدد التكبيرات في صلاة الميت فبعضهم يقول سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكبر خمسا وآخر يقول سمعت يكبر أربعا.

الطريق الثالث (النص):

وهكذا اتضح ان النبي (صلى الله عليه وآله) لم يسلك الطريق الثاني أيضا.

وان إسناد القيادة والقيمومة إلى الأمة كان إجراءً مبكرا وقبل وقته الطبيعي فلم يبق إذن إلا الطريق الثالث وهو ان النبي (صلى الله عليه وآله) اعد بأمر الله تعالى عليا (عليه السلام) وعينه قيما على الرسالة والأمة وليس ما تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله) من النصوص في أهل بيته (عليهم السلام) وفي علي إلا تعبيرا عن سلوكه (صلى الله عليه وآله) للطريق الثالث الذي كانت تفرضه وتدل عليه قبل ذلك طبيعة الأشياء.

والشواهد في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) على ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعد عليا (عليه السلام) إعداد رساليا خاصا كثيرة جدا، فقد كان يبدأه النبي (صلى الله عليه وآله) بالعطاء الفكري إذا استنفذ أسئلته، ويختلي به الساعات الطوال في الليل والنهار يفتح عينه على مفاهيم الرسالة ومشاكل الطريق إلى آخر يوم من حياته الشريفة.

روى النسائي(1) بسنده عن أبي اسحق قال سألت قثم بن العباس(كيف ورث علي(عليه السلام) رسول الله قال لانه كان أولنا به لحوقا واشدنا به لزوقا).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الخصائص 91 تحقيق الجويني طبعة دار الكتب العلمية، ورواه ايضا الحاكم في المستدرك ج3: 136.

«صفحة 235»

وروى أيضا(1) عن علي (عليه السلام) قال كنت إذا سألت أعطيت وإذا سكت ابتديت.

وروى أبو نعيم في حلية الأولياء(2) عن ابن عباس انه قال: كنا نتحدث ان النبي (صلى الله عليه وآله) عهد إلى علي سبعين عهدا لم يعهدها إلى غيره ».

وروى النسائي عن علي (عليه السلام) انه قال: « كانت لي منزلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تكن لأحد من الخلائق فكنت آتيه كل سحر فاقول السلام عليك يانبي الله فان تنحنح انصرفت إلى اهلي والا دخلت عليه »(3).

وعنه أيضا قوله (عليه السلام): « كان لي من النبي مدخلان مدخل بالليل ومدخل بالنهار »(4).

وقد انعكس هذا الإعداد الخاص لعلي (عليه السلام) من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) حين كان علي (عليه السلام) هو المفزع والمرجع لحل أي مشكلة يستعصي حلها على القيادة الحاكمة وقتئذ، ولا نعرف في تاريخ التجربة الإسلامية على عهد علي (عليه السلام) واقعة واحدة رجع فيها الإمام (عليه السلام) إلى غيره يتعرف على رأي الإسلام وطريقة علاجه للموقف، بينما نعرف في التاريخ عشرات الوقائع التي رجع فيها الخلفاء إلى علي (عليه السلام) رغم تحفظ اتهم في هذا الموضوع.

اما الشواهد على إعلان النبي (صلى الله عليه وآله) تخطيطه في علي وأهل بيته (عليهم السلام) فهي كثيرة وفي مناسبات متعددة كحديث الدار وحديث الثقلين وحديث المنزلة وحديث الغدير وعشرات النصوص النبوية الأخرى.

القضية الثانية:

اما الاشكالات على فكرة النص فهي من خلال الأسئلة الآتية مع اجوبتها:

السؤال الأول:

قوله « لماذا كانت نظرية النص مجهولة عند أهل البيت (عليهم السلام) ولم يذكرها الإمام

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الخصائص ص 98 والمستدرك ج3: 135.

(2) ج 1: 68.

(3) الخصائص: 97 تحقيق الجويني ط. دار الكتب العلمية.

(4) الخصائص: 96.

«صفحة 236»

علي (عليه السلام) في مناظراته مع أصحاب الشورى؟ ».

وهذا الإشكال صياغة أخرى للسؤال الذي أثاره الدكتور البغداديوغيره « لو كان ثمة نص لاحتج به علي (عليه السلام) ».

جوابه:

قد اجبنا عليه مفصلا في جواب الشبهة الحادية عشر (الفصل الثالث من هذا الكتاب وكذلك الفصل الخامس تحت عنوان (علي يتظلم من قريش)، وقلنا هناك ان عليا قد احتج بالنصوص.

السؤال الثاني:

قوله « لماذا كانت نظرية النص غائبة عن أذهان الصحابة الذين ذهبوا فور وفاة الرسول إلى السقيفةيتداولون أمر انتخاب خليفة للمسلمين؟ ».

وهو صياغة أخرى للسؤال الذي أثاره البغدادي «لو كان ثمة نص فالصحابة اكبر من ان يخالفوا».

جوابه:

قد اجبنا على هذا السؤال مفصلا في الفصل السابع من هذا الكتاب، وقلنا ان الصحابة قد تورطوا في مخالفة النص في اكثر من مورد وفصلنا في مخالفتهم للنص الوارد في شأن متعة الحج.

السؤال الثالث:

قوله « هل يقتصر النص على شخص الإمام علي (عليه السلام) وحده؟ أم يمتد إلى ما وراءه؟ وهل يوصي كل إمام لرجل من عامة المسلمين من بعده؟ أم تنحصر في سلالة معينة؟ ولماذا؟ وإذا كانت في سلالة الإمام علي فهل هي في ولد الحسن؟ أو أولاد الحسين؟ أو أولادهما جميعا؟ .

«صفحة 237»

جوابه:

لقد شخصت نظرية النص بوضوح كامل ان الأوصياء ينحصرون في علي والحسن ثم الحسين ثم في تسعة من ذرية الحسين (عليهم السلام) و ان ذلك قد تم بأمر الله تعالى و ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ و هُمْ يَسْأَلُونَ﴾، وان هـؤلاء الأوصياء ليسوا مجرد حكام بل منزلتهم منزلة الرسول في كل شىء إلا النبوة والأزواج كما حصر الله تعالى النبوة والرسالة من قبل في ذرية نوح ثم في ذرية إبراهيم ثم في آل عمران من بني إسرائيل وقد ذكرنا طرفا من الروايات الوارد في هذا الموضوع في الحلقة الاولى.

السؤال الرابع:

قوله « هل ان النص والتعيين لمرحلة زمنية معينة فقط؟ أم أنها نظرية ممتدة إلى يوم القيامة؟ ».

جوابه:

اجبنا عنه في الفصل الأول من هذا الكتاب.

السؤال الخامس:

قوله « هل أوصى الرسول بأسماء الأئمة من بعده إلى يوم القيامة وأعلن ذلك من قبل؟ أم ترك ذلك للمستقبل وأخفاه؟ وما هي المصادر الموثوقة التي تحدد ذلك؟ ولماذا لم تصل إلينا؟ ».

جوابه:

أجمعت المصادر الإسلامية على ان النبي (صلى الله عليه وآله) بلغ أمته ان عدد خلفائه من بعده اثنا عشر وانهم من قريش من بني هاشم من أهل بيته وقد أشرنا إلى مصادر الحديث في جواب الفصل الثامن الحلقة من الحلقة الأولى.

«صفحة 238»

وقد عرَّف النبي (صلى الله عليه وآله) باسم أولهم وهو علي (عليه السلام) في مناسبات شتى كان آخرها مناسبة غدير خم امام مائة ألف أو يزيدون، وعرَّف أيضا باسم ثانيهم وثالثهم وهما الحسن والحسين (ع)، وأشار ان آخرهم المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بقية التسعة من ذرية الحسين (عليه السلام) وان المهدي (عليه السلام) من ذرية الحسين (عليه السلام).

روى الجويني عن عبد الله بن عباس قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنا سيد النبيين وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين وان أوصيائي من بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب واخرهم المهدي (عليه السلام).

وروى الجويني عن ابن عباس أيضا قال: « سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا وعلي الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون »(1).

وقد حوصرت هذه الأحاديث ونظائرها من قبل السلطات الأموية والعباسية ومن هنالم يصلنا في كتب العامة منها إلا النزر القليل.

اما في كتب الشيعة فقد وصلتنا أحاديث تذكر أسماءهم (عليه السلام) واشهرها ما روي عن سليم بن قيس وقد أشرنا إليه في الفصل الرابع والثامن من الحلقة الأولى.

السؤال السادس:

قوله « إذا كانت أسماء الأئمة قد حددت من قبل فماذا يعني البداء الذي حدث لعدد من الأئمة الذين أوصوا إلى بعض أبنائهم كالإمام الصادق (عليه السلام) الذي أوصى إلى إسماعيل والإمام الهادي الذي أوصى إلى ابنه محمد فتوفوا قبل استلام مقاليد الإمامة؟ ».

جوابه:

أشرنا إلى ذلك تفصيلا في الفصل السادس من الحلقة الأولىوقلنا هناك ان الإمام

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال الذهبي في ترجمة شيوخة بتذكره الحفاظ ص 1505 (الامام الاوحد الاكمل فخر الاسلام صدر الدين ابراهيم بن محمد بن حمويه الجويني الشافعي شيخ الصوفية وكان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الاجزاء اسلم على يده غازان) . معالم المدرستين للعسكري ج1 ط4: 548 نقلا عن فرائد السمطين نسخة مصورة مخطوطة في المكتبة المركزية لجامعة طهران برقم 1164: 1690-1691 الورقة 160.

«صفحة 239»

الصادق (عليه السلام) لم ينص على إمامة إسماعيل، وكذلك الإمام الهادي (عليه السلام) لم ينص على إمامة ولده محمد وان أمر الإمامة لا يوصف الله تعالى فيه بالبداء وعليه إجماع الإمامية كما ذكر ذلك الشيخ المفيد.

السؤال السابع:

قوله « وإذا وصلت أسماء الأئمة إلى الشيعة الأوائل فلماذا افترقوا خلال قرن من الزمان إلى اكثر من خمسين فرقة حيث كانوا يحتارون بعد وفاة كل إمام ويتشرذمون إلى عدة خطوط حسب عدد أولاد كل إمام؟ ».

جوابه:

خلاصة الجواب ان ذكر اسم الإمام اللاحق من الإمام السابق ليس معناه عصمة الشيعة من الاختلاف ألم ينص النبي (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) امام مائة ألف أو يزيدون من المسلمين ثم جعل أكثرهم النص وراء ظهورهم.

روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن يونس بن عبد الرحمن قال: « مات أبو الحسن (عليه السلام) وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته وكان عند زياد القندي سبعون ألف دينار وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار »(1).

وروى الكشي في ترجمة منصور بن يونس عن حمدوية عن محمد بن الاصبغ عن إبراهيم عن عثمان بن القاسم: « ان منصور بن يونس بزرج جحد النص

ـــــــــــــــــــــــ

(1) علل الشرائع: 235، ايضا غيتة الشيخ الصدوق: 64 تحقيق مؤسسة دار المعارف وفيه زيادة من قول يونس (فلما رأت ذلك وتبنيت الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ماعلمت تكلمت ودعوت الناس اليه، فبعثا اليَّ وقالا ما يدعوك الى هذا؟ ان كنت تريد المال فنحن نغنيك وضمنا لي عشرة الآف دينار وقالا لي كفَّ، فأبيت وقلت لهما إنّا روينا عن الصادقين (عليهما السلام) انهم قالوا (إذا ظهرت البدع فعلى العالم ان يظهر علمه فإن لم يفعل سلب نور الإيمان) ، وما كنت لأدع الجهاد في أمر الله على كل حال، فناصباني وأضمرا لي العداوة.

«صفحة 240»

على الرضا (عليه السلام) لأموال كانت في يده »(1).

وقال الشيخ الطوسي: « روى الثقات ان أول من اظهر هذا الاعتقاد (اي الموقف) علي بن أبي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرواسي، طمعوا في الدنيا ومالوا إلى حكامهاواستمالوا قوما فبذلوا لهم شيئا مما اختانوه من الأموال، نحو حمزة بن بزيع وابن المكاري(2) وكرام الخثعمي(3) وأمثالهم »(4).

السؤال الثامن:

قوله « كيف نعرف الإمام بعد الإمام؟ وما هي علامات الإمامة؟ ».

جوابه:

أوضحت نظرية النص من خلال روايات عدة عن الأئمة (عليهم السلام) ان الإمام اللاحق يُعرَف بالنص من الإمام السابق وحين يدعي مدع الإمامة في قبال المنصوص عليه أو حين يخفى النص على البعض فهناك علامات ترشد إلى الواقع كما في الروايات التالية:

روى الكافي عن أبي بصير قال: « قلت لابي الحسن (عليه السلام) جعلت فداك بم يعرف الإمام؟ قال فقال بخصال:

اما أولها فانه بشىء قد تقدم من أبيه فيه بإشارة لتكون عليهم حجة.

ويُسأل فيجيب، وان سُكِتَ عنه ابتدأ.

ويخبر بما في غد ويكلم الناس بكل لسان.

ثم قال لي: يا أبا محمد أعطيك علامة قبل ان تقوم، فلم البث ان دخل علينا رجل من أهل خراسان فكلمه الخراساني بالعربية فاجابه أبو الحسن (عليه السلام) بالفارسية فقال له

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الكشي: 2: 768 ح893.

(2) هو الحسين بن ابي سعيد هاشم بن حيان (حنان) المكاري قال النجاشي: كان هو وابوه وجهين فيي الواقفة وكان الحسين ثقة في حديثه.

(3) هو عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعميوكرام لقبه قال النجاشي ثقة ثقة.

(4) غيبة الشيخ الطوسي: 63-64 بحقيق مؤسسة دار المعارف.

«صفحة 241»

الخراساني والله جعلت فداك ما منعني ان أكلمك بالخراسانية، غير أني ظننت انك لا تحسنها فقال: سبحان الله إذا كنت لا احسن أجيبك فما فضلي عليك.

ثم قال: يا أبا محمد ان الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولاشىء فيه الروح فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام(1).

شرح الرواية:

قوله (عليه السلام) (اما أولها فانه بشىء قد تقدم من أبيه فيه بإشارة منه إليه لتكون عليهم حجة).

يريد بهذا الشىء المتقدم من الامام الاب هو النص بالإمامة، أو يريد الوصية الظاهرة التي قد يشرك فيها معه آخرون وهذا الاخير هو الأرجح، لان النص بالإمامة لا يحتاج معه إلى شىء من العلامات الأخرى، ويدل على هذا الرجحان عدة روايات.

منها ما رواه الكليني في الكافي عن عبد الأعلى قال، قال الباقر (عليه السلام) يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال لا تكون في غيره: هو أولى الناس بالذي قبله، وهو وصيه، وعنده سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله). . ثم دعا بشهود أربعة كتب وصيته إلى ولده جعفر (عليه السلام) وسأله جعفر عن علة الوصية فقال له (عليه السلام): اني كرهت ان تغلب وان يقال انه لم يوص فأردت ان تكون لك حجة فهو الذي إذا قدم الرجل البلد قال: من وصيُّ فلان قيل فلان قلت (أي عبد الأعلى) فان أشرك في الوصية قال تسألونه فانه سيبين لكم(2).

ورواية الكليني أيضا عن هشام بن سالم قال:

« كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد الله (عليه السلام) أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر انه صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس عنده وذلك انهم رووا عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال: ان الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة، فدخلنا عليه نسأله عما كنا نسأل عنه إياه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ج1: 285 الحديث رقم 7.

(2) ج 1: 376 الحديث رقم 2.

«صفحة 242»

فقال: في مائتين خمسة.

فقلنا: ففي مائة؟

فقال: درهمان ونصف.

فقلنا: والله ما تقول المرجئة هذا.

قال: فرفع يده إلى السماء فقال: والله ما ادري ما تقول المرجئة.

قال: فخرجنا من عنده ضلالا لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى أين تتوجه ولا من نقصد ونقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى الزيدية، إلى المعتزلة، إلى الخوارج، فنحن كذلك إذ رأيت رجلا شيخا اعرفه، يومي إليَّ بيده فخفت ان يكون عينا من عيون أبي جعفر المنصور وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون إلى من اتفقت شيعة جعفر (عليه السلام) عليه، فيضربون عنقه، فخفت ان يكون منهم.

فقلت للأحول: تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وانما يريدني لا يريدك، فتنح عني لا تهلك وتعين على نفسك، فتنحّ غير بعيد وتبعت الشيخ وذلك اني ظننت اني لا اقدر على التخلص منه، فما زلت اتبعه وقد عزمت على الموت حتى ورد بي على باب أبي الحسن (عليه السلام) ثم خلاني ومضى.

فإذا خادم بالباب فقال لي: ادخل رحمك الله، فدخلت فإذا أبو الحسن موسى (عليه السلام) فقال لي ابتداء منه:

لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية ولا إلى الزيدية ولا إلى المعتزلة ولا إلى الخوارج إليَّ إليَّ.

فقلت جعلت فداك مضى أبوك؟

قال: نعم.

قلت: مضى موتا؟

قال نعم.

قلت: فمن لنا من بعده.

فقال: ان شاء الله ان يهديك هداك.

«صفحة 243»

قلت جعلت فداك ان عبد الله يزعم انه من بعد أبيه؟

قال: يريد عبد الله ان لا يعبد الله.

قال: قلت: جعلت فداك فأنت هو؟

قال: لا ما أقول ذلك(1).

قال: فقلت في نفسي لم اصب طريق المسالة.

ثم قلت له: جعلت فداك عليك إمام؟

قال: لا.

فداخلني شىء لا يعلم إلا الله عز وجل إعظاما له وهيبة اكثر مما كان يحل بي من أبيه إذا دخلت عليه، ثم قلت له: جعلت فداك أسألك عما كنت اسأل أباك؟

فقال: سل تخبر ولا تذع فان أذعت فهو الذبح.

فسألته، فإذا هو بحر لا ينزف.

قلت: جعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك ضلال، فألقي إليهم وأدعوهم إليك، وقد أخذت عليَّ الكتمان؟

قال: من أنست منه رشدا فالق إليه وخذ عليه الكتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح – وأشار بيده إلى حلقه -.

قال: فخرجت من عنده فلقيت أبا جعفر الأحول.

فقال لي: ما وراءك؟

قلت: الهدى، فحدثته بالقصة.

قال: ثم لقينا الفضيل وأبا بصير، فدخلا عليه وسمعا كلامهوساءلاه وقطعا عليه بالإمامة.

ثم لقينا الناس أفواجا، فكل من دخل عليه قطع، إلا طائفة عمار(2) وأصحابه، وبقي عبد الله لا يدخل إليه إلا قليل من الناس.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قوله (عليه السلام) (لا ما اقول ذلك) قال المازندراني في شرحه ج6: 278: أي قال (عليه السلام) لست اناهو من عندي، ما اقول ذلك من قبلي بل انا هو من عند الله وعند رسوله ولما كان هذا الجواب غير صريح في المطلوب بل هو ظاهري في غيره لجأ السائل الى طريق آخر) .

(2) هو عمار بن موسى الساباطي وهو واصحابه فطحية (المازندراني) .

«صفحة 244»

فلما رأى ذلك قال: ما حال الناس؟ فاخبر ان هشاما صد عنك الناس قال هشام: فاقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني(1).

ورواية الكليني ايضا عن محمد بن أبي نصر قال: « قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إذا مات الإمام بم يعرف الذي بعده؟ فقال: للإمام علامات منها ان يكون اكبر ولد أبيه، ويكون فيه الفضل والوصية، ويقدم الركب فيقول إلى من أوصى فلان فيقال إلى فلان.، والسلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل، وتكون الإمامة مع السلاح حيثما كان(2).

قوله (عليه السلام) (ان يكون اكبر ولد أبيه).

قال المجلسي (رحمهم الله): « ان هذه العلامة بعد الحسين (عليه السلام) ومع ذلك مقيدة بما إذا لم يكن في الكبير عاهة، أي بدنية فان الإمام مبرأ من نقص في الخلقة يوجب شينه، أو دينية كعبد الله الافطح فانه كان بعد أبي عبد الله (عليه السلام) اكبر ولده لكن كان فيه عاهتان الأولى انه افطح الرجلين أي عريضهما، والثاني انه كان جاهلا بل قيل فاسد المذهب، قال المفيد في الإرشاد (وكان أي الافطح متهما بالخلاف على أبيه في الاعتقاد ويقال انه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذاهب المرجئة) (3).

اقول: وهذه العلامة (أي كون الامام اكبر ولد ابيه) لا تكون بعد الرضا (عليه السلام) مقيدة بالقيد الذي اشار اليه الصادق (عليه السلام) ومن هنا فأن الرضا (عليه السلام) لم يذكره في حديثه لانه يتحدث عن علامة الامام من بعده.

وقوله (عليه السلام) (ويكون فيه الفضل).

أي يكون أشبه أولاد أبيه بسيرته كما في رواية الكليني عن عبد الأعلى قال لأبي عبد الله (عليه السلام): « المتوثب على هذا الأمر المدعي له ما الحجة عليه؟ قال يسأل عن

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ج1: 351 الحديث رقم 7.

(2) الكافي ج1: 284 الحديث 1.

(3) مرآة العقول ج3: 207 شرح الحديث رقم 7 وفي الفصول المختارة للشيخ المفيد: 253 ان عبد الله كان يذهب مذاهب المرجئة الذين يقعون في علي (عليه السلام) و عثمان وان اباعبد الله (عليه السلام) قال وقد خرج من عنده عبد الله (هذا مرجىء كبير) وقال الصدوق في اعتقاداته قال الصادق في ابنه عبد الله انه ليس على شىء مما انتم عليه واني ابرأ منه (قاموس الرجال ترجمة عبد الله الافطح) .

«صفحة 245»

الحلال والحرام، قال ثم اقبل علي فقال: ثلاثة من الحجة لم تجتمع في أحد إلا كان صاحب هذا الأمر:

ان يكون أولى الناس بمن كان قبله.

ويكون عنده السلاح.

ويكون صاحب الوصية الظاهرة(1) التي إذا قدمت المدينة سألت عنها العامة والصبيان إلى من أوصى فلان فيقولون إلى فلان بن فلان »(2).

وروايته أيضا عن هشام بن سالم وحفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « قيل له بأي شىء يعرف الإمام؟ قال: بالوصية الظاهرة، وبالفضل، ان الإمام لا يستطيع أحد ان يطعن عليه في فم ولا بطن ولا فرج فيقال كذاب ويأكل أموال الناس وما أشبه هذا »(3).

وروايته ايضا الكليني أيضا عن احمد بن عمر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: « سألته عن الدلالة على صاحب هذا الأمر؟ فقال: الدلالة عليه الكبر، والفضل، والوصية إذا قدم الركب المدينة فقالوا إلى من أوصى فلان قيل فلان بن فلان، ودوروا مع السلاح حيثما دار فأما المسائل فليس فيها حجة »(4).

وقوله (عليه السلام): (ودوروا مع السلاح حيثما دار) لعله إشارة إلى الولد الأكبر الذي يحبى بسلاح أبيه بعد وفاته(5). وهذه العلامة كانت مقيدة بعد الصادق (عليه السلام) بقوله (الأكبر ما لم تكن به عاهة) إلا أنها صارت مطلقة بعد الرضا (عليه السلام).

قوله (عليه السلام) (فأما المسائل فليس فيها حجة) قال المجلسي (رضي الله عنه): « أي للعوام وذلك لان هذه العلامة إنما هي للعلماء والخواص »(6).

قوله (عليه السلام) (ويخبر بما في غد ويكلم الناس بكل لسان. . ان الإمام لا يخفى عليه كلام

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال المجلسي (رح) في مرآة العقول ج3: 205 المراد بالوصية هنا ليست الوصية بالامامة بل مطلق الوصية.

(2) الكافي ج1: 285 الحديث 2.

(3) الكافي ج1: 284 الحديث 3.

(4) الكافي ج1: 285 الحديث 5.

(5) انظر وسائل الشيعة كتاب الارث باب ما يحيى به الولد الذكر الاكبر من تركه ابيه دون غيره.

(6) مرآة العقول ج3: 205 – 206 بشرح الحديث رقم 2: ورقم 3.

«صفحة 246»

أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شىء فيه روح فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام).

ان هذا القول يشير إلى انهم (عليه السلام) قد أيدهم الله تعالى بما أيد به أنبياءه ورسله من خوارق العادات يظهر ذلك منهم على قدر ما يفتح الطريق لهداية الأفراد كما وردت الأخبار الكثيرة بذلك أو لهداية المجتمع ككل كما يحصل من المهدي (عليه السلام) عند ظهوره إذ ان تشخيص كونه محمد بن الحسن العسكري المولود سنه 255 هجـ بحاجة إلى معاجز تظهر على يديه وبغير ذلك فان الطريق يبقى مفتوحا لكل مدع للمهدوية.

«صفحة 247»

الفهرس الاجمالي لكتاب شبهات وردود

هوية الكتاب:

اسم الكتاب: شبهات وردود ـ الرد على شبهات احمد الكاتب حول إمامة اهل البيت (ع) ووجود المهدي المنتظر (ع).

المؤلف: السيد سامي البدري.

الطبعة: الرابعة 1428هـ.ق.

مكان الطبع: قم المقدسة.

الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر.

طبعت الطبعة الرابعة بطلب من المجمع العالمي لاهل البيت (ع)، وطبعت الطبعة الخامسة سنة 1431هـ

ISBN: 964-6909-54-x

ترقيم الصفحات مواقف للمطبوع

امام الغلاف
خلف الغلاف

الفهرس الاجمالي لكتاب شبهات وردود

هوية الكتاب:

اسم الكتاب: شبهات وردود ـ الرد على شبهات احمد الكاتب حول إمامة اهل البيت (ع) ووجود المهدي المنتظر (ع).

المؤلف: السيد سامي البدري.

الطبعة: الرابعة 1428هـ.ق.

مكان الطبع: قم المقدسة.

الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر.

طبعت الطبعة الرابعة بطلب من المجمع العالمي لاهل البيت (ع)، وطبعت الطبعة الخامسة سنة 1431هـ

ISBN: 964-6909-54-x

ترقيم الصفحات مواقف للمطبوع

امام الغلاف
خلف الغلاف
الزيارات : 76