شبهات وردود ـ البحث التمهيدي

محتويات البحث التمهيدي

 

«صفحة 21»

بحث تمهيدي حول الامامة الالهية ونظام الحكم

 

«صفحة 22»

«صفحة 23»

الإمامة الإلهية

تصور خاطئ:

هناك تصور خاطئ سائد لدى الكثير من الكتاب والمفكرين حول مفاهيم (العصمة) و(النص) و(اهل البيت) و(الاثني عشرية) و(غيبة المهدي وانتظار ظهوره) المتداولة في الفكر الشيعي بتقدير انها مفاهيم وافكار ترتبط بنظرية الحكم والنظرية السياسية، والحال ان هذه المفاهيم والافكار لا ترتبط بنظرية الحكم في الفكر الشيعي الا بمقدار ارتباط مفهوم النبوة والرسالة بنظرية الحكم في الفكر السني.

فكما ان ارتباط النبوة والرسالة بالحكم في الفكر السني قائم على فكرة مواصلة بيان الرسالة ومفاهيمها الجزئية التي ترتبط بالحكم بشكل عملي لإعطاء تجربة معصومة يقتدى بها في هذه الامور وليس قائما على اساس ان هذا المقام لا يجوز الا للنبي، كذلك ارتباط الحكم باهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام) في الفكر الشيعي فهو قائم على اساس مواصلة التجربة المعصومة التي مارسها النبي (صلى الله عليه وآله) من قبل هؤلاء الاثني عشر لتعميقها وتوضيح تفاصيلها في الاحوال المختلفة التي تمر على الامة، وليس لبيان ان موقع الحكم لا يجوز الا لهؤلاء الاثني عشر فاذا غاب الامام الثاني عشر يتعطل النظام السياسي.

وفي هذا السياق يأتي الدور الايجابي لغيبة المعصوم فان من ابرز حكم الغيبة واسرارها الواضحة هي اتاحة الفرصة للامة التي حملت تراث الائمة ان تمارس مسؤولياتها الفكرية والعلمية والسياسية على اساس فهمها البشري غير المعصوم للقرآن والتراث الفكري الذي خلفته التجربة المعصومة للنبي والائمة، وتأتي ايضاً فكرة عودة المعصوم الغائب في آخر الدنيا وظهوره مرة ثانية على المسرح

 

«صفحة 24»

الاجتماعي والسياسي لتقييم التجارب السابقة للمسيرة غير المعصومة والكشف عن مستوى تمثيلها وصدق تعبيرها وأمانتها من ناحية، ومن ناحية اخرى لتحقيق الوعد الالهي المذكور في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء/105 ويتمثل هذا الوعد بحياة حرة سعيدة في ظل النظام الالهي على الارض كلها حيث تستأصل كل عوامل الاختلاف والانحراف المؤدية الى الشر والفساد.

وتفصيل ذلك فيما يلي:

ثلاث طبقات من العلماء بشريعة الله في الكتب السابقة:

قال تعالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِك هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ /المائدة /44 وضحت لنا الآية الكريمة قاعدة دستورية ثابتة تتعلق بالحكم مفادها: ان من شروط الحاكم بقانون الله وشريعته ان يكون عالما به مستقيما عليه، ثم ذكرت ثلاث طبقات من العلماء بقانون الله وشريعته وهم النبيون والربانيون والاحبار. وسكتت الاية عن بيان كيفية ممارسة الحكم من قبل هؤلاء، وهنا لا بد لنا من الرجوع الى السنة بوصفها المبينة للاحكام المجملة شاننا في شاننا مع الصلاة والزكاة حين بين القرآن حكمها العام وترك بيان التفاصيل الى السنة وهو معنى قوله تعالى ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ النحل/44.

النبيون: هم الذين يكون علمهم عن طريق الله تعالى مباشرة بلا توسط الملك ويضاف له توسط الملك ولا يُعرَفون الا بالمعجزة او بالنص او بكليهما.

الربانيون: هم المطهرون المعصومون من العلماء ويكون علمهم بالدراسة الخاصة على يد النبي او الرباني ويضاف اليه الالهام بواسطة الملك ولا يُعرَفون الا بالنص او بالنص والمعجزة.

 

«صفحة 25»

والرباني منزلته دون النبي وفوق الحبر وقد بين القرآن عددا من أفراد الربانين كالاسباط من ذرية يوسف المشار اليهم في قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ البقرة/136. وطالوت والاسباط من ذرية هارون وهم آل هارون المشار اليهم في قوله تعالى: واثبتها لآل هارون وطالوت ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَك آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِك لَ آيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ البقرة/247-248.

وقد اثبتها القرآن ايضا لمريم ونص انها محدَّثة من قبل الملائكة باذن الله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاك وَطَهَّرَك وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّك وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ آل عمران/42-43.

وأثبت القرآن ايضا ان هذا الصنف من العلماء المطهرين يؤيدهم الله تعالى بما أيد به انبياءه من ظهور معجزات على ايدهم يظهرونها عند الحاجة اليها ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيك بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِك وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيك بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْك طَرْفُك فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ (40)﴾ النمل، والشخص الذي كان عنده علم من الكتاب هو آصف بن برخيا وكان وارث سليمان ووصيه ولم يكن نبياً.

الاحبار: وهم حملة الكتاب الالهي من اتباع النبيين والربانيين ورواة احاديثهم الفقهاء الذين يكون علمهم عن طريق التلقي والدراسة فقط ويُعرَفون علميا من خلال

 

«صفحة 26»

نتاجهم العلمي، ويُعرَف استحفاظهم واستقامتهم من خلال سيرتهم العملية فمنهم المضيع لكتاب الله ومنهم الحافظ لها الامين عليها. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ المائدة/66

﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى الله إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ الأعراف/169

أخطر مسألة بعد النبي (صلى الله عليه وآله):

ان اهم وأخطر مسألة خلافية بين المسلمين على الاطلاق هي التي ترتبط بجواب السؤال التالي وهو: هل ان العلماء بالقرآن والسنة في امة خاتم الانبياء منذ البعثة والى قيام الساعة هم صنفان النبي الطاهر المطهر والفقهاء غير المطهرين غير المعصومين المشار اليهم في قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ التوبة/122، أم يوجد صنف ثالث وهم العلماء المطهرون نص النبي عليهم وعلى عددهم وعرَّف بهم كما نص موسى مثلا على آل هارون وعرَّف بهم وكما نص زكريا على مريم وعرَّف بها؟

الشيعة:

قام الكيان الشيعي على الجواب الايجابي على السؤال الآنف الذكر وذلك تبعا لما ورد في القرآن والسنة الصحيحة وتبعا لحركة الائمة الإثني عشر في الامة وما صدر عنهم من اقوال وسيرة.

فالقرآن اثبت وجود مطهرين معصومين من أهل بيت النبي دون غيرهم ولم يسمِّهم وسمّاهم النبي كما ورد في الحديث النبوي المعروف بحديث الكساء.

 

«صفحة 27»

واثبت القرآن ان موقع الشهيد على الناس البشير النذير الذي جعله الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله) ابتداء ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ الأحزاب/45 مستمر في الامة بعد النبي في اهل بيته قال تعالى ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ هود/17وقوله تعالى ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ(1) وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ الحج/78.

ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)﴾ النساء/54-55 وآل ابراهيم هنا هم البقية الباقية من عترته المشار اليها في قوله تعالى ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَك وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِك وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾ البقرة/127-129

وآل ابراهيم هؤلاء قد أورثهم النبي (صلى الله عليه وآله) بامر الله تعالى الكتاب وبيانه وراثة خاصة قال تعالى ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِك هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ فاطر/32 فالوارث للكتاب هو السابق بالخيرات. اما المقتصد فهو المتعلم منهم، اما الظالم لنفسه فهو التارك لهم الصادّ عنهم. وهذه الوراثة نظير وراثة آل هارون تراث موسى المشار اليه في قوله تعالى ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَك آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِك لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ البقرة/248.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) صفحة 412»والاية توضح ايضا ان هؤلاء الشهداء على الناس قد بشر بهم في الكتب السابقة كما بشر بالنبي (ص) .

«صفحة 28»

وقد كلف الله تعالى هؤلاء الوارثين السابقين بالخيرات بإذن الله ان يحفظوا الرسالة بعد النبي وعرضهم على الناس ائمة هدى وفرض الاقتداء بهم ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِك الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)﴾ الأنعام(1).

وقد أكد النبي (صلى الله عليه وآله) مفاهيم هذه الايات بقوله: (إني تارك فيكم أمرين (وفي رواية ثقلين) لن تضلوا إن اتبعتموهما(وفي رواية ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا): كتاب الله وعترتي أهل بيتي فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم. ثم قال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله). وقوله: (يا علي انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي). وقوله: (يكون لهذه الامة اثنا عشر قيِّماً لا يضرهم من خذلهم كلهم من قريش). وقوله: (يكون بعدي من الخلفاء عدة أصحاب موسى) واصحاب موسى في القران اثنا عشر كما قال تعالى ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ المائدة/12-13. وقال تعالى ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَوَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾ الاعراف/159-160. وقوله (صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين سبطان من الاسباط).

وتحرك علي والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين (عليه السلام) في الواقع التاريخي حركة منسجمة مع تلك النصوص مع تصريح منهم انهم المراد بهم في تلك الايات دون غيرهم.

قال علي (عليه السلام): (أين الذين زعموا انهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا ان رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم بنا يستعطى الهدى ويستجلى

ـــــــــــــــــــــــ

(1) كرسنا كتابا خاصا لبحث الامامة الالهية لاهل البيت في ضوء القرآن وقبل الرجوع الى السنة النبوية المطهرة.

«صفحة 29»

العمى ان الائمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم).

وقال (عليه السلام) في ذكر اهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله): (هم موضع سره، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه بهم أقام انحناء ظهره، واذهب ارتعاد فرائصه، لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم أساس الدين وعماد اليقين إليهم يفئ الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة) (1).

والكتب التي ذكرها (عليه السلام) في هذا الكلام هي ما كتبه بيده عن النبي (صلى الله عليه وآله).

وفي رواية الباقر (عليه السلام) قال قال رسول (صلى الله عليه وآله) الله لعلي (عليه السلام): اكتب ما أملي عليك قال يانبي الله اتخاف علي النسيان؟ قال لست اخاف عليك النسيان وقد دعوت الله ان يحفظك ولا ينسيك ولكن اكتب لشركائك، قال قلت ومن شركائي يانبي الله؟ قال الائمة من ولدك… (2).

وعن حمران بن اعين عن ابي جعفر (عليه السلام) قال اشار الى بيت كبير وقال يا حمران ان في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعا بخط علي واملاء رسول الله ولو لينا الناس لحكمنا بما انزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة(3).

وفي رواية أخرى قال والله ان عندنا لجلدي ماعز وضأن املاها رسول الله وخط علي (بيده) وأن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعا املاها رسول الله وخطها علي بيده وان فيها لجميع ما يحتاج اليه حتى ارش الخدش(4).

وقال الامام الصادق (عليه السلام): (أترون ان الموصي منا يوصي إلى من يريد لا والله ولكنه عهد معهود من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رجل فرجل حتى انتهى إلى نفسه). وفي لفظ آخر (إلى ان ينتهي إلى صاحب هذا الامر).

وقال (عليه السلام): (نحن اثنا عشر محدَّثاً). والمحدَّث هو الذي تحدثه الملائكة بإذن الله

ـــــــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة الخطبة رقم2.

(2) امالي الشيخ الطوسي ط النجف ج2 /56 وبصائر الدرجات 167.

(3) بصائر الدرجات 143.

(4) بصائر الدرجات 145، 159.

«صفحة 30»

وليس شرطا ان يكون نبيا كما هو الحال في مريم (عليه السلام).

وقال الباقر (عليه السلام): «يكون تسعة أئمة من ذرية الحسين بن علي تاسعهم قائمهم».

وقال الصادق: «انا من الذين قال عنهم الله اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده».

وأُثِرَ عن الائمة (عليهم السلام) تراث فكري ضخم جدا، مستقل ومتميز يعكس رواية كاملة للبيان النبوي للاسلام وتحربته الالهية المعصومة، تحمله عنهم شيعتهم ودوَّنوه في كتبهم المعروفة.

وشاءت حكمة الله تعالى ان يجعل تشابها تكوينيا بين المطهرين من آل النبي (صلى الله عليه وآله) وبين نظرائهم من الاوصياء في الامم السابقة.

شاءت حكمة الله تعالى ان يجعل في الحجج من بعد محمد (صلى الله عليه وآله) في امته امرأة حجة وهي فاطمة بنت محمد(صلى الله عليه وآله) كما جعل بعد موسى في امته امرأة حجة وهي مريم بنت عمران (عليه السلام).

وشاءت حكمة الله تعالى أيضاً ان يجعل من ذرية فاطمة (عليها السلام) خاتم أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) وهو الحجة بن الحسن العسكري (عليه السلام) كما جعل من ذرية مريم (عليها السلام) من قبلُ حجته عيسى (عليه السلام) خاتم أصفيائه من آل عمران وبني إسرائيل.

وشاءت حكمة الله تعالى ان يجعل المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله) نظيرا لعيسى من آل عمران من ناحية الاختلاف في ولادته والامتحان بغيبته، فقد اختلف بنو إسرائيل في ولادة المسيح بعد ان كانوا ينتظرونه جميعا للنصوص الثابتة عن أنبيائهم وفي كتبهم(1)، فآمنت طائفة لما ولد وأنكرت طائفة ذلك إلى اليوم.

واختلفت (أمة محمد (صلى الله عليه وآله) في ولادة المهدي المنتظر من ولد فاطمة (عليها السلام) بعد ان اخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عنه وبشَّر به(2) فآمنت طائفة لما ولد سنة 255 هجـ، وهي لا تزال مؤمنة به الى اليوموأنكرت طائفة ذلك إلى اليوم أيضا.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) ذكرنا في موضعه في الحلقة الثانية مصادر ذلك.

(2) روى أبو داود في سننه عن أبي الطفيل عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم، لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا) وفيه أيضا عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة.) ج2 / 422 ط 1.

«صفحة 31»

وامتُحن أنصار عيسى بغيبته، فمنهم من قال قتل، ومنهم من قال أنجاه الله من كيد الظالمين واتصل بخواص تلاميذه لفترة يوجههم ثم غيَّبه الله تعالى ليظهره آخر الزمان.

وكذلك امتُحن شيعة المهدي (عليه السلام) بغيبته فمنهم / وهو قليل جدا وفي وقته / من قال انه مات في الغيبة(1)، وقال الاغلب بحياته في غيبته الطويلة التي غاب فيها بعد غيبته القصيرة وهم ينتظرون ظهوره ليحقق الله تعالى به وعده الذي وعده لنبيه الخاتم. وشاءت حكمة الله أيضا ان يجعل في آل محمد (صلى الله عليه وآله) حجة لله في سن دون العاشرة من عمره وهو أبو جعفر محمد الجواد (عليه السلام) ليكون نظيرا ليحيى في آل عمران آتاه الله الحكم صبيا.

وشاءت حكمة الله ان يجعل أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) اثني عشر وان يجعل الثاني عشر منهم المهدي يحقق الله تعالى على يده وعده لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) ويرث المؤمنون برسالته الارض كلها ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ﴾ الانبياء / 105 وان يكون ذلك نظيرا لاوصياء موسى الاثني عشر وما جعله على يد الثاني عشر من أوصيائه وهو داود من تحقق للوعد الذي وعده لموسى وبني إسرائيل من وراثة ارض فلسطين وما حولها.

وشاءت حكمة الله ان يجعل اغلب أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) من ذرية أخيه ووزيره وأول أوصيائه علي (عليه السلام) وان يكون ذلك نظيرا لما جعله الله تعالى من كون اغلب أوصياء موسى (عليه السلام) بعده في ذرية أخيه ووزيره هارون (عليه السلام) وهم (آل هارون) (2).

أهل السنة:

وقام الكيان السني على الاجابة السلبية على السؤال المذكور حيث نفى أهل

ـــــــــــــــــــــــ

(1) سيأتي ذكر ذلك في الحلقة الاولى.

(2) قضية التناظر بين آل محمد (صلى الله عليه وآله) وآل عمران وآل هارون والحجج الالهيين في الامم الماضية مسألة ملفتة للنظر جعلها الله تعالى من المعالم الهادية إلى حقانية حركة الائمة الاثني عشر (عليهم السلام) وبخاصة بعد ان أصبحت حركتهم (عليه السلام) بما فيها غيبة المهدي عج واقعا تاريخيا ناجزا ثابتا تسهل مقارنته مع الواقع التاريخي لحركة الحجج في الامم السابقة كما ذكرها القرآن الكريموالنصوص الموافقة له من أسفار التوراة والانجيل المتداولة وقد درسنا ذلك مفصلا وأعددناه في كتاب خاص.

«صفحة 32»

السنة وجود معصومين بعد النبي لهم امتياز خاص في البيان النظري او العملي للاسلام أو في حق الحكم.

وحاولوا رد دلالة النصوص الآنفة الذكر على مدعى الشيعة.

ونفوا صحة الاخبار التي تفيد ان عليا والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين قد ساروا في سيرتهم الفكرية والعملية والسياسية سيرة تنسجم مع ما يدعيه الشيعة من فهم لتلك النصوص، ونفوا كذلك صحة النصوص الآنفة الذكر ونظائرها المأثورة عن الائمة (عليهم السلام) واعتبروها وامثالها من مختلقات الشيعة.

محور الخلاف الاساس بين الشيعة واهل السنة:

وفي ضوء ذلك يتضح ان محور الخلاف الاساس بين مدرسة التسنن والتشيع هو حول وجود صنف الربانيين من العلماء الشهداء على الناس شهادة تجعلهم ميزانا فكرياً وعملياً للناس يزنون به اعمالهم في كل حقل من الحقول امتداداً لمنزلة النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك.

الشيعة يعتقدون بوجود اثني عشر شخصا معصوما من اهل بيت النبي يضاف اليهم الزهراء (عليها السلام) لهم موقع الشهادة على الناس كشهادة النبي وامتداد لها، ويترتب على كون الائمة الاثني عشر لهم منزلة النبي الا فيما يخص النبوة والازواج انهم اولى الناس بالحكم كاولوية النبي في زمانه.

وأهل السنة ينفون وجود معصوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وما يترتب على وجوده.

والشيعة يسوقون أدلتهم من القرآن والسنة والنبوية وما اثر عن الائمة (عليهم السلام) من تراث وسيرة وأهل السنة ينفون دلالة الايات والروايات وما يؤثر من تراث خاص عن الائمة.

والمسألة مسألة علمية ومفتوحة لكل باحث وتبقى مفتوحة حتى ظهور المهدي بن الحسن العسكري الذي يدعيه الشيعة ويثبت هويته للعالم بوسائله التي اعدها لذلك.

 

«صفحة 33»

نظرية الحكم

نتناولها اولا في الفكر السني ويهمنا من بحث نظرية الحكم هنا ثلاثة امور بشكل مختصر وهي:

نظرية الحكم في الفكر السني:

الامر الاول: الشخص المؤهل لإقامة الحكم الاسلامي

الذي نحرزه وان لم يحضرنا موضعه في كتاب معين هو ان الفكر السني يميز في هذا الامر بين فترتين:

الفترة الاولى فترة وجود النبي: والشخص المستحق للحكم هو النبي وحده لمكان نبوته ورسالته ويحرم تقدم أي شخص على النبي في هذا الموقع وفي غيره لكونه اولى بكل مسلم من نفسه ورسالته قال تعالى: ﴿النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ الأحزاب/6. وقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الحجرات/1. وغيرها وفي الواقع فإن هذه المسالة من البديهيات.

الفترة الثانية فترة ما بعد النبي (صلى الله عليه وآله): ويرى مفكرو اهل السنة ان المؤهل للحكم هو العالم بالكتاب والسنة وان الصحابة كلهم مؤهلون على تفاضل بينهم في العلم والكفاءة. وفي جيل ما بعد الصحابة يشترط الكثير من الفقهاء في الحاكم ان يكون فقيها. قال الشريف الجرجاني في شرحه على مواقف عضد الدين: (الجمهور على ان الامامة ومستحقها من هو مجتهد في الاصول والفروع) (1).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) شرح المواقف للسيد شريف الجرحاني 8/349 مطبعة السعادة 1907.

«صفحة 34»

الامر الثاني: الطريقة التي توصل الشخص المؤهل الى موقع الحكم ومصدر سلطة الحاكم

يرى فقهاء اهل السنة ان الطريقة المشروعة التي توصل الانسان الى الحكم وتمنحه السلطة هي البيعة، والاساس في ذلك سنة النبي (صلى الله عليه وآله) مع ملاحظة ان النبي ينص القرآن على ولايته، وهناك من الفقهاء من اعطى مشروعية لما يسمى بالامر الواقع او الغلبة، ففي حالة اختلاف الناس وكثرة المتصدين وكون كل متصدي له جماعة بايعته على القتال يكون الحكم شرعا لمن غلب كما في حالة مروان وابنه عبد الملك وغيرهما.

ولا خلاف عند مؤرخي الاسلام ان البيعة التي تمت في عهد الرسول وقامت دولة الرسول على أثرها كانت قد تمت من قبل سبعين شخصا وامرأتين ممثلين عن اهل المدينة وهي بيعة العقبة الثانية المشهورة، وأكد هذا التمثيل استقبال غالبية اهل المدينة للنبي عندما قدم الى المدينة.

ثم اختلف فقهاء السنة بعد ذلك هل تنعقد الحكومة ببيعة الواحد و الاثنين والخمسة وبعهد الحاكم السابق؟

قال الماوردي (ت: 450 هـ) في الاحكام السلطانية(1) وأبو يعلى (ت: 458 هـ) في الاحكام السلطانية(2): تنعقد الامامة باختيار أهل الحلّ والعقد، وبعهد الامام من قبل.

فأمّا انعقادها باختيار أهل الحلّ والعقد، فقد اختلف العلماء في عدد مَن تنعقد به الامامة منهم على مذاهب شتّى:

فقالت طائفة: لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ليكون الرضا به عامّاً والتسليم لامامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر (رضي الله عنه) على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الاحكام السلطانية لابي الحسن الماوردي كان من وجوه فقهاء الشافعية، له مصنّفات كثيرة.

(2) الاحكام السلطانية للشيخ أبي يعلى محمد بن الحسن الفراء الحنبلي، ص 7 11.

«صفحة 35»

وقالت طائفة اُخرى: اقلّ من تنعقد به منهم الامامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الاربعة استدلالاً بأمرين أحدهما: أنّ بيعة أبي بكر (رضي الله عنه) انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثمّ تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجرّاح، واُسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة (رضي الله عنه). والثاني: أنّ عمر (رضي الله عنه) جعل الشورى في ستّة ليعقد لاحدهم برضا الخمسة. وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.

وقال آخرون من أهل الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين كما يصحّ عقد النكاح بولىّ وشاهدين.

وقالت طائفة اُخرى: تنعقد بواحد، لانّ العباس قال لعلي رضوان الله عليهما: اُمدد يدك اُبايعك، فيقول الناس عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بايع ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان، ولا نّه حكم وحكم واحد نافذ) (1).

(وأمّا انعقاد الامامة بعهد من قبله، فهو ممّا انعقد الاجتماع على جوازه ووقع الاتّفاق على صحّته لامرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما، أحدهما: أنّ أبا بكر (رضي الله عنه) عهد بها إلى عمر (رضي الله عنه) فأثبت المسلمون إمامته بعهده. والثاني: أنّ عمر (رضي الله عنه) عهد بها إلى أهل الشورى… لانّ بيعة عمر (رضي الله عنه) لم تتوقّف على رضا الصحابة، ولانّ الامام أحقّ بها) (2).

وقال إمام الحرمين الجويني (ت: 478 هـ) في باب الاختيار وصفته وذكر ما ينعقد به الامامة من كتاب الارشاد: (إعلموا أ نّه لا يشترط في عقد الامامة الاجماع، بل تنعقد الامامة وإن لم تجمع الاُمّة على عقدها. والدليل عليه أنّ الامامة لمّا عقدت لابي بكر ابتدر لامضاء أحكام المسلمين، ولم يتأنّ لانتشار الاخبار إلى من نأى من الصحابة في الاقطار، ولم ينكر عليه منكر، ولم يحمله على التريّث حامل. فإذا لم يشترط الاجماع في عقد الامامة، لم يثبت عدد معدود، ولا حدّ محدود، فالوجه الحكم بأنّ الامامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحلّ والعقد) (3).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الاحكام السلطانية للماوردي / 6 7.

(2) المصدر السابق ص 10.

(3) الارشاد في الكلام لامام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، ط. القاهرة 1369 هـ، ص 424.

«صفحة 36»

وقال الامام ابن العربي (ت: 543 هـ): (لا يلزم في عقد البيعة للامام أن تكون من جميع الانام، بل يكفي لعقد ذلك اثنان أو واحد) (1).

وقال الشيخ الفقيه الامام العلاّمة المحدّث القرطبي (ت: 671 هـ) في المسألة الثامنة في تفسير ﴿إنِّي جاعِلٌ في الارْضِ خَلِيفة﴾ البقرة / 30، من تفسير سورة البقرة: (فإن عقدها واحد من أهل الحلّ والعقد فذلك ثابت، ويلزم الغير فعله، خلافاً لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلاّ بجماعة من أهل الحلّ والعقد. ودليلنا أنّ عمر (رضي الله عنه) عقد البيعة لابي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، فوجب ألاّ يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود).

وقال الامام أبو المعالي: (من انعقدت له الامامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغيّر أمر، قالوهذا مجمع عليه).

وقال في المسألة الخامسة عشرة من تفسير الاية: (إذا انعقدت الامامة باتّفاق أهل الحلّ والعقد أو بواحد على ما تقدّم وجب على الناس كافّة مبايعته) (2).

وقال عضد الدين الايجي (ت: 756 هـ) في المواقف: المقصد الثالث في ما تثبت به الامامة، ما ملخّصه: أ نّها تثبت بالنصّ من الرسول، ومن الامام السابق بالإجماع، وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد خلافاً للشيعة. دليلنا ثبوت إمامة أبي بكر (رضي الله عنه) بالبيعة.

وقال: إذا ثبت حصول الامامة بالاختيار والبيعة، فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الاجماع، إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد كاف، لعلمنا أنّ الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك كعقد عمر لابي بكروعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا اجتماع مَن في المدينة فضلاً عن إجماع الاُمّة. هذا ولم ينكر عليهم أحد، وعليه انطوت الاعصار إلى وقتنا هذا(3).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الامام أبو بكر المشهور بابن العربي في شرحه سنن الترمذي 13 / 229.

(2) القرطبي كتاب جامع أحكام القرآن 1 / 269 و 272.

(3) المواقف في علم الكلام، ط. مصر 1325 هـ، 8 / 351 353، تأليف القاضي عبد الرحمن بن أحمد الايجي، توفّي عام 756 هـ.

«صفحة 37»

ونقل أبو يعلى الفرّاء الحنبلي في الاحكام السلطانية(1) قول بعضهم: إنّها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد… ومن غلب عليهم بالسيف حتّى صار خليفة وسمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لاحد يؤمن بالله واليوم الاخر أن يبيت ولا يراه إماماً برّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين… وقال في الامام يخرج عليه من يطلب الملك فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم: (تكون الجمعة مع من غلب) واحتجّ بأنّ ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحرّة وقال: (نحن مع من غلب) (2).

الامر الثالث: الموقف من الحاكم إذا خالف الشريعة

يوجد اتجاهان فقهيان لدى أهل السنة في هذه المسالة احدهما يحرم الخروج على الحاكم الظالم والثاني تؤيد الخروج.

قال النووي في شرحه بباب لزوم طاعة الاُمراء في غير معصية: (وقال جماهير أهل السنّة من الفقهاء والمحدّثين والمتكلّمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للاحاديث الواردة في ذلك). وقال: (وأمّا الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الاحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنّة أ نّه لا ينعزل السلطان بالفسق) (3).

وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيّب الباقلاني (ت: 403 هـ) في كتاب التمهيد(4) في باب ذكر ما يوجب خلع الامام وسقوط فرض طاعته ما ملخّصه: (قال الجمهور من أهل الاثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الامام بفسقه وظلمه بغصب الاموال، وضرب الابشار، وتناول النفوس المحرّمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شىء ممّا

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الاحكام السلطانية ص 7 11.

(2) المصدر السابق ص 7 8 في طبعة، وفي اُخرى ص 20 23.

(3) 12 / 229 في شرحه على صحيح مسلم، وراجع سنن البيهقي 8 / 158 159.

(4) ط. القاهرة 1366 هـ.

«صفحة 38»

يدعو إليه من معاصي الله. واحتجّوا في ذلك بأخبار كثيرة متظافرة عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) وعن الصحابة في وجوب طاعة الائمة وإن جاروا واستأثروا بالاموال، وأ نّه قال (عليه السلام): اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع، ولو لعبد حبشي، وصلّوا وراء كلّ برّ وفاجر. وروي أ نّه قال: أطِعْهم وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك).

وهناك من تحدث من الفقهاء عن عزل الحاكم لفسقه وجوره كالشافعي والغزالي في احياء علوم الدين(1).

قال عضد الدين الايجي: (للامة خلع الامام وعزله بسبب) المواقف ج 8 /353 وقال الشارح: مثل ان يوجد منه ما يوجب اختلال احوال المسلمين وانتكاس امور الدين كما لهم نصبه واقامته لإنتظامها وإعلائها.

وقال ابن حزم: فهو الامام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله وينة رسوله (صلى الله عليه وآله) فإن زاغ عن شئ منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق فإن لم يؤمن أذاه الا بخلعه خلع وولي غيره(2).

نظرية الحكم في الفكر الشيعي:

الامر الاول: الشخص المؤهل لاقامة الحكم الاسلامي

يميز الفكر الشيعي من هذه الناحية بين ثلاث فترات:

الفترة الاولى: هي فترة النبي (صلى الله عليه وآله) ويلتقي الفكر السني مع الفكر الشيعي من ناحية كون الشخص الوحيد المؤهل والمستحق للحكم هو النبي وحرمة تقدم غيره عليه في هذه الناحية وفي غيرها للنص القرآني ﴿النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ الأحزاب/6.

الفترة الثانية: وهي فترة الائمة الاثني عشر وهذه الفترة هي موضع الخلاف بين الشيعة وأهل السنة حيث يرى الشيعة ان هؤلاء الائمة الاثني عشر لهم امتياز في الحكم كامتياز النبي لانتقال ولايته اليهم (من كنت مولاه فعلي مولاه) فكل واحد منهم

ـــــــــــــــــــــــ

(1) المشروعية للدكتور علي جريشة /314.

(2) الفصل في الملل والاهواء والنحل ج4/102.

«صفحة 39»

في زمانه هو المؤهل الوحيد وحرمة تقدم شخص آخر عليه.

الفترة الثالثة: وهي فترة غيبة الامام الثاني عشر المهدي بن الحسن العسكري (عليهما السلام) ولا يختلف الشيعة في كون الشخص المؤهل لتنفيذ الاحكام هو الفقيه العادل. وانما اختلفوا في سعة صلاحياته وضيقها كما سيأتي.

قال الشيخ المفيد (ت413) في المقنعة: اما اقامة الحدود فهو إلى سلطان الاسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم ائمة الهدى من آل محمد (عليهم السلام)، ومن نصبوه لذلك من الامراء والحكام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الامكان. فمن تمكن من إقامتها على ولده وعبده، ولم يخف من سلطان الجور إضرارا به على ذلك، فليقمها. ومن خاف من الظالمين اعتراضا عليه في إقامتها، أو خاف ضررا بذلك على نفسه، أو على الدين، فقد سقط عنه فرضها.

وكذلك إن استطاع إقامة الحدود على من يليه من قومه، وأمن بوائق الظالمين في ذلك، فقد لزمه إقامة الحدود عليهم، فليقطع سارقهم، ويجلد زانيهم، ويقتل قاتلهم. وهذا فرض متعين على من نصبه المتغلب لذلك على ظاهر خلافته له أو الامارة من قبله على قوم من رعيته، فيلزمه إقامة الحدود، وتنفيذ الاحكام، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار ومن يستحق ذلك من الفجار، ويجب على إخوانه من المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم ما لم يتجاوز حدا من حدود الايمان، أو يكون مطيعا في معصية الله تعالى من نصبه من سلطان الضلال. فإن كان على وفاق للظالمين في شئ يخالف الله تعالى به لم يجز لاحد من المؤمنين معونته فيه، وجاز لهم معونته بما يكون به مطيعا لله تعالى من إقامة وإنفاذ حكم على حسب ما تقتضيه الشريعة دون ما خالفها من أحكام أهل الضلال.

وللفقهاء من شيعة الائمة (عليهم السلام) أن يجمعوا بإخوانهم في الصلوات الخمسوصلوات الاعياد، الاستسقاء، والكسوف، والخسوف، إذا تمكنوا من ذلك، وأمنوا فيه من معرة أهل الفساد. ولهم أن يقضوا بينهم بالحق، ويصلحوا بين المختلفين في الدعاوى عند عدم البينات، ويفعلوا جميع ما جعل الى القضاة في الاسلام لان الائمة عليهم السلام قد فوضوا إليهم ذلك عند تمكنهم منه بما ثبت عنهم فيه من الاخبار، وصح به النقل عند

 

«صفحة 40»

أهل المعرفة به من الآثار(1).

الامر الثاني: الطريقة التي توصل الشخص المؤهل الى موقع الحكم ومصدر سلطة الحاكم

لا يختلف الشيعة حول سلطة النبي والائمة الاثني عشر في الحكم ان مصدرها النص من الله على نبيه في القرآن او النص من نبيه على علي (عليه السلام) ومادور البيعة الا دور النصرة والتمكين.

قال السيد كاظم الحائري: ان المعصوم (عليهم السلام) على رغم ان له ولاية الامر والحكومة بتشريع من قبل الله تعالى لم يكن من المقرر الهيا ان يرضخهم لما له من حق الحكومة بالاكراه الاعجازي، كما انه لا تجبر الامة على الاحكام الاخرى كالصلاة والصوم بالجبر الاعجازي والا لبطل الثواب والجزاء، لان الناس يصبحون مسيرين عن غير اختيار. بل كان من المقرر ان يصل المعصوم الى السلطة بالطرق الاعتيادية ومن الواضح الوصول الى السلطة بالطريق الاعتيادي وبغير الاعجاز ينحصر في وجود ناصرين له من البشر، فكان اخذ البيعة منهم لاجل التأكد من وجود ثلة كافية من الامة تعهدوا بنصر المعصوم والعمل معه في جهاده وسائر اموره الحكومية ولولاهم لعجز المعصوم حسب القوة البشرية ومن دون الاعجاز عن تحقيق السلطة والحكومة خارجا(2).

ويختلف فقهاء الشيعة في تشخيص مصدر سلطة الفقيه وفي حدودها سعة وضيقا.

فمنهم من حصرها في نطاق الامور الحسبية(3) وهناك من وسعها لتشمل ما كان

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الشيخ المفيد المقنعة ص 810.

(2) رسالة الثقلين العدد 12 مغزى البيعة مع المعصومين.

(3) الامور الحسبية مصطلح فقهي يقصد به الامور والمصالح العامة او الخايصة التي نعلم بصورة قطعية بان الله تعالى لا يرضى بفواتها من ناحية وان حصولها وتحققها يتوقف على وجود من يلي امرها ويمارس الولاية والاشراف عليها من ناحية اخرى، ولم يعين الله تعالى لها وليا خاصا من ناحية ثالثة ويمثل لها عادة بالموقوفات العامة التي هي بحاجة الى من يتولى امرها ولم يعين لها الواقف متوليا خاصا، وكذلك أموال اليتامى والقاصرين الذين ليس لهم اولياء (انظر ولاية الامر للسيد كاظم الحائري المقدمة بقلم السيد علي اكبرالحائري ص20 0

«صفحة 41»

المعصوم يمارسه من ولاية في المجتمع وهؤلاء ينظرون الى البيعة على ان دورها ايضا دور تأكيدي لا غير(1).

وهناك من الفقهاء من يرى ان الفقيه ليست له ولاية الا بعد بيعة جمهور الامة حيث ان منشأ ولايته هو البيعة والنصوص جاءت لتفيد ان غير الفقيه ليس مؤهلا لهذا الموقع(2).

الامر الثالث: الموقف من الحاكم اذا خالف احكام الشريعة

ان الموقف الشيعي من هذا المسألة ينبغي ان يعالج في فترتين وهما:

الفترة الاولى: فترة وجود الامام المعصوم ظاهرا في المجتمع: والثابت من سيرة الائمة (عليهم السلام) والمعروف من اقولهم انهم يرون القيام ضد الحاكم الجائر في حالة توفر الناصر الكافي مع عدم وجود تعهد بعدم القيام من قبل الامام وشيعته مع ذلك الحاكم، وأوضح مثال هو موقف الامام الحسين (عليه السلام) من معاوية حيث توفرت كل مبررات القيام بوجهه وبخاصة بعد قتل حجر واصحابه (رض) ومع ذلك لم يقم واوصى شيعته بالسكوت الى ما بعد وفاة معاوية ثم رأيناه يقبل بيعة وجوه اصحاب ابيه على نصرته ضد الامويين بعد موت معاوية ليطيح بالنظام الذي اسسه وشيده.

وحين لا تتوفر شروط القيام من وجود الناصر وغيره يكون السكوت والتقية وعدم اظهار الخلاف السياسي هو الموقف كما سكت بقية الائمة من ذرية الحسين (عليه السلام). وكلام علي (عليه السلام) في خطبته المعروفة بالشقشقية يوضح الموقف تماما قال (عليه السلام) والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لالقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها(3).

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر كتاب ولاية الامر للسيد كاظم الحائري المسالة الاولى.

(2) انظر كتاب ولاية الامر للشيخ الآصفي فصل نصب الحاكم في عصر الغيبة وكتاب دراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري الجزء الاول.

(3) نهج البلاغة ج 1 ص 36.

«صفحة 42»

الفترة الثانية فترة الغيبة: والمعروف بين فقهاء عصر الغيبة اتجاهان فقهيان. الاتجاه الاول وهو عين الاتجاه الذي عرضناه آنفا من سيرة الائمة (عليهم السلام). الاتجاه الثاني: ويلتزم التقية الى ظهور المهدي ودليله بعض الروايات من قبيل رواية الكليني في الكافي بسند صحيح عن الامام الصادق (عليه السلام): (كل راية ترفع أو تخرج قبل قيام القائم فهي راية ضلال) وغيرها.

 

«صفحة 43»

مصطلح الامام في الفكر الشيعي الاثني عشري

ورد لفظ الامام في التراث الفكري الشيعي على ثلاثة معاني:

المعنى الاول:

وهو معنى خاص ويراد به من له منزلة النبي (صلى الله عليه وآله) الا النبوة والازواج التي اشرنا اليها أي انه حجة في قوله وفعله وتقريره حيا وميتا، وأول أئمة بهذا المعنى هو النبي (صلى الله عليه وآله)، وعقيدة الشيعة ان هذا المعنى للامامة استمر بعد النبي في إثني عشر شخصاً من أهل بيته بوصية من النبي وبأمر من الله تعالى.

ولهذا المعنى من الامامة ياتي شرط العصمة والنص وحصرها في علي والحسن والحسين ثم في تسعة من ذرية الحسين كما حصرت الامامة بعد إبراهيم في ذريته اسماعيل ثم اسحاق ثم يعقوب ثم حصرت في ذريته قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ البقرة/124. وقال الله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ*وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ الانبياء/72-73. إنَّ إسماعيل وإسحاق ويعقوبوالاسباط كانوا أئمة هدى يهدون الناس الى سنة إبراهيم بأمر الله تعالى.

روى أبو عمرو الزبيري عن أبى عبد الله (عليه السلام) قوله: (ان مما استحقت به الإمامة(1)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قوله (عليه السلام) (ان مما استحقت به الإمامة التطهير. . . ثم العلم المكنون. . .): أي العلم المخزون المصون عن الاختلاف، نظير قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَاب مَّكْنُون) الواقعة/77-78. ومراده (عليه السلام) ان الإمامة الإلهية على الناس تستحق بأمرين: الأول: الطهارة من الذنوب صغيرها وكبيرها. الثاني: العلم بكل ما تحتاج إليه الأمة علما مصونا عن الخطأ والاختلاف، وكلاهما فضل من الله يمنحه من يشاء من عباده.

«صفحة 44»

التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار، ثم العلم المكنون بجميع ما تحتاج إليه الأمة حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصة وعامه والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرائب تأويله وناسخه ومنسوخة.

(قال ابو عمرو) قلت: وما الحجة بأن الإمام لا يكون إلا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت؟ .

قال (الامام الصادق) (عليه السلام): قول الله فيمن أذن لهم بالحكومة وجعلهم أهلها(1) ﴿انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون﴾ فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربون الناس بعلمهم(2). وأما (الأحبار) فهم العلماء دون الربانيين. ثم اخبرنا فقال: ﴿بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء﴾ ولم يقل بما حملوا منه(3).

والشاهد قوله (عليه السلام) فهذه الائمة دون الانبياء فقد استعملت هنا بمعنى الحجة والهادي المجعول من الله تعالى لاشتراط صفة الطهارة والعلم المصون من الاشتباه.

وروى ممحمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا امام له من الله فسعيه غير مقبول… (4).

المعنى الثاني:

وهو معنى عام ويراد به منصب الحكومة وإقامة الحدود سواء شغل هذا هذه المنصب

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قوله (عليه السلام) (قول الله فيمن أذن الله لهم بالحكومة وجعلهم أهلها) هو جواب منه (عليهم السلام) للسائل حيث طلب منه الاستدلال على أمر الإمامة الإلهية. ووجه الاستدلال هو ان الآية أشارت إلى وجود ثلاث طبقات من العلماء بالتوراة وكل الكتب الإلهية التي على شاكلتها ومنها القرآن الكريم.

(2) قوله (عليه السلام) (فهذه الأئمة دون الأنبياء) يشير إلى ان الربانيين في الآية هم الأئمة الإلهيون وهم العلماء أصحاب العلم المصون عن الخطأ المطهرون عن الذنوب المنصوص عليهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَة مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة23-24. وهم يوشع وآل هارون وطالوت وصاحب سليمان وغيرهم في بني إسرائيل، ولهم نظائر في أمة محمد (صلى الله عليه وآله) .

(3) تفسير العياشي / الاية 44من سورة المائدة.

(4) الكافي ج1/374.

«صفحة 45»

المعصوم او شغله غيره، وهذا المعنى يعتقد الشيعة فيه انه للنبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده للائمة الاثني عشر (صلى الله عليه وآله). وقد انتشر هذا المعنى لللفظة عند متكلمي السنة وفقهائهم منذ القرن الاول الهجري الى اليوم، اما عند الشيعة فقد بقي منحصرا في التراث الروائي لأهل البيت (عليهم السلام) ولم يستخدم في التراث الفقهي الا عند ثلة معاصرة منهم قبيل الثورة الاسلامية في ايران وقبلها.

روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له رجل جنى علي أعفو عنه او ارفعه الى السلطان قال هو حقك ان عفوت عنه فحسن وأن رفعته الى الامام فإنما حقك طلبت(1).

فالامام في الراواية مرادف للسلطان والحاكم كما في الآية الآتية ايضاً.

روى بريد بن معاوية قال سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ قال ذلك مفوض الى الامام يفعل ما يشاء قلت فموض ذلك اليه قال لا ولكن نحو الجناية(2). وفي رواية قال (عليه السلام) (ان قتله وصلبه وان شاء قطع يده ورجله(3). وفي رواية عبد الله بن ابي طلحة قال يحكم عليه الحاكم بقدر ما عمل وينفى ويحمل في البحر ويقذف به(4).

المعنى الثالث:

وهو معنى خاص يراد به خصوص الاثني عشر وصيا للنبي حيث اصبحت علما خاصا لهم (عليه السلام) لغلبة استعماله من قبل الشيعة فيهم (عليه السلام)، وصار يدل ايضا على المعنى الاول والثاني معا باعتبار التقاء المعنيين في عصر الائمة الاثني عشر في شخصهم (عليه السلام)، فهم حجج الله بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وهم المؤهلون وحدهم للحكم في زمانهم، وقد ساد هذا المعنى لدى المتكلمين للشيعة حيث كانوا معنيين بإثبات كلا المعنيين للامامة لهؤلاء الاثني عشر لا غير، ولم يكونوا معنيين بمسألة الحكم كمسألة مستقلة.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27 /38.

(2) الوسائل ج 28 /308.

(3) الوسائل 18/522.

(4) الوسائل ج18/540.

«صفحة 46»

قال الشيخ الطوسي: (وقولنا إمام يستفاد منه أمران: أحدهما أنه مقتدى به في أفعاله وأقواله من حيث قال وفعل، لان حقيقة الامام في اللغة هو المقتدى به، ومنه قيل لمن يصلى بالناس: إمام الصلاة. والثانى أنه يقوم بتدبير الامة وسياستها وتأديب جناتها والقيام بالدفاع عنها وحرب من يعاديها وتولية ولاية من الامراء والقضاة وغير ذلك واقامة الحدود على مستحقيها(1).

وبسبب صيرورة اللفظة علَما بالغلبة على المعصومين الاثني عشر تحاشى فقهاء الشيعة استخدام هذا اللفظ وإطلاقه على علمائهم وفقهائهم الا في القرن الاخير حيث اطلق على مرجع الدين نظير اطلاقه من قبل أهل السنة على الفقهاء والمحدثين سابقا.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) الرسائل العشر للشيخ الطوسي /رسالة في الفرق بين النبي والامام.

«صفحة 47»

الخلاصة

يتضح من هذه الدراسة المختصرة امور:

1. ان الفرق الجوهري بين السنة والشيعة ليس في النظرية السياسية او نظام الحكم بل في مسألة وجود أوصياء اثني عشر وان منزلتهم في بيان القرآن وأحكام الشريعة كمنزلة النبي سواء كان هذا البيان قوليا او سيرة عملية وان هؤلاء الاوصياء الاثني عشر لهم امتياز في الحكم كامتياز النبي (صلى الله عليه وآله) فاثبت ذلك الشيعة ونفاه أهل السنة.

2. ان الاصل في وجود المعصومين المنصوص عليهم من اهل بيت النبي بعد النبي (صلى الله عليه وآله) المؤيدين بمؤيدات الهية خاصة ليس لان الحكم الاسلامي بحاجة الى معصوم بل لان الرسالة الخاتمة بحاجة الى صيانة من الاجتهادات الخاطئة التي قد تصبح جزءا من الرسالة بحكم قربها من عهد الرسول(1) وايضا بحاجة الى توضيح تفاصيلها في حوادث نوعية في المجتمع الاسلامي سوف تحصل بعد النبي تحتاج الى موقف معصوم يستهدى به من قبيل ما حصل في عهد ابي بكر حين حارب الممتنعين عن الزكاة مع اقرارهم بها وسبى نساءهم ولم يفرق بينهم وبين غيرهم من المرتدين بعد

ـــــــــــــــــــــــ

(1) قال الماوردي: حكي عن الشافعي انه قال: أخذ المسلمون السيرة في قتال المشركين من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأخذوا السيرة في قتال المرتدين من ابي بكر (رض) واخذوا السيرة في قتال البغاة من علي بن ابي طالب (رض) . /كتاب قتال اهل البغي ص 74. اقول وفي هذا النص دليل على ما قلناه من ان الاجتهادات لقربها من عهد النبي تاخذه صفة خاصة وتصبح جزءا من الرسالة، وقد روت كتب الحديث والسيرة ان عبد الرحمن بن عوف حين عرض البيعة على علي (صلى الله عليه وآله) اشترط عليه ان يسير بكتاب الله وسيرة النبي وسيرة والشيخين فرفض علي (عليه السلام) ذلك وقال ان كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما الى إجِّيري احد أي لا يحتاجان الى عادة وطريقة احد.

«صفحة 48»

النبي او سائر المشركين، حتى جاء علي (عليه السلام) وسار بسيرة اخرى مع مقاتليه في الجمل ولما نهى جيشه عن النساء اللواتي كن في الجيش اعترضوا عليه قائلين كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا نساؤهم؟ قال كذلك السيرة في أهل القبلة. وقال لهم ان لم تصدقوني واكثرتم عليَّ فأيكم يأخذ امه عائشة؟ قالوا لا، أينا يا أمير المؤمنين بل اصبت وأخطأنا وعلمت وجهلنا، هذا بالاضافة الى ان جيل النبوة يوجد فيه منافقون لم يعرفهم حتى النبي قال تعالى ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَاب عَظِيم﴾ التوبة/101 وهؤلاء سوف يقومون بالرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) وسوف لا يتحرجون من الكذب على النبي (صلى الله عليه وآله) والناس لا يعلمون انه كذب ويقولون هو احد اصحاب النبي وبذلك تحدث بلبلة فكرية لا مخرج منها الا بوجود الراوي المعصوم ويتأكد ذلك حين ترتبط روايات هؤلاء بتشخيص المصاديق الواقعية من الايات المتشابهة التي يتوقف تشخيص مصداقها الواقعي على بيان النبي.

3. بعد مرور تجارب معصومة من قبل الاثني عشر سواء في الاستنباط من الكتاب والسنة او في الرواية عن النبي او في المواقف العملية من الحوادث تكون الامة قد استوعبت تراثا هاديا وفكرا وسيرة في الظروف المختلفة تعكس بامانة احكام الاسلام، يصونها من الوقوع في الاختلاف الفكري المستعصي على الحل وتقل اخطاؤها فيما لو استأنفت الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية لوحدها وتكون اخطاؤها لو حصلت / وهي تحصل بشكل طبيعي / في استنباط الفكر او الموقف العملي اقل ضررا على الرسالة مما لو استأنفت الحياة دون تجارب هؤلاء الاوصياء المعصومين، وفي هذا السياق يتضح الوجه الايجابي(1) لغيبة المعصوم فان من ابرز

ـــــــــــــــــــــــ

(1) وجود وجه ايحابي للغيبة لايعفي المسؤولين عن اسبابها المباشرة التي كانت تتمثل بالتضييق على المعصوم الثاني عشر خوفا على كرسيهم، وقد جرت سنة الله تعالى المكر باعدائه وتحويل المخطط السئ الى عنصر ايجابي في مسيرة المؤمنين مع ابقاء تبعة المكر السئ على اهله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً) فاطر/43 (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) ومن سنة الله تعالى في الاولين انجاؤه لنبيه عيسى وتغييبه وترك تلاميذ عيسى وشيعته ليمارسوا حياتهم على اساس ما تحملوه من تجارب الفكر والعمل المعصومة التي خلفها عيسى وامه مريم و يحيى وزكريا ثم يظهر الله تعالى نبيه عيسى في آخر الزمان لتقييم تجارب عمل امته التي تحملت رسالته وبالطبع هنا سوف يدين من لم يؤمن برسالة محمد (صلى الله عليه وآله) ويعتبر عدم الايمان بمحمد (صلى الله عليه وآله) وقد بشرهم به وأخذ العهد منهم ان يؤمنوا به معلما من اهم معالم الاخفاق بعده.

«صفحة 49»

حكم الغيبة واسرارها الواضحة هي اتاحة الفرصة للامة التي حملت تراث الائمة الاثني عشر ان تمارس مسؤولياتها الفكرية والعلمية والسياسية على اساس فهمها البشري غير المعصوم للكتاب والتراث الفكري الذي خلفته التجربة المعصومة للنبي (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام)، وتأتي فكرة عودة المعصوم الغائب في آخر الدنيا وظهوره مرة ثانية على المسرح الاجتماعي والسياسي لأجل تقييم التجارب السابقة للمسيرة غير المعصومة والكشف عن مستوى تمثيلها وصدق تعبيرها وأمانتها، ولاجل تحقيق الوعد الالهي المذكور في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء/105 ويتمثل هذا الوعد بحياة حرة سعيدة في ظل النظام الالهي على الارض كلها حيث تستأصل كل عوامل الاختلاف والانحراف المؤدية الى الشر والفساد.

4. ان البيعة والشورى ليستا في قبال النص بل يقعان على امتداده، فأهل السنة حين يتحدثون عن نظرية الحكم في زمن النبي يقدمونها على اساس النص على شخص الحاكم وهو النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يحق لأحد في زمانه ان يتقدم عليه، وتأتي البيعة في طول هذه النص وليست في عرضه، فالنص يشخص من هو المؤهل للحكم والبيعة يجب ان تتم مع المنصوص عليه بشخصه وهو النبي في القرآن. فهم لا يختلفون عن الشيعة من هذه الناحية الا فيما ذكرناه آنفا من وجود اثني عشر بعد النبي لهم هذه المنزلة في الحكم أي ان النص من النبي على اشخاصهم يمنحهم الحق، والبيعة يجب ان تتم معهم لا مع غيرهم. وهو ما يؤثر عن علي (عليه السلام) حين طولب بالبيعة قال: انا احق بهذا الامر منكم لا ابايعكم وانتم اولى بالبيعة لي) (1) وقال: ان فلانا وفلانا قد بايعاني وطالباني بالبيعة لمن سبيله ان يباى عني(2).

ومن هنا يتضح خطأ ابن ابي الحديد حين جعل الكلمات المأثورة عن علي (عليه السلام)

ـــــــــــــــــــــــ

(1) شرح النهج 6/118.

(2) بحار الانوار 28/248.

«صفحة 50»

في البيعة علامة على بطلان مذهب الشيعة في القول ان الامامة بالنص، وكذلك يتضح خطأ تفسير هذه الكلمات من علي (عليه السلام) على انها صدرت تقية بتصور ان المنصوص عليه ليس بحاجة الى بيعة الناس، والواقع ان فائدة البيعة لا تنحصر بمنح الشرعية للشخص المبايع، بل هناك فائدة اخرى تتمثل بمنحه القدرة على النهوض بالامر وهذه الفائدة هي المتصورة عند وقوعها مع النبي أو مع أوصيائه المعصومين الاثني عشر الذين لهم منزلته وولايته (صلى الله عليه وآله).

5. الرأي القائل بأن ولاية الفقيه وسلطته الواسعة جدا قائمة على النص وليس على بيعة الامة ليس هو الراي الوحيد الذي ينتجه التراث الامامي الاثنا عشري الذي يقوم على العقيدة بالغيبة وانتظار ظهور الامام الثاني عشر (عليه السلام)، بل يوجد الى جانبه رأي آخر يقول ان الفقيه يستمد سلطته من البيعة ولاسلطة له قبلها، وهو رأي مشروع ومعترف به ولم يُتَّهَم اصحابُه بانهم خرحوا عن مسلمات الفكر الامامي الاثني عشري القائم على العقيدة بالمهدي (عليه السلام) وانتظار ظهوره. وفي ضوء ذلك بالامكان ان تقوم حكومة على رأسها فقيه يستمد سلطته من الامة فيما لو رأى جمهور الامة بيعة ذلك الفقيه، وفي الحقيقة حتى الفقيه الذي يرى ان سلطته قائمة على اساس النص تبقى سلطته هذه من دون واقعية وفعلية على الساحة السياسية مالم يبايعه الناس وبسطوا يده ويمنحوه القدرة على النهوض بمشروعه السياسي. وكذلك الحال في الراي القائل بوجوب التقية وعدم الثورة في عصر الغيبة عند توفر شروطها ليس هو الراي الوحيد الذي ينتجه الاعتقاد بغيبة الثاني عشر إذ يوجد الى جنبه راي آخر هو عكسه، وكذلك الحال في تعطيل الحدود فيوجد الى جنبه الراي القائل بتنفيذها من قبل الفقيه عند توفر القدرة. ويتضح من ذلك ان العقيدة بغيبة المهدي وانتظار ظهوره تجتمع مع هذه الآراء الفقهية المتنوعة والمتعارضة والسر في ذلك هو ان هذه الاراء هي مسائل فقهية تعكس افهام الفقهاء لادلة هذه المسائل، وهم حين يختلفون في مسائل الفقه تبعا لما يفهمه كل واحد منهم من النص وفق قواعد فهم النص، يتفقون على مسألة غيبة المهدي وانتظار ظهوره حين ينظرون الى ادلتها، نعم قد يختلفون في بيان حكمة الغيبة واسرارها وليس من شك ان هذه الاسرار والحكم المستنبطة ليس جزءا من المعتقد.

 

«صفحة 51»

6. ورد لفظ الامامة في التراث الفكري الشيعي على ثلاثة معاني: المعنى الاول: وهو معنى خاص ويراد به منصب الحجة على الخلق بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وهذا المعنى ينحصر باثني عشر من اهل بيت النبي وتلحق بهم الزهراء (عليها السلام) في ذلك. المعنى الثاني: وهو معنى عام ويراد به منصب الحكومة وإقامة الحدود سواء شغل هذا هذه المنصب المعصوم او شغله غيره، وهذا المعنى يعتقد الشيعة فيه انه للنبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده للائمة الاثني عشر (صلى الله عليه وآله) ومن بعده للفقهاء العدول. وقد انتشر هذا المعنى عند لللفظة عند متكلمي السنة وفقهائهم منذ القرن الاول الهجري الى اليوم، اما عند الشيعة فقد بقي منحصرا في التراث الروائي ولم يستخدم في التراث الفقهي الا عند ثلة معاصرة منهم قبيل الثورة الاسلامية في ايران وقبلها. المعنى الثالث: وهو معنى خاص يراد به خصوص الاثني عشر وصيا للنبي حيث اصبحت علما خاصا لهم (عليهم السلام) لغلبة استعماله من قبل الشيعة فيهم (عليهم السلام)، وصار يدل ايضا على المعنى الاول والثاني معا باعتبار التقاء المعنيين في عصر الائمة الاثني عشر في شخصهم (عليهم السلام)، وهو المراد به عند متكلمي الشيعة في كتبهم الكلامية المشهورة.

 

«صفحة 52»

 

«صفحة 53»

 

الفهرس الاجمالي لكتاب شبهات وردود

هوية الكتاب:

اسم الكتاب: شبهات وردود ـ الرد على شبهات احمد الكاتب حول إمامة اهل البيت (ع) ووجود المهدي المنتظر (ع).

المؤلف: السيد سامي البدري.

الطبعة: الرابعة 1428هـ.ق.

مكان الطبع: قم المقدسة.

الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر.

طبعت الطبعة الرابعة بطلب من المجمع العالمي لاهل البيت (ع)، وطبعت الطبعة الخامسة سنة 1431هـ

ISBN: 964-6909-54-x

ترقيم الصفحات مواقف للمطبوع

امام الغلاف
خلف الغلاف
الزيارات : 27