المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الأول : بحوث تمهيدية
الفصل السادس : أثر الروايات الموضوعة

قصة الغرانيق الموضوعة ضد النبي صلى الله عليه وآله

تكوَّنت بفعل الروايات الموضوعة رؤية خاطئة لنبي الاسلام وصحابته وأوصيائه وبخاصة علي والحسن والحسين وشيعتهم ، ولازالت هذه الرؤية تتحرَّك هنا وهناك عفواً بسبب حركة الأخبار الموضوعة ، ووصولها إلى من يجهل أمر كذبها ووضعها ، أو يعلمه ولكنه يراها أنجح وسيلة يضرب بها خصمه ، كما يحاول المستشرقون والمبشرون الاستفادة من ذلك للطعن في الاسلام وتاريخه ، أوكما حاول بعض خصوم الشيعة ضرب الشيعة وتطويق حركتهم من خلالها .

قصة الغرانيق الموضوعة ضد النبي صلى الله عليه وآله

إن من أبرز الأمثلة على إستفادة بعض المستشرقين من الروايات الموضوعة هو إستفادتهم مما رواه الطبري في تفسيره وابن سعد في طبقاته  (1) وغيرهما من :

أنَّ النبي صلى الله عليه وآله لمَّا تلا قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى)النجم/19-20 ألقى الشيطان كلمتين على لسانه وهما (تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى) .

وأنَّ النبي صلى الله عليه وآله سجد ، وسجدت قريش معه ورضوا بما تكلَّم به وقالوا : قد عرفنا أنَّ الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده وأمَّا إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك .

فلمَّا أمسى أتاه جبرئيل فعرض عليه السورة ، فلمَّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أفتريت على الله ، وقلت على الله ما لم يقل ، فأوحى الله إليه : (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوك خَلِيلاً ، وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ، إِذًا لأَذَقْنَاك ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيرًا) الإسراء/73-75 . فمازال مغموماً مهموماً حتَّى نزلت (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك مِن رَّسُولِ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ)الحج/52 .

وتعليقاً على هذه الروايات قال المستشرق الدنماركي ف . بوهل الأستاذ في جامعة (لايبزك) : "كان النبي مستعداً لتفهم الكلمات التي كانت تلقى إليه من ايحاءاته اللاشعورية ، وكان عليه أنْ يحارب همسات الشيطان كما تشير إليه الآية 200 من سورة الأعراف . والآية 97 من سورة المؤمنون . ولكنه بين حين وآخر يحاول أن يمزج بين الوحي وهذه النداءات الشيطانية الخفيَّة ، وإنَّ هذا ملحوظ تماماً في الآية 98 من سورة النحل ، ولكي يصون نفسه من هذه النداءات كان يدعو الله ليصونه من ذلك .

لكن تشير الروايات الموثوقة المعتمد عليها أنَّ النبي سمح لنفسه أنْ تُغوى بواسطة الشيطان لمدح اللات والعزى ومناة إلى حدّ ما ، لكنَّه اكتشف زلَّته فيما بعد ثمَّ أوحيت إليه الآية 19 من سورة النجم"  (2) ..

وقال المستشرق (شاخت) : "إنَّ أوّل مصادر الشرع في الإسلام وأكثرها قيمة هو الكتاب ، وليس هناك من شك في قطعية ثبوته وتنـزهه عن الخطأ ، على الرغم من إمكان سعي الشيطان لتخليطه" (سورة الحج الأية 51 : انظر نولدكه ص100) .

وقال المستشرق مونت غمري وات : "وإذا قارنَّا مختلف الروايات وحاولنا أنْ نميّز بين الوقائع الخارجية التي تتفق معها والوقائع التي يستخدمها المؤرخ لتفسير الواقع ، نلاحظ واقعتين نستطيع أنْ نعتبرهما أكيدتين ، أوّلاً رتَّل محمد في وقت من الأوقات الآيات التي أوحى بها الشيطان على أنَّها جزء من القرآن ، لأنَّه لا يمكن أنْ تكون القصة قد إخترعها مسلمون فيما بعد أو دسَّها غير المسلمين . ثمَّ أعلن محمد فيما بعد أنَّ هذه الآيات لا يجب أنْ تعتبر جزءًا من القرآن ويجب استبدالها بآيات تختلف عنها كثيراً في مضمونهاً . والروايات الأولى لا تحدد الوقت الذي حدث فيه ذلك . والأقرب أنْ يكون ذلك قد وقع بعد بضعة أسابيع أو أشهر .

وهناك واقعة ثالثة أو مجموعة وقائع نستطيع أنْ نكون واثقين منها . وهي أنَّه كان يجب على محمد ومعاصريه المكيين أن يشير في القرآن للآلهة اللات التي كانت معبودة في الطائف والعزى المعبودة في نخلة بالقرب من مكة ، ومناة التي كان معبدها بين مكة والمدينة .

ما تعنيه إذن الآيات الإبليسية أنَّ الإحتفالات مقبولة في المعابد الثلاثة حول مكةوأمَّا معنى الآيات التي تقول بأنَّ العبادة في هذه المعابد غير مقبولة فهي لا تحرِّم العبادة في الكعبة .

ويجب أن نعترف بأنَّ الآيات التي صححت سورة النجم تمجد الكعبة على حساب المعابد الأخرى .

إعتبر الفقهاء المسلمون ، الذين ظلُّوا بعيدين عن المفهوم الغربي الحديث للنمو التدريجي ، محمداً على أنَّه قد أخبر منذ البدء بالمضمون الكامل لعقيدة الإسلام ، فكان من الصعب عليهم أن لم ير محمد خروج الآيات الإبليسية على عقيدة الإسلام .

والحقيقة هي أنَّ توحيده كان في الأصل كما كان توحيد معاصريه المثقفين ، غامضاً ولم ير بعد أنَّ قبول هذه المخلوقات الإلهية كان يتعارض مع هذا التوحيد ، لا شك أنَّه يعتبر اللات والعزى ومناة على أنَّها كائنات سماوية أقلُّ من الله ، كما اعترفت اليهودية والمسيحية بوجود الملائكة . ويتحدث القرآن عنها في الفترة المكية باسم الجن . وإنْ كان يتحدَّث عنها في الفترة المدنية على أنَّها مجرد اسماء ، إذا كان ذلك فليس من الضروري اكتشاف سبب خاص للآيات الإبليسية ، فهي لا تدلُّ على أي تقهقر واع للتوحيد بل هي تعبير عن النظريات التي دافع عنها دائماً محمد .

وهكذا فإنَّ قيمة الآيات السياسية مهمة ، فهل إعترف محمد بصحتها لأنَّه كان يهمه كسب الأنصار في المدينة والطائف وبين القبائل المجاورة ؟

هل كان يحاول التخفيف من تأثير الزعماء القرشيين المعارضين له باكتساب عدد كبير من الأتباع ؟

ذكر هذه المعابد دليل على أنَّ نظرته أخذت في الاتساع" .

ثم يقول : "فلا شك أنَّ محمداً قد نال نجاحاً أَمام زعماء قريش ليهتمُّوا بأمره ، فظهرت المحاولات لحمله على الإعتراف بصورة أو بأخرى بالعبادة في المعابد المجاورة ، وكان في أوّل الأمر مستعداً لذلك لسبب المنافع المادية ولأنَّه كان يشعر أنَّ ذلك يساعده على تحقيق مهمته بسهوله، ثمَّ أدرك شيئاً فشيئاً عن طريق النصح الالهي أنَّ ذلك كان تسوية مميتة فأعدَّب مشروعاً لتحسين وسائله بالمحافظة على الحقيقة كما كانت تظهر له ، فأعلن رفض الشرك بألفاظ شديدة تغلق الباب في وجه كل تسوية"  (3) .

قال العلامة العسكري : "أنتجت الروايات السابقة ما قاله الاستاذ روجيه جارودي مرشَّح الحزب الشيوعي - سابقاً - لمنصب رئيس الجمهورية الفرنسية بعد أنْ أسلم في حوار له مع الاستاذ سعد الدين كالآتي :

(قرأت القرآن الكريم ، وأعدت قراءته مرّات كثيرة ، ولا أدري إنْ كنت قد فهمته جيداً بالطريقة التي يجب على الإنسان أنْ يفهمه بها أم لا ، فقد بدا لي أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله جاء بدين عظيم هو أساس الأديان ، لم ينكر فيه الأنبياء السابقين ، بل جاءت رسالته متمِّمة ومكمِّلة للرسالات السابقة ، ثم شرعت في قراءة الأحاديث النبويَّة ، وعندما أُتيح لي السفر إلى المدينة المنورة قمت بشراء وإقتناء مجموعة الاحاديث في كتب البخاري ومسلم فرأيت شيئاً آخر أعبِّرُ عنه بهذه العبارة الصريحة رأيتني وكأنَّني أمام دين آخر ونشأ في نفسي إنطباع من قراءاتي للحديث الشريف أنَّني أمام دين تقليدي . فكلَّ ما وجدته في كتب الاحاديث وكلَّ ما رأيت للرسول صلى الله عليه وآله يتحدث عنه أو يشير إلى فعله يتعلق بلبس الثياب أو كيفية الدخول للمكان والخروج منه وأشياء أخرى من هذا القبيل . لا كما رأيت في القرآن الكريم عن الأساسيات التي تدلُّ على كمال الدين الاسلامي"  (4) .

______________________

(1) ابن جرير الطبري : تفسير الطبري 17/187ـ 190 تفسير الآيات ، ابن سعد : الطبقات الكبرى ج 1/205 .

(2) العلامة العسكري : أحاديث أم المؤمنين عائشة ج2/380 .

(3) مونت غمري وات : محمد في مكة ج1 تعريب شعبان بركات ج1/168 176 .

(4) العلامة العسكري : أحاديث أُم المؤمنين عائشة ج2/381-382 نقلاً عن حوار مع الاستاذ رجاء غارودي . أقول : ونظير كلامه الى حدّ ما كلام الدكتور موريس بوكاي في كتابه (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة . ط4 دار المعارف 1977ص370-374 .

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري