تجربة حكم
علي بن أبي طالب عليه السلام
انشق الحزب القرشي الحاكم على نفسه أيام عثمان ، واستحكم الانشقاق سنة 27هجرية ، بسبب إيثار عثمان أسرته بني أمية بالولايات والأموال ، وبسبب سوء ولاته منهم .
وكان المتذمرون من الحزب القرشي الحاكم يحرضون الناس على عثمان وفيهم رجالات ووجوه بارزة أمثال :
عبد الرحمن بن عوف ،
وطلحة ،
والزبير ،
وعائشة ،
وعمرو بن العاص ، وغيرهم .
وتصدعت سيطرة السلطة القرشية في المنع من نشر الأحاديث النبوية ، لأن القرشيين المتذمرين أنفسهم أخذوا ينشرون بعض كلمات النبي صلى الله عليه وآله في عثمان وبني أمية.
اغتنم الإمام علي عليه السلام فرصة تصدع الحزب القرشي الحاكم وانشقاقه ، فتحرك بشكل سلمي وعلني لإحياء سيرة النبي صلى الله عليه وآله وأحاديثه وتجربته في الحكم التي تحفظ التعددية في الرأي ولا تفرض راياً واحداً على الناس ، وتثقيف الأمة بالمواد القانونية والحقائق التاريخية والأحاديث النبوية التي منعت حكومة قريش من نشرها .
وكان للعراقيين وجودٌ بارزٌ ومؤثرٌ في حركة علي عليه السلام هذه ، ومنهم وجوه بارزة أمثال :
مالك الاشتر ،
وحجر بن عدي ،
وكميل بن زياد،
ونظرائهم ، إلى جنب صحابة بارزين ومسلمين أوائل أمثال :
أبي ذر ،
ومقداد ،
وعمار ،
وغيرهم ، الذين نال البعض منهم أذى كثيراً بل النفي أحيانا من قبل السلطة القرشية بسبب ذلك.
انتهت حركة المتذمرين من قريش على عثمان بقتله في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة على يد طلحة بن عبيد الله التيمي (1) ، وكانوا يتوقعون أن يبادر الناس إلى بيعة واحد منهم . ولكنهم فوجئوا بانصراف الناس إلى بيت علي عليه السلام يطلبون منه البيعة.
ولبّى الإمام علي عليه السلام طلبهم بعد إصرارهم وواعدهم في المسجد لتكون بيعته على مرأى ومسمع من كل الناس قائلاً لهم (2):
(إن بيعتي لا تكون خَفْياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين وفى ملأ وجماعة)، ولم يُكرِه احدا على البيعة (3).
وكانت فرحة الناس شديدة يوم بايعوه في الثامن عشر من ذي الحجة سنة 35 هجرية (4).
وكانت فرحتهم أشد يوم سمعوا قوله في خطابه عليه السلام الأول :
(أنا متبع ولست بمبتدع) ، حيث أدركوا أنهم أمام دولة القانون الذي جاء به محمد عليه السلام ، وليسوا أمام اجتهادات وآراء شخصية ، كما أدركوا أنهم أمام حكومة تقوم على بيعة الشعب باختياره لمن ينص عليه القانون(5).
أعلن علي عليه السلام في اليوم الأول عن سياسته التي يتبناها وهي:
- اتباع القانون الذي آمن به الناس تبعا لما جاء به محمد صلى الله عليه وآله ، وكان علي عليه السلام يقول:
(منهج باقٍ عليه الكتاب والسنة وآثار النبوة)
(6) ،
(انا متبع ولست بمبتدع) (7). ثم طلب من الصحابة أن ينشروا كل ما يعرفون من الحقائق التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله ، وكان عليه السلام يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وآله يومياً صباحاً ومساءاً.
ـ إن سلطة الحاكم مدنية شعبية ، بمعنى أنها تقوم بقدرات الناس وباختيارهم ، ومن هنا حث الإمام علي عليه السلام الناس على مراقبة الحاكم ومحاسبته ، ليتدربوا على ذلك حين يكون الحاكم غير معصوم ولينكروا عليه عند مخالفته القانون ،
(انظروا فإن أنكرتم فأنكروا ، وإن عرفتم فآزروا. حق وباطل ، ولكل أهل ، ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء) (8).
ـ إن البيعة لا تؤخذ بالإكراه.
ـ إن الناس سواسية أمام القانون.
ـ إن المواقع العليا في المجتمع لفقهاء القانون الأمناء عليه الكفوئين في تطبيقه الخبراء بمصالح الناس ، وليس لفئة خاصة من الناس.
ـ إن الكفالة الإجتماعية شاملة لكل الناس بغض النظر عن دينهم أو موالاتهم لشخص الحاكم وارائه.
ـ إن حرية الرأي ترجع إلى ما كانت عليه زمن النبي صلى الله عليه وآله، ولا يعاقب من يحمل رأيا مخالفا للدولة ما لم يحمل سلاحاً ليفرضه على الآخرين (9).
ـ وأن الفئات تنعم بالعدل في ضوء القوانين العامة وفي أحوالها الشخصية تحكمها قوانينها الدينية الخاصة بها:
(لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، حتى تزهر تلك القضايا إلى الله عز وجل وتقول: يا رب إنَّ عليا قضى بين خلقك بقضائك).
انعكست هذه السياسة على العراقيين وشهدوا تطبيقاتها الرائعة حيث عاش علي عليه السلام بين ظهرانيهم أيام حكمه:
شهدوا منه سكوته عن الخوارج حين استغلوا سماحه لكل مواطن أن يعبر عن رأيه فانطلقوا في عاصمة الدولة / الكوفة / يشوِّشون عليه(10) ويخطِّئون مواقفه ، ولم يخرج عن سياسته هذه معهم إلا بعدما حملوا السيف لفرض ارائهم بالقوة ، وبعد أشاعة حالة الإرهاب وقتل المواطنين الابرياء(11). حيث تصدى لحربهم وتخليص المجتمع من شرهم.
وشهدوا منه عليه السلام أيضا دأبه وحرصه على تثقيفهم رجالاً ونساءاً بالقانون وبحقوقهم كمواطنين (12).
وشهدوا منه تشجيعا لهم على السؤال عن الصغيرة والكبيرة في المعارف المختلفة وكان يحثهم على كتابة ذلك كله (13).
ثم شهدوا منه عدلاً رائعا في الحكم (14).
وعدم العقوبة على التهمة والظن (15).
وتقسيم المال بالسوية (16).
وكفالة العاجز ولو كان غير مسلم (17).
وسيرته الشفافة إزاء المواطنين في جمع الضرائب (18).
وسيرته الشفافة في تاديب الجاهلين (19).
وسيرته المبدعة في إنشاء بيت الشكاوى للمحافظة على عزة وكرامة المواطن (20).
وشهدوا منه أيضا رعاية حقوق الحيوان بما لا يخطر على بال أحد اليوم (21).
ثم شهدوا منه سيرته المتميزة في نفسه زهداً وورعاً وعبادة.
|