![]() |
![]() |
الباب الأول : بحوث تمهيدية
إمامة اهل البيت الالهية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) التي يحصرها الشيعة بعلي (عليه السلام) والطاهرين من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله) والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين (عليهم السلام) ، هي امتداد لإمامة النبي (صلى الله عليه وآله) الإلهية، نظير إمامة لوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، التي كانت امتدادا لامامة ابراهيم الالهية، ووارثة لها بأمر إلهي، كما في قوله تعالى (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) الأنبياء/71-73،
وهي ايضا نظير امامة هارون وآل هارون الالهية، التي هي امتداد لامامة موسى الالهية، المشار اليها في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة/23-24، وقوله تعالى (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة/248، وقوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) المائدة/12.
ويعتقد الشيعة تبعا للرواية عن الائمة(عليهم السلام): انّ الشهداء على الناس في قوله تعالى (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُواجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوسَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الحج/78 هم هؤلاء الاثنا عشر فقط، وقد جعلهم النبي(صلى الله عليه وآله) عدلَ القرآن بقوله (اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعِترتي اهل بيتي). وان الاية الكريمة (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) الأنعام/89-90 تشير إليهم وإلى وظيفتهم. والكفر بالرسالة هورفضها اوتحريفها. لقد وكل الله تعالى بدينه ورسالته بعد النبي (صلى الله عليه وآله) هؤلاء الاثني عشر من اهل بيته ليدافعوا عنها ويحفظوها في المجتمع اذا تعرضت لتحريفٍ ماحِقٍ يستلزم بطلان حجة الله تعالى على الناس.
وقد شاءت حكمة الله تعالى ان يكون هناك تناظر تكويني بين الائمة من اهل البيت والائمة من بني اسرائيل:
فجعل الله تعالى الائمة من اهل البيت(عليهم السلام) اثني عشر، نظير جعل الائمة من بني اسرائيل بعد موسى اثني عشر. قال تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) المائدة/12.
وقد اكد النبي (صلى الله عليه وآله) هذه المقارنة حين سئل عن عدد الائمة من بعده قال: (عدة نقباء بني اسرائيل اثني عشر لا يضرهم من عاداهم).
وجعل اغلب أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) من ذرية أخيه ووزيره وأول أوصيائه علي (عليه السلام) نظير جعله اغلب أوصياء موسى (عليه السلام) بعده في ذرية أخيه ووزيره هارون (عليه السلام) وهم (آل هارون)
وجعل من بينهم من يتبوأ موقع الامامة وهودون العاشرة كالجواد والهادي والمهدي (عليه السلام) نظير ما يحيى الذي اوتي النبوة والكتاب وهوصبي.
وشاءت حكمة الله تعالى ان يجعل المهدي (عليه السلام) من آل محمد (صلى الله عليه وآله) نظيرا لعيسى من آل عمران من ناحية الاختلاف في ولادته والامتحان بغيبته، فقد اختلف بنوإسرائيل في ولادة المسيح بعد ان كانوا ينتظرونه جميعا للنصوص الثابتة عن أنبيائهم وفي كتبهم
وشاءت حكمة الله تعالى ان يجعل في الحجج من بعد محمد (صلى الله عليه وآله) في امته امرأة حجة وهي فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) كما جعل بعد موسى في امته امرأة حجة وهي مريم بنت عمران (عليها السلام) .
يمكننا تلخيص وظيفة اهل البيت (عليهم السلام) بوصفهم أئمة الهيين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بأمرين اساسيين هما:
الأمر الأول: المحافظة على سنة النبي (صلى الله عليه وآله) في المجتمع من الضياع والتحريف ومواجهة الضلالات والفتن الاساسية التي يُخشى منها على الاسلام، وبالتالي مواصلة الهداية الخاصة، والشهادة والحجة على الناس التي اسسها النبي (صلى الله عليه وآله)، قال الله تعالى (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) الأنعام /89-90، (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوسَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الحج/78،
قال النبي(صلى الله عليه وآله): (اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي اهل بيتي).
الأمر الثاني: اعطاء سيرة وتجارب ومواقف معصومة هادية في الجانب الشخصي والاجتماعي والسياسي، كالدعوة والثورة والحكم والصلح والتعايش مع المخالفين بالرأي داخل المجتمع الاسلامي، بحسب الموقع الذي يحتله المعصوم في المجتمع، الى جنب ما اعطاه النبي(صلى الله عليه وآله) من مواقف معصومة هادية في الدعوة والثورة والحكم والصلح مع المجتمع المشرك بحسب المواقع التي تبوأها.
تقوم نظرية الحكم الاسلامي في الفكر الامامي الاثني عشري على: النص والبيعة والشورى.
اما النص: فيعين المؤهلين الذين لهم حق الحكم بالاسم اوبالمواصفات واشهر النصوص قوله تعالى في سورة المائدة الاية 44: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَْحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) . وهذا النص من اوضح النصوص واشملها في بيان ذلك والربانيون في الاية هي منزلة الائمة
اما البيعة: فتمكن المنصوص عليه من النهوض بالحكم فعلا، وسيرة النبي(صلى الله عليه وآله) والائمة(عليهم السلام) توضح دور البيعة واهميتها في التمكين والقدرة وليس في تاسيس الحق.
اما الشورى : فهي اسلوب ممارسة الحكم من الحاكم فيما لا نص فيه، وسيرة النبي والامام علي غنية بالشواهد على ذلك.
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَْحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) المائدة/44.
فالحكم في زمن النبي(صلى الله عليه وآله) مختص به ومن ياذن له فيه.
وفي زمن اوصيائه(عليهم السلام) مختص بهم ومن ياذنوا له فيه.
وفي عصر الغيبة مختص بالفقهاء العدول.
ان مسالة اقامة الحدود في عصر الغيبة مسالة فقهية لا ربط بها بغيبة الامام(عليه السلام) ، فلا تتعطل الاحكام عند غيبته نظير وفاة النبي(صلى الله عليه وآله)، وقد افتى الشيخ المفيد (رحمه الله) منذ القرن الرابع الهجري انها للقادر من الفقهاء العدول في عصر الغيبة، قال في كتابه المقنعة:
(اما اقامة الحدود فهو إلى سلطان الاسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم ائمة الهدى من آل محمد (عليهم السلام)، ومن نصبوه لذلك من الامراء والحكام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الامكان... ولهم أن يقضوا بينهم بالحق، ويصلحوا بين المختلفين في الدعاوى عند عدم البينات، ويفعلوا جميع ما جعل الى القضاة في الاسلام لان الائمة (عليهم السلام) قد فوضوا إليهم ذلك عند تمكنهم منه بما ثبت عنهم فيه من الاخبار، وصح به النقل عند أهل المعرفة به من الآثار)
أخبر القرآن الكريم بوقوع انقلاب على الاعقاب وفتن وضلالات بعد النبي(صلى الله عليه وآله): (وما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران/144 وقوله (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) الإنشقاق/19. واكَّد النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك باحاديث كثيرة، اختصر في بعضها وفصَّل في بعضها الاخر، ومما فصل فيه، إخباره (صلى الله عليه وآله) بانقلاب بني أمية ودولة بني مروان ومُدَّتهم، وانقلاب بني العباس على اهل البيت (عليهم السلام) وفتنة الدَّجّال في آخر الزمان والسفياني. وقد أكَّد النبي (صلى الله عليه وآله) ان النجاة من هذه الفتن وضلالاتها الناتجة عنها هوالتمسك بالقرآن والعترة، ذكرهما مقترنين مرة كما في حديث الثقلين، وذكر أهل بيته عاصمين من الضلالة منفردين أخرى كما في حديث السفينة (مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا وركوب سفينة اهل البيت.
ونحن في دراستنا لواقع الفتن من الناحية التاريخية، ومواجهة أهل البيت (عليهم السلام) لها وتطويقها وتأصيل خط الهدى، لتبقى معالمه واضحة لمن اراد ان يهتدي بهديهم، نجد: ان حركة الهداية التي اضطلع بها الائمة الاثنا عشر (عليهم السلام)، يمكن تقسيمها الى اربعة مراحل
المرحلة الاولى: ورجالها علي والحسن (عليهما السلام) ومعهم الزهراء(عليها السلام). استهدفت حركتهم الهادية مواجهة انقلاب قريش المسلمة (واثاره المباشرة). وقد توفيت الزهراء المطهرة وهي غاضبة على رجالات الانقلاب، لكي لا يتصور احد انَّ بإمكانه الاستدلال بشيء من سيرتهم على شيء من مفاهيم الاسلام واحكامه. وفارق علي والحسن (عليهما السلام) الحياة بعد ان اكملا نشر سنة النبي (صلى الله عليه وآله) في المجتمع الاسلامي كله، وحفظا وحدته ووحدة القبلة ووحدة الكتاب، من خطر تعدد محتم، وتربى على يدهم جيل جديد من حَمَلَة السنة النبوية الصحيحة.
المرحلة الثانية: ورجالها الحسين والسجاد والباقر والصادق(عليهم السلام). وقد استهدفت مواجهة فتنة بني أمية وآثارها، انتجت حركة الحسين(عليه السلام) تهديم الامامة الدينية لبني أمية، وإعادة انتشار الاحاديث النبوية التي تدعو الى امامة اهل البيت (عليهم السلام) في المجتمع من جديد، ثم استطاع من بعده ولده السجاد ثم الباقر والصادق ان ينشروا السنة النبوية بتدوين علي(عليه السلام) واملاء النبي (صلى الله عليه وآله)، وتأسيس كيان علمي يحملها للامة رواية وفقها وتاريخا.
المرحلة الثالثة: ورجالها الكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي في الغيبة الصغرى (عليهم السلام). وقد استهدفت مواجهة فتنة بني العباس واثارها، انتجت تهديم الامامة الدينية لبني العباس، والمحافظة على التأسيس الشيعي الذي بناه الامام الصادق(عليه السلام)، كوجود في الامة له محدثوه وفقهاؤه ومراجعه وله عقيدته باثني عشر اماما اخرهم المهدي(عليه السلام)صاحب الغيبتين.
المرحلة الرابعة: ورجلها المهدي (عليه السلام) ومعه المسيح (عليه السلام)بعد ظهوره. لمواجهة فتنة الدجال والسفياني، وتحقيق ما وعد الله تعالى انبياءه، من انتصار الحق في الارض كلها، ووراثة الصالحين لها.
______________________________________
(1) قضية التناظر بين آل محمد (صلى الله عليه وآله) وآل عمران وآل هارون والحجج الالهيين في الامم الماضية مسألة ملفتة للنظر، جعلها الله تعالى من المعالم الهادية إلى حقانية حركة الائمة الاثني عشر (عليهم السلام) وبخاصة بعد ان أصبحت حركتهم (عليهم السلام) بما فيها غيبة المهدي (عليه السلام) واقعا تاريخيا ناجزا ثابتا تسهل مقارنته مع الواقع التاريخي لحركة الحجج في الامم السابقة كما ذكرها القرآن الكريم والنصوص الموافقة له من أسفار التوراة والانجيل المتداولة وقد درسنا ذلك مفصلا وأعددناه في كتاب خاص.
(2) ذكرنا مصادر ذلك في موضعه في الحلقة الثانية من كتابنا شبهات وردود مصادر ذلك.
(3) روى أبوداود في سننه عن أبي الطفيل عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لولم يبق من الدهر إلا يوم، لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا) وفيه أيضا عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة.) ج2/422 ط 1.
(4) وقد فصلنا البحث في الاية في كتابنا شبهات وردود.
(5) الشيخ المفيد المقنعة ص 810.
(6) هناك تقسيمات اخرى لمراحل عمل الائمة، سوف نتناولها ان شاء الله تعالى في دراستنا التفصيلية في هذا الموضوع.
![]() |
![]() |