المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الرابع : بحوث تطبيقية
الفصل الثالث : دراسة روايات سيف بن عمر في قتل عثمان

عبد الله بن سبأ عند الاميني

في الجزء التاسع من الغدير  (1) ذكر الاميني رحمه الله رواية الطبري في قصة ابن سبأ عن سيف :

1 . قال الاميني رحمه الله : قال الطبري في تاريخه 5 : 98 : فيما كتب به إلي السري عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال : كان عبد الله بن سبا يهوديا من أهل صنعاء أمه سوداء فأسلم زمان عثمان ، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام ، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم . فقال لهم فيما يقول : لعجب ممن يزعم ان عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع وقد قال الله عزوجل : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد . فمحمد أحق بالرجوع من عيسى : قال : فقبل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ، ثم قال لهم بعد ذلك : إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد . ثم قال : محمد خاتم الانبياء وعلي خاتم الاوصياء . ثم قال بعد ذلك : من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وآله ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وتناول أمر الامة ثم قال لهم بعد ذلك : إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وآلهفانهضوا في هذا الامر فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناسوادعوهم إلى هذاالامر ، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الامصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم ، وأظهروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الامصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون فيقرأ أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم ، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الارض اذاعة ، وهم يريدون غير ما يظهرون ، ويسرون غير ما يبدون ، فيقول أهل كل مصر : إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء إلا أهل المدينة فانهم جاءهم ذلك عن جميع الامصار فقالواإنا لفي عافية مما فيه الناس ، وجامعه محمد وطلحة من هذا المكان قالوا : فأتوا عثمان فقالوا : يا أمير المؤمنين ! أيأتيك عن الناس الذي يأتينا ؟ قال : لا والله ما جاءني إلا السلامة . قالوا : فإنا قد أتانا وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم قال فأنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي ، قالوا : نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الامصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم ، فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة ، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة ، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر ، وأرسل عبد الله ابن عمر إلى الشام ، وفرق رجالا سواهم فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا : أيها الناس ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم ، قالوا جميعا : الامر أمر المسلمين إلا أن أمرائهم يقسطون بينهم ويقومون عليهمواستبطأ الناس عمارا حتى ظنوا أنه قد اغتيل فلم يفجأهم إلا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم ان عمارا قد استماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه منهم : عبد الله بن السوداء ، وخالد بن ملجم ، وسودان بن حمران ، وكنانة بن بشر  (2) .

ثم علَّق العلامة الاميني على الرواية بقوله :

(لوكان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشق عصا المسلمين وقد علم به وبعبثه امراء الامة وساستها في البلادوانتهى امره الى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب ؟ ولم يلق القبض عليه ، والاخذ بتلكم الجنايات الخطرة والتأديب بالضرب والاهانة ، والزج الى اعماق السجون ؟ ولا آل أمره الى الاعدام المريح للامة من شره وفساده كما وقع ذلك كله على الصلحاء الابرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهتاف القران الكريم يرن في مسامع الملأ الديني :

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَاف أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِك لَهُمْ خِزْىٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)المائدة/33 .

فهلا إجتاح الخليفة جرثومة تلكم القلاقل بقتله ؟ وهل كان تجهمه وغلظته قصرا على الابرار من امة محمد صلى الله عليه وآله ؟ ففعل بهم ما فعل مما أسلفنا بعضه في هذا الجزء والجزء الثامن .

هب ان ابن سبأ هو الذي أمال الامصار على مناوأة الخليفة فهل كان هو مختلقا تلكم الأنتقادات من دون انطباقها على أحد من عمال عثمان وولاته فنهضت الامة وفيهم وجوه المهاجرين والانصار على الشيخ ؟

أو أن ما كان يقوله قد انطبق على ما كانوا يأتون به من الجرائم والمآثم ، فكانت نهضة الامة لاكتساحها نهضة دينية يخضع لها كل مسلم وان كان ابن اليهودية خلط نفسه بالناهضين لأي غاية راقته ، وما أكثر الأخلاط في الحركات الصحيحة من غير أن يمس كونهم مع الهايجين بشى من كرامتهم ..

ولو كان ما أنهاه اليهم ابن سبأ عزوا مختلقا فهلا يـ لما قجمت وفود الا مصار المدينة - قال لهم المدنيون : ان الرجل برى من هذه القذائف والهنات وهو بين ظهرانيهم يرون ما يفعل ، ويسمعون ما يقبل ؟

لكنهم بدلا عن ذلك أصفقوا مع القادمين ، بل صاروا هم القدوة والاسوة في تلك النهضة ، وكانوا قبل مقدمهم ناقمين عليه .

ثم قال رحمه الله : ونحن والدكتور طه حسين نصافق عند رأيه هاهنا حيث قال في كتابه (الفتنة الكبرى صـ 134 (وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذا ان كان كل ما يروى عنه صحيحا - انما قال ما قال ودعا الى ما دعا اليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف فهو قد استغل الفتنة ولم يُثِرْها ، وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الامويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ، ليشككوا في بعض ما نسب من الاحداث الى عثمان وولاته من ناحية ، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى ، فيردوا بعض امور الشيعة الى يهودي أسلم كيدا للمسلمين ، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة ؟  (3) وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان ؟

فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج الاحتياط ، ولنكبر المسلمين في صدر الاسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء ، وكان هو يهوديا ثم أسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا ، ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي ، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوهوفرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك اشيعا وأحزابا .

هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ، ولا تثبت للنقد ، ولا ينبغي أن تقام عليها امور التاريخوإنما الشئ الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الاسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى إختلاف الرأي وافتراق الاهواء ونشأة المذاهب السياسية المتباينة .

فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنة النبي وسيرة صاحبيه كانوا يرون امورا تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها ، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية .

والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الامور الجديدة بنفوس جديدة ، فيها الطمع ، وفيها الطموح ، وفيها الاثرة ، وفيها الامل البعيدوفيها الهم الذي لا يعرف حدا يقف عنده ، وفيها من أجل هذا كله التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شئ من حولها .

وهذه الامور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه فهذه أقطار واسعة من الارض تفتح عليهم ، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الاقطار .

فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الاقطار المفتوحة والانتفاع بهذه الاموال المجموعة ؟

وهذه بلاد أخرى لم تفتح وكل شئ يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها ، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح ؟

وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا ، ومن الاجر والمثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة ثم مالهم جميعا لا يختلفون في سياسة هذا الملك الضخم وهذا الثراء العريض ؟

وأي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش هذه الابواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء ؟

وأي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الانصار وشباب الاحياء الاخرى من العرب وفي أن يمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظا إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة ، ويؤثر قريشا بعظائم الامور ، ويؤثر بني امية بأعظم هذه العظائم من الامور خطرا وأجلها شأنا ؟ .

والشئ الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد وسعيدا على الكوفة بعد أن عزل سعدا ، وولى عبدالله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى . وجمع الشام كلها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من أحياء العرب ، وولى عبدالله بن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص ، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان ، منهم أخوه لامه ، ومنهم أخوه في الرضاعة ، ومنهم خاله ، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الادنى إلى أمية بن عبد شمس كل هذه حقائق لا سبيل إلى انكارها ، ومانعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولى وعزل من عزل ، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والامراء ايثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم ، وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعا من الناس ، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور . إنتهى حرفيا .

قال الأميني رحمه الله : على أن ما تضمنته هذه الرواية من بعث عمار إلى مصر وغيره إلى بقية البلاد مما لا يكاد أن يذعن به ، أو أن يكون له مقيل من الصحة ، ولم يذكر في غير هذه الرواية الموضوعة المكذوبة على ألسنة رواتها المتراوحين بين زندقة وكذب وجهالة .

فإن ما يعطيه النظر في مجموع ما روي حول مشكلة عثمان ان عمارا ومحمد بن مسلمة لم يفارقا المدينة طيلة أيامها ومنذ مبادئها إلى غايتها المفضية إلى مقتل عثمان ، وعمار هو الذي كان في مقدم الثائرين عليه من أول يومه الناقمين على أعماله وقد أراد نفيه إلي الربذة منفى أبي ذر بعد وفاته فيه رضوان الله عليهما ، فمنعته المهاجرون والانصار كما مر حديثه وكم وقع عليه في تضاعيف تلكم الاحوال تعذيب وضرب وتعنيف ، وكان عثمان يعلم بكراهة عمار إياه منذ يومه الاول ، فمتى كان يستنصح عمارا حتى يبعثه إلى البلاد فيحكي عمار له أخبارها ، أو يستميله ابن سبأ وأصحابه ؟

وهذا مما لا يعزب علمه عن أي باحث كما تنبه له الدكتور طه حسين في "الفتنة الكبرى" ص 128 حيث قال : أكاد أقطع بأن عمارا لم يرسل إلى مصر ولم يشارك هذين الفتيين فيما كانا بسبيله من التحريض ، وإنما هي قصة إخترعها العاذرون لعثمان ، فيما كان بينه وبين عمار قبل ذلك أو بعده مما سنراه بعد حين . ا نتهى .

______________________

(1) ظهرت الطبعة الاولى منه سنة 1951 .

(2) العلامة الأميني : الغدير ج 9 ص 218 .

(3) العلامة الأميني : الغدير ط2 ج9/219ـ220 .

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري