المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الرابع : بحوث تطبيقية
الفصل الرابع : دراسة روايات سيف بن عمر في الفتوح
قال سيف : في وقعة أليس آلى خالد أن يجري نهرهم بدمائهم ، فلمّا غلب غيّر مجرى الماء من نهرهم واستأسر ، فلول الجيش الفارسي والمدنيين من أهل الأرياف من كلّ جوانب أليس مسافة يومين وأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين ووكّل بهم رجالا يضربون أعناقهم على النهر يوما وليلة ، والدم ينشف فقال له القعقاع ـالصحابي الذي اختلقه سيف - وأشباه له : لو قتلت أهل الأرض لم تجرِ دماؤهم ، أرسل عليها الماء تبرّ يمينك ، فأرسل عليها الماء فأعاده فجرى النهر دما عبيطا فسمّي نهر الدم لذلك إلى اليوم . ثمّ قال : ذهب خالد إلى أمغيشيا ، وكانت مصرا كالحيرة ، فأمر بهدم أمغيشيا وكلّ شى كان في حيزها ، وبلغ عدد قتلاهم سبعين ألفا .
وأمّا هدم مدينة أمغيشيا التي اختلق سيف المدينة وحيّزها وخبر هدمها ، فقدكان له نظير في التأريخ من قبل طغاة ، مثل : هولاكو وجنكيز وكذلك قتل الأسرى ، غير أنّ سيفا نسب إلى خالد ما لم يجرِ له نظير في تأريخ الحروب ، وهو أنّه أجرى نهرهم بدمائهم ، وأنّه لذلك سمّي نهرهم بنهر الدم إلى اليوم .
وأخيرا :
اختلق سيف كلّ هذه الأخبار واختلق أخبار معارك الثني والمذار والمقر وفم فرات بادقلى وحرب المصيخ وقتلهم الكفّار يومذاك حتّى امتلأ الفضاء من قتلاهم ، فما شبهوهم إلاّ بغنم مصرّعة وكذلك معركة الزميل والفراض وقتل مائة ألف من الروم فيها .
اختلق سيف جميع أخبار هذه الحروب ونظائرها وانتشرت في تواريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وغيرهم ، ولا حقيقة لواحدة منها ، وقد ناقشنا أخبارها وأسانيدها في بحث (انتشار الإسلام بالسيف والدم في حديث سيف) من كتاب (عبد الله بن سبأ) الجزء الثاني .
ألا يحقّ للخصوم مع هذا التأريخ المزيّف أن يقولوا : (إنّ الإسلام انتشر بحدّ السيف) ! ؟
وهل يشك أحد بعد هذا في هدف سيف من وضع هذا التأريخ وما نواه من سوء للإسلام ؟ ! وما الدافع لسيف إلى كلّ هذا الدسّ والوضع إن لم تكن الزندقة التي وصفه العلماء بها!؟
وأخيرا هل خفي كلّ هذا الكذب والافتراء على إمام المؤرّخين الطبري ؟ وعلاّمتهم ابن الأثير ؟ ومكثرهم ابن كثيروفيلسوفهم ابن خلدون ؟ وعلى عشرات من أمثالهم ، كابن عبد البرّ وابن عساكر والذهبي وابن حجر ؟
كلاّ فإنّهم هم الذين وصفوه بالكذب ورموه بالزندقة ! وقد ذكر الطبري وابن الأثير وابن خلدون في تواريخهم في وقعة ذات السلاسل : أنّ ما ذكره سيف فيها خلاف ما يعرفه أهل السير !
إذن فما الذي دعاهم إلى اعتماد رواياته دون غيرها مع علمهم بكذبه وزندقته ؟ إن هو إلا أنّ سيفا حلّى مفترياته بإطار من نشر مناقب ذوي السلطة من الصحابة ، فبذل العلماء وسعهم في نشرها وترويجها ، مع علمهم بكذبها ؟ ففي فتوح العراق ـمثلاـ أورد مفترياته تحت شعار مناقب خالد بن الوليد ، فقد وضع على لسان أبي بكر أنّه قال بعد معركة أليس وهدم مدينة أمغيشيا : (يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ، أعجزت النساء أن ينشئن مثل خالد) .
كما زيّن ما اختلق في معارك الردّة بإطار من مناقب الخليفة أبي بكر ، وكذلك فعل في ما روى واختلق عن فتوح الشام وإيران على عهد عمر ، والفتن في عصر عثمان ، وواقعة الجمل في عصر علىّ ، فإنّه زيّن جميعها بإطار من مناقب ذوي السلطة والدفاع عنهم في ما انتقدوا عليه ، وبذلك راجت روايات سيف وشاعت أكاذيبه ونسيت الروايات الصحيحة واُهملت على أنّه ليس في ما وضعه سيف واختلق -على الأغلب- فضيلة للصحابة بل فيه مذمّة لهم .
ولست أدري كيف خفي على هؤلاء أنّ جلب خالد عشرات الاُلوف من البشر وذبحهم على النهر ليجري نهرهم بدمائهم ليس فضيلة له ! ولا هدمه مدينة أمغيشيا ولا نظائرها إلا على رأي الزنادقة في الحياة من أنّها سجن للنور ، وأنّه ينبغي السعي في إنهاء الحياة لإنقاذ النور من سجنه
ومهما يكن من أمر ، فإنّ بضاعة سيف المزجاة إنّما راجت لأنّه طلاها بطلاء من مناقب الكبراء ، وإنّ حرص هؤلاء على نشر فضائل ذوي السلطة والدفاع عنهم أدّى بهم إلى نشر ما في ظاهره فضيلة لهم وإن لم تكن لهم في واقعه فضيلة !
والأنكى من ذلك أنّ سيفا لم يكتفِ باختلاق روايات في ظاهرها مناقب للصحابة من ذوي السلطة ويدسّ فيها ما شاء لهدم الإسلام ، بل اختلق صحابة للرسول صلى الله عليه وآله لم يخلقهم الله ! ووضع لهم ما شاء من كرامات وفتوح وشعر ومناقب كما شاء ، وذلك معرفة منه بأنّ هؤلاء يتمسّكون بكلّ ما فيه مناقب لأصحاب الحكم كيف ما كان ، فوضع واختلق ما شاء لهدم الإسلام ! اعتمادا منه على هذا الخلق عند هؤلاء ! وضحكا منه على ذقون المسلمين ! ولم يخيّب هؤلاء ظنّ سيف ، وإنّما روّجوا مفترياته زهاء ثلاثة عشر قرنا !
______________________
(1) راجع بحث الزندقة والزنادقة من البحوث التمهيدية في الجزءالأوّل من (خمسون ومائة صحابي مختلق) .