المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثاني : منهج البحث في مصادر التاريخ
الفصل الأول : المنهج في علم التاريخ بشكل عام
أمَّا النقد الخارجي للوثيقة فيدور حول محورين :
الأول : نص الوثيقة .
الثاني : مصدرها .
قبل استخدام الوثيقة يجب أن نعرف أوّلاً هل نص الوثيقة (صحيح) أي هل يتَّفق قدر الإمكان مع نسخة المؤلف التي كتبها بخطه ؟ فإن كان النص (سقيماً) فيجب تصحيحه ، ومن الخطر أن نعدل عن هذا المسلك ، فإنَّ استخدام نص حرَّفه النقل ، قد يفضي إلى أن ننسب إلى المؤلف ما هو في الحقيقة من تحريف الناسخ ، وقد شُيِّدت نظريات استناداً إلى نصوص أفسدها تحريف الناسخ ، ثمَّ تهدَّمت كلُّها دفعةً واحدةً لمَّا أُكتشف النص الأصلي لهذه النصوص الفاسدة أو لمَّا أُصلح .
وقد أصبح هذا القسم من المنهج التاريخي (أي إصلاح النصوص وردِّها إلى حالتها الأصلية) اليوم أوفر أقسامه حظاً من الرسوخ والانتشار بين الباحثين ولهذا السبب نقتصر هنا على تلخيص مبادئه الرئيسة :
فلتكن لدينا وثيقة غير منشورة أو لم تنشر بعد نشرة مطابقة لقواعد النقد فماذا نعمل من أجل تحقيق نصِّها على خير نحو ممكن ؟ أمامنا للنظر ثلاث حالات :
الحالة الأولى : هي الحالة التي تكون لدينا فيها النسخة الأصلية التي كتبها المؤلف بخطه فما علينا حينئذ إلاَّ أن ننشر النصَّ بدقة كاملة كما هو .
الحالة الثانية : الأصل مفقود ولا يعرف غير نسخة منه ، هنا لابدَّ من أخذ الحيطة إذ من المحتمل مبدئياً أن تكون النسخة تحتوي على أغلاط ، والتحريفات التي تطرأ على الأصل في نسخة منقولة (وهي التي تسمَّى باسم اختلافات النقل) سببها إمَّا التزييف أو الغلط ، فبعض النسَّاخ يحدثون عن عمد تعديلات أو يحذفون مواضع ، وكلُّ النساخ تقريباً ارتكبوا أغلاطاً في النقل مرجعها إلى الإدراك ، أو قد تحدث عرضاً ، فالأغلاط الراجعة إلى الإدراك تحصل حين يخيَّل إليهم أنَّ ثمَّة أغلاطاً في الأصل فيصححونها لأنَّهم لم يفهموها ، والأغلاط العرضية تحدث حين يسهون في قراءة الأصل أو لا يعرفون أن يقرؤوه أو حينما يسيئون السماع وهم يكتبون عن إملاء أو حينما يرتكبون عن غير قصد سقطات قلميةً .
والتحريفات التي تنشأ من التزييف وعن الأغلاط في الإدراك غالباً ما تكون صعبةً جدّاً في التصحيح بل في اكتشافها وبعض الأغلاط العرضية (حذف عدة أسطر مثلاً) لا سبيل إلى تصحيحها في الحالة التي نحن بصدد البحث فيها ، حالة النسخة الوحيدة ، لكنَّ غالبية الأغلاط العرضية يمكن حزره .
الحالة الثالثة : توجد نسخ عديدة مختلفة لوثيقة ضاع أصلها ، وهنا نجد أنَّ العلماء المحصِّلين الُمحْدَثين لهم ميزة على أسلافهم ، ففضلاً عن أنَّهم أوفر حظّاً من المعلومات ، فإنَّه يتَّبعون خطة منظمة لمقابلة النسخ والهدف كما في الحالة السابقة هو الحصول على نصّ أقرب ما يمكن إلى الأصل .
لقد كان العلماء المحصلون في الماضي ، ومثلهم الناشئون في هذه الأيام ، كان عليهم في مثل هذه الحالة أن يكبحوا حركة أوَّلية بغيضة تصدر عفواً ألا وهي : الاستعانة بأية نسخة تقع في متناول اليد .
والحركة الثانية ليست خيراً من الأولى ، إذا كانت النسخ المختلفة ليست من عصر واحد فيستعان بأقدمها ، والواقع إنَّ الأقدمية النسبية للنسخ ليست لها نظرياً وواقعياً في كثير من الأحيان أية أهمية ، لأنَّ مخطوطة القرن السادس عشر منقولة عن نسخة جيدة مفقودة من القرن الحادي عشر لها قيمة أكبر بكثير من نسخة مغلوطة معدَّلة من القرن الثاني عشر أو الثالث عشر .
والحركة الثالثة ليست هي الأخرى حسنة : وهي أن نستخرج القراءات المختلفة للموضع الواحد ونعدُّها ونقرِّر وفقاً للأغلبية ، فلو كان لدينا مثلاً عشرون نسخة من نصّ ما : وكانت القراءة (أ) تشهد عليها 18 مخطوطة ، والقراءة (ب) تشهد عليها مخطوطتان ، فإنَّ تفضيل (أ) على هذا الأساس معناه أنَّ كلَّ النسخ لها نفس القيمة ، وهذا الافتراض ينطوي على غلط في الإدراك ، لأنًّه إذا كانت 17 نسخة من النسخ 18 التي تشهد على القراءة (أ) قد نسخت كلُّها عن النسخة الثانية عشرة ، فإنَّ القراءة (أ) لم يشهد عليها في هذه الحالة غير نسخة واحدة في الواقع ، وأصبح السؤال هو : هل القراءة (أ) أحسن أو أسوأ ، - من ناحية المضمون والمعنى- من القراءة (ب) .
وقد تقرَّر أنَّ الموقف المعقول الوحيد هو أن نحدد أوَّلاً : العلاقات بين النسخ بعضها مع بعض - وفي هذا السبيل نبدأ من مصادرة لا مشاحةَ فيها وهي : إنَّ كلَّ النسخ التي تحتوي في نفس المواضع على نفس الأغلاط هي نسخ منقول بعضها عن بعض أو نُقلت كلُّها عن نسخة كانت توجد فيها هذه الأغلاط ، فليس من المعقول أن يرتكب نُسَّاخ مختلفون ، وهم ينقلون كلٌّ منهم من ناحيته عن الأصل الخالي من الأغلاط نفس الأغلاط تماماً . وإذن فالاتِّفاق في الأغلاط شاهد على الاتِّفاق في المصدر . - وعلينا دون ملامة أن نطرح كلَّ النسخ المنقولة عن نسخة محفوظة لدينا : إذ من الواضح أنَّه لا قيمة لها إلاَّ قيمة هذه النسخة التي هي مصدرها المشترك ، ولا تختلف كلُّها عنها ، إذا كان ثمَّة اختلاف ، إلا بأغلاط إضافية فمن إضاعة الوقت أن نبيِّن اختلافات القراءة الواردة فيها . - فإذا تمَّ هذا ، فلا يكون أمام المرء غير نسخ مستقلة بعضها عن بعض منقولة مباشرة عن النسخة الأصلية ، أو نسخ فرعية صدرها (وهو نسخة مأخوذة مباشرة عن الأصل) مفقود .
ولتصنيف النسخ الفرعية إلى أسر كلٌّ منها تمثِّل على نحو متفاوت في النقاوة نفس الرواية ، نلجأ إلى منهج مقارنة الأغلاط ، فهذا المنهج يمكننا عادة بدون عناء من وضع جدول أنساب كامل للنسخ المخطوطة يبرز بكلِّ وضوح أهميتها النسبية وليس هاهنا مجال البحث في الأحوال الصعبة التي فيها تصبح العملية شاقة إلى أقصى حدّ أو حتَّى غير ممكنة التنفيذ نتيجة سقوط عدد كبير من النسخ الوسطى ، أو بسبب ألوان من المزج الاعتباطي بين نصوص روايات كثيرة متمايزة ، على أنَّ المنهج في هذه الأحوال القصوى لا يتغيَّر ، فإنَّ مقارنة المواضع المتناظرة أداةٌ فعَّالةٌ لا يملك النقد هاهنا غيرها .
فإذا ما تمَّ وضع شجرة أنساب النسخ ، نقارن الروايات المستقلة ابتغاء الوصول إلى نصِّ الأصل .
والنقد هنا يهدف إلى التحقيق عن مصدر الوثيقة (المؤلِّف) ، وعن صحة انتسابها إليه ، إذ الوثيقة التي لا يعرف من أين أتت ومن هو مؤلفها وما هو تاريخها لا تفيد شيئاً .
نتفحص أوّلاً خط الوثيقة ثمَّ لغتها ، ونجمع كل المعلومات الخارجية المتعلقة بالوثيقةوالتي توجد متفرقة في وثائق من نفس العصر أو من عصر أحدث .
ويهدف النقد أيضاً إلى معرفة المصادر التي اعتمدها المؤلف في وثيقته ، فكثير من الوثائق التاريخية التي تبدو في الظاهر أصيلة ليس إلاَّ انعكاساً (دون ذكر ذلك) (وقد يذكر ذلك) لوثائق أقدم منها ومن الواجب في نقد المصدر أن يميَّز قدر المستطاع المصادر التي استعان بها مؤلف الوثيقة .
ونتائج نقد المصدر بوصفه يعنى بتقدير إسناد الوثائق على نوعين فهو من ناحية يستعيد الوثائق المفقودة .
ومن ناحية أخرى يقضي على سلطة كثير من الوثائق (الصحيحة) أعني غير المتهمة بالتزييف وذلك بإثبات أنَّها فرعية ثانوية تساوي ما تساويه مصادرها
______________________
(1) أقول : من قبيل أخبار مقتل الحسين عليه السلام الواردة في كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد فإنَّ ورودها فيه قد يوهم البعض أنَّها أخبار شيعية خاصة بينما هي مستمدة من كتاب أبي مخنف وقد صرَّح الشيخ المفيد بذلك (انظر وقعة الطف لأبي مخنف تحقيق الشيخ هادي اليوسفي ص9-11 ط1/1367 هـ . ش قم ، الإرشاد ج2 ص32 ط . المؤتمر العالمي قم) وأيضاً من قبيل تاريخ الطبري فيما أورده حول الردَّة والفتوح والثورة على عثمان وحرب الجمل فإنَّه يصبح مصدراً فرعياً بالنسبة للكتب الأولى التي أخذ عنها ككتابي الفتوح وحرب الجمل لسيف بن عمر التميمي الكذَّاب المشهور ، وقيمة ما جاء في الطبري بخصوص ما نقله من مؤلفات سيف هي قيمة مؤلفات سيف نفسها وهي قيمة هابطة ، بل لا قيمة لها لأنَّ المؤلف معروف بالكذب والوضع ، وهكذا قيمة كل كتاب في التاريخ أخذ عن الطبري روايته عن سيف .