المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثاني : منهج البحث في مصادر التاريخ
الفصل الأول : المنهج في علم التاريخ بشكل عام

النقد الباطني أو التحليلي للوثيقة التاريخية

والنقد الباطني أو التحليلي للوثيقة التاريخية يدور حول محورين أيضاً :

الأول : معرفة ما أراد المؤلف أن يقوله أو ينقله في وثيقته ويتمُّ ذلك عن طريق تفسير الوثيقة بموجب اللغة التي كتب بها وأساليب التعبير الشائعة في عصر المؤلف وهو نقد تحليلي إيجابي .

الثاني : معرفة أمانة المؤلف ودقته وهو نقد تحليلي سلبي .

تفسير النص (النقد الإيجابي) :

والتفسير عملية لغوية ، ولفهم نصّ ما ينبغي معرفة اللغة التي كتب بها ، وأساليب التعبير الشائعة في عصر كتابة النص وبلده وطريقة المؤلف أو أسلوبه الخاص ، كما ينبغي أن لا تفسَّر كلُّ كلمة وكلُّ جملة مفردة بل بحسب المعنى العام للفقرة أي بحسب السياق وهي قاعدة أساسية في التفسير ، قال فوستيل دي كولانج : (إنَّ لدراسة الكلمات أهمية بالغة في علم التاريخ ، فاللفظ الذي يفسَّر تفسيراً خطأً يمكن أن يكون مصدراً لأغلاط فاحشة) .

أمانة المؤلف (النقد السلبي) :

إنَّ النقد الإيجابي يعرفنا فقط بما أراد المؤلف أن يقوله ، ويبقى أن نحدد :

أ- ما اعتقده فعلاً إذ يمكن أن لا يكون أميناً .

ب- ما عرفه فعلاً إذ يمكن أن يكون قد أخطأ .

ولهذا يمكن التمييز بين نقد الأمانة الذي يستهدف معرفة ما إذا كان مؤلف الوثيقة لم يكذب ، وبين نقد الدقة الذي يستهدف معرفة ما إذا كان المؤلف لم يخطئ في النقل ، ويمكننا التوصل إلى الهدفين عن طريق سلسلتين من الأسئلة .

السلسلة الأولى من الأسئلة باتجاه كشف الأمانة : فنتساءل هل كان المؤلف في ظرف من شأنه أن يميل بالمرء عادةً إلى عدم الأمانة ، ويجب أن نبحث ما هي هذه الظروف بالنسبة إلى مجموع الوثيقة بوجه عام وبالنسبة إلى كلِّ قول بوجه خاص . والجواب تقدِّمه التجربة ، فكلُّ كذبة ، صغيرة كانت أو كبيرة سبَّبها القصد الخاص عند المؤلف لإحداث تأثير خاص في قارئه ، وهكذا يرد ثبت الأسئلة إلى ثبت بالمقاصد التي يمكن أن تدفع المؤلفين عادةً إلى الكذب ، فهل يحاول المؤلف أن يجرّ لنفسه أو جماعته منفعةً عمليةً ، وهل كان يكره جماعة أو شخصاً فحمله ذلك على تشويه الوقائع ابتغاء أن يعطي فكرة سيئة عن خصومه ، أو كان يتعاطف فحمله عطفه وحبَّه على تشويه الوقائع وإعطاء فكرة حسنة عن أصدقائه  (1) ، أو كان متملِّقاً لجمهوره أو أراد أن يتجنَّب صدمة جمهوره فأغفل ذكر الحقائق  (2) أو علَّق جمهوره بحيل أدبية فشوَّه الوقائع لجعلها أجمل حسب تصوُّره للجمال من خلال ذكره لتفاصيل أو خطب وقصائد وغير ذلك .

والسلسلة الثانية من الأسئلة باتجاه كشف الدِّقة : فهل وجد المؤلف في ظرف من الظروف التي تسوق الإنسان إلى الخطأ ، إنَّ الخبرة العملية المستفادة من العلوم تُعرِّفنا ما هي ظروف المعرفة الدقيقة بالوقائع ، وليس ثمَّة غير مسلك علمي واحد لمعرفة واقعة ما ، وهو (الملاحظة) وينبغي أن تكون هذه الملاحظة قد تمَّت على وجه صحيح ، ويمكن وضع ثبت الأسئلة الخاصة بدوافع الخطأ ابتداءاً من التجربة التي تبيِّن لنا الأحوال المعتادة لوقوع الخطأ ، فهل كان الملاحظ في موضع يستطيع أن يشاهد أو يسمع جدِّياً (مرءوس يدعي رواية المداولات السرية التي جرت في مجلس رؤساء) وهل تحوَّل انتباهه فيها أو أهمل لأنَّ الواقعة التي كان عليه أن يشاهدها لم تكن تهمه ، وهل افتقر إلى خبرة خاصَّة أو إدراك عام لفهم الوقائع ؟ وهل خلط بين وقائع متمايزة ، وخصوصاً ينبغي أن نتساءل متى سجَّل ما رأى أو سمع ؟ وهذه نقطة رئيسة ، وذلك أنَّ الملاحظة الدقيقة الوحيدة هي تلك التي تسجَّل بمجرد وقوعها ، والانطباع الذي لم يسجل إلاَّ فيما بعد مجرد ذكرى معرَّضة للاختلاط في الذاكرة بذكريات أخرى ، و(المذكرات) التي كتبت بعد الوقائع بعدة سنوات وأحياناً في أخريات حياة المؤلف قد أدخلت في التاريخ أخطاء لا تعدُّ ولا تحصى ، ولذلك تعتبر المذكرات وثائق من الدرجة الثانية .

إنَّ هاتين السلسلتين من الأسئلة عن الأمانة والدِّقة في أقوال الوثيقة تفترضان أنَّ المؤلف شاهد الواقعة بنفسه ، ولكن وثائق التاريخ في أغلب الأحيان ليست من هذا القبيل ، بل أغلبها من الدرجة الثانية ، وهي لا تكفي فيها أن تفحص الظروف التي عمل فيها مؤلف الوثيقة ، لأنَّه ناقل عن راو آخر ، ولهذا ينبغي تغيير ميدان النقد إلى الراوي الثاني حتَّى نصل إلى الراوي الأوّل ، وقد يبقى الراوي الأوّل مجهولاً ، والنقد أيضاً بحاجة أن يعرف هل هذه النقول المتوالية قد حافظت على القول الأصلي أو حرَّفته ، وهل المنقول الذي سجَّلته الوثيقة كان مكتوباً أو شفوياً ، فالكتابة تقيِّد المنقول وتجعل نقله أميناً ، وعلى العكس تجد أنَّ القول الشفوي يظل انطباعاً خاضعاً للتحريف في ذاكرة المشاهد نفسه باختلاطه بانطباعات أخرى وبمروره شفوياً بوسطاء يزداد التحريف ، فالنَّقل الشفوي فيه تحريف مستمر ، ولهذا لا يُعتَمد في العلوم إلاَّ على النقل المكتوب ، وفي حالة النقل المكتوب نبحث هل ردَّد المؤلف مصدره دون تغيير ، ثمَّ نبحث بوجه عام هل كان من عادته تحريف مصادره وفي أي اتِّجاه  (3) .

______________________

(1) من قبيل ما صنعه سيف بن عمر في كتابه (الجمل ومسير عائشة وعلي) فأنَّه شوّه الوقائع وحرّف الأخبار لإعطاء فكرة حسنة عن ولاة عثمان من بني أمية وإعطاء تفسير آخر لحوادث الثورة على عثمان ومبرراتها يرفع فيه المسئولية عن سوء تصرف ولاة عثمان من بني أمية ، او تحريض عمرو بن العاص وعائشة وطلحة على عثمان ومن ثمَّ إلقاء اللوم على شخصية يهودية مختلقة سمَّاها عبد الله بن سبأ نسب إليها ذلك وأضاف إليه بأن جعله مؤسس التشيع علي عليه السلام وكونه أوّل قائل بالوصية لعلي عليه السلام .

(2) من قبيل ما صنعه الطبري مع جمهور قُرَّائه في حوادث سنة 30من تاريخه قال : (وفي هذه السنة كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إيَّاه منها (أي المدينة) أمور كثيرة كرهت ذكرها ، أمَّا العاذرون معاوية في ذلك فإنَّهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها إلىَّ السري بذلك أنَّ شعيباً حدَّثه سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي ...) ثمَّ يذكر رواية سيف مفصلاً وقال في حوادث سنة (35) : (وذكرت أمور كثيرة في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب منها ما تقدَّم ذكره ومنها ما عرضت عن ذكره كراهةً منِّي لبشاعته) ثمَّ يذكر رواية سيف بن عمر مفصلة . أقول : إنَّ الطبري في تاريخه يصرِّح بإغفاله ذكر الحقائق رعايةً للجمهور .

(3) عبد الرحمن بدوي : النقد التاريخي ص149 .

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري