المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثالث : تعريف بالموسوعات التاريخية وأصولها ومصنفيها
الفصل الأول : موسوعة ابن أبي الحديد

مناقشات ابن أبي الحديد لروايات التاريخ

لم يكتف ابن أبي الحديد بذكر الأخبار التاريخية بل عقَّب على عدد لابأس به منها بمناقشة أو تعليق وفيما يلي نماذج منها :

تعليقاته على طرف من روايات الواقدي :

1 . قال الواقدي وكان ضمرة بن سعيد يحدِّث عن جدَّته وكانت قد شهدت أُحُداً تسقي الماء قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يومئذ : لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان ، وكان يراها يومئذ تقاتل أشدَّ القتال ، وإنَّها لحاجزة ثوبها على وسطها حتَّى جُرِحَت ثلاثة عشر جرحاً .

قال ابن أبي الحديد : ليت الراوي لم يكنِّ هذه الكناية ، وكان يذكرهما باسمهما حتَّى لا تترامى الظنون إلى أمور مشتبهة ، ومن أمانة المحدِّث أن يذكر الحديث على وجهه ، ولا يكتم منه شيئاً ، فما باله كتم اسم هذين الرجلين  (1) .

وقال في مكان آخر : واحتجَّ من روى أنَّ عمر فرَّ يوم أُحد ، بما روى أنَّه جاءته في أيّام خلافته امرأة تطلب بُرداً من بُرود كانت بين يديه ، وجاءت معها بنت لعمر تطلب بُرداً أيضاً ، فأعطى المرأة وردَّ ابنته ، فقيل له في ذلك فقال : إنَّ أبا هذه ثبت يوم أُحد ، وأبا هذه فرَّ يوم أُحد ولم يثبت .

2 . قال ابن أبي الحديد : حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه الله في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان وستمائة وقارى يقرأ عنده مغازي الواقدي فقرأ حدَّثنا الواقدي قال : حدَّثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال : سمعت محمد بن مسلمة يقول : سمعت أُذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم أُحد ، وقد انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه ، سمعته يقول : إلىَّ يا فلان إلىَّ يا فلان أنا رسول الله ، فما عرج عليه واحد منهما ومضيا ، فأشار ابن معد إلىَّ أن اسمع ، فقلت : وما في هذا ؟ قال : هذه كناية عنهما ، فقلت : ويجوز ألاَّ يكون عنهما لعلَّه عن غيرهما ، قال : ليس في الصحابة من يحتشم ويستحيا من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطرُّ القائل إلى الكناية إلاَّ هما ، قلت له : هذا وهم فقال : دعنا من جدلك ومنعك ، ثمَّ حلف أنَّه ما عنى الواقدي غيرهما وأنَّه لو كان غيرهما لذكره صريحاً وبان في وجهه التنكُّر من مخالفتي له  (2) .

3 . وروى الواقدي قال : حدَّثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم (اسم أبي جهم عبيد) قال : كان خالد بن الوليد يحدِّث وهو بالشام فيقول : الحمد لله الذي هداني للإسلام ، لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جال المسلمون وانهزموا يوم أُحُد ، وما معه أحد ، وإنِّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرت إليه وهو متوجه إلى الشعب .

قال ابن أبي الحديد : يجوز أن يكون هذا حقّاً ، ولا خلاف أنَّه توجه إلى الشعب تاركاً للحرب ، لكن يجوز أن يكون ذلك في آخر الأمر لمَّا يئس المسلمون من النصرة ، فكلُّهم توجَّه نحو الشعب حينئذ ، وأيضاً فإنَّ خالداً متَّهم في حقِّ عمر بن الخطاب لما كان بينه وبينه من الشحناء والشنآن فليس بمنكر من خالد أن ينعى عليه حركاته ، ويؤكِّد صحة هذا الخبر وكون خالد عفَّ عن قتل عمر يومئذ ما هو معلوم من حال النسب بينهما من قبل الأُم ، فإنَّ أُمَّ عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة وخالد هو ابن الوليد بن المغيرة فأُم عمر ابنة عمِّ خالد لِحّاً ، والرحم تعطف .

4 . قال الواقدي : أمّا أبو عزة واسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح ، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله أخذه أسيراً يوم أحد ولم يؤخذ يوم أحد أسير غيره ، فقال : يا محمد مُنّ علىَّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنَّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرَّتين ، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك ، فتقول : سخرت بمحمد مرَّتين ، ثمَّ أمر عاصم بن ثابت ، فضرب عنقه .

قال الواقدي : وقد سمعنا في أسره غير هذا ، حدَّثني بكير بن مسمار قال : لمّا انصرف المشركون عن أُحد نزلوا بحمراء الأسد في أوّل الليل ساعة ، ثمَّ رحلوا وتركوا أبا عزة مكانه حتَّى ارتفع النهار فلحقه المسلمون وهو مستنبه يتلدد ، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت ، فأمره النبي صلى الله عليه وآله فضرب عنقه .

قال ابن أبي الحديد : وهذه الرواية هي الصحيحة عندي ، لأنَّ المسلمين لم تكن حالهم يوم أُحد حال من يتهيأ له أسر أحد من المشركين في المعركه لما أصابهم من الوهن .

فأمّا معاوية بن المغيرة ، فروى البلاذري إنَّه هو الذي جدع أنف حمزة ومثَّل به ، وإنَّه انهزم يوم أُحد فمضى على وجهه ، فبات قريباً من المدينة فلمَّا أصبح دخل المدينة ، فأتى منـزل عثمان بن عفان بن أبي العاص وهو ابن عمِّه لحاً ، فضرب بابه فقالت أُمّ كلثوم زوجته وهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله : ليس هو هاهنا ، فقال : ابعثي إليه فإنَّ له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أوّل وقد جئته به فإن لم يجى ذهبت ، فأرسلت إليه وهو عند رسول الله ، فلمَّا جاء قال لمعاوية : أهلكتني وأهلكت نفسك ما جاء بك ، قال : يا بن عمِّ لم يكن أحد أقرب إليَّ ولا أمسَّ رحماً بيَّ منك فجئتك لتجيرني ، فأدخله عثمان داره وصيَّره في ناحية منها ، ثمَّ خرج إلى النبي صلى الله عليه وآله ليأخذ له منه أماناً ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إنَّ معاوية في المدينة وقد أصبح بها فاطلبوه ، فقال بعضهم : ما كان ليعدو منـزل عثمان فاطلبوه به ، فدخلوا منـزل عثمان فأشارت أُمّ كلثوم إلى الموضع الذي صيَّره فيه ، فاستخرجوه من تحت حمار لهم فانطلقوا به إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فقال عثمان حين رآه : والذي بعثك بالحق ما جئت إلاَّ لأطلب له الأمان فهبه لي ، فوهبه له وأجَّله ثلاثاً ، وأقسم لئن وجده بعدها يمشي في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه ، وخرج عثمان فجهَّزه واشترى له بعيراً ، ثمَّ قال : ارتحل ، وسار رسول الله صلى الله عليه وآلهإلى حمراء الأسد وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبيصلى الله عليه وآله ويأتي بها قريشاً ، فلمَّا كان في اليوم الرابع قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنَّ معاوية أصبح قريباً لم ينفذ فاطلبوه فأصابوه وقد أخطأ الطريق فأدركوه وكان اللَّذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر فوجداه بالجماء ، فضربه زيد بالسيف وقال عمار : إنَّ لي فيه حقّاً فرمياه بسهم فقتلاه ثمَّ انصرفا إلى المدينة بخبره ، ويقال : أنَّه أُدرك على ثمانية أميال من المدينة ، فلم يزل زيد وعمار يرميانه بالنبل حتَّى مات .

قال : ومعاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية أُم عبد الملك بن مروان .

قال : وذكر الواقدي في كتابه مثل هذه الرواية سواء .

قال البلاذري وقال ابن الكلبي : إنَّ معاوية بن المغيرة جدع أنف حمزة يوم أُحد وهو قتيل ، فأُخِذ بقرب أُحد فقُتل على أُحد بعد انصراف قريش بثلاث ، ولا عقب له إلاَّ عائشة أُم عبد الملك بن مروان ، قال : ويقال : إنَّ عليّاً عليه السلام هوالذي قتل معاوية بن المغيرة  (3) .

قال ابن أبي الحديد : ورواية ابن الكلبي عندي أصح ، لأنَّ هزيمة المشركين كانت في الصدمة الأولى عقيب قتل بني عبد الدار أصحاب الألوية ، وكان قتل حمزة بعد ذلك لمَّا كرَّ خالد بن الوليد الخيل من وراء المسلمين ، فاختلطوا وانتقض صفُّهم وقتل بعضهم بعضاً ، فكيف يصحُّ أن يجتمع لمعاوية كونه قد جدع أنف حمزة وكونه قد انهزم مع المشركين في الصدمة الأولى ؟ ! هذا متناقض لأنَّه إذا كان قد انهزم في أوّل الحرب استحال أن يكون حاضراً عند حمزة حين قُتل ، والصحيح ما ذكره ابن الكلبي من أنَّه شهد الحرب كلَّها وجدع أنف حمزة ثمَّ حصل في أيدي المسلمين بعد انصراف قريش لأنَّه تأخَّر عنهم لعارض عرض له فأدركه حينه فقتل  (4) .

5 . قال ابن أبي الحديد : قال الواقدي : ولمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بدر صام يوماً أو يومين ، ثمَّ نادى مناديه : يا معشر العصاة إنِّي مفطر فافطروا وذلك أنَّه قد كان قال لهم قبل ذلك افطروا فلم يفعلوا .

قال ابن أبي الحديد : هذا هو سرُّ النبوة وخاصيتها ، إذا تأمَّل المتأمِّلون ذلك ، وهو أن يبلغ بهم حبُّه وطاعته وقبول قوله على أن يكلِّفهم ما يشقُّ عليهم فيمتثلوه امتثالاً صادراً عن حبّ شديد وحرص عظيم على الطاعة حتَّى أنَّه لينسخه عنهم ويسقط وجوبه عليهم ، فيكرهون ذلك ولا يسقطونه عن أنفسهم إلاَّ بعد الإنكار التام ، وهذا أحسن من المعجزات الخارقة للعادات ، بل هذا بعينه معجزة خارقة للعادة أقوى وآكد من شقِّ البحر وقلب العصا حية  (5) .

أقول : لقد أبعد ابن أبي الحديد النُّجعة في تحليله هذا ، وذلك لأنَّ قول رسول الله صلى الله عليه وآلهاؤلئك هم العصاة ، لم يترك مجالاً لحسن الظنِّ بهم ، ولهم نظراء في قصة صلح الحديبية حين عصوا أمر النبي صلى الله عليه وآله في الحلق ، وفي قصة حجِّ التمتع حين أمر من لم يَسُق الهدي معه أن يجعلها عمرة فعصوه وفَشَت القالة فيهم ، حتَّى أغضبوه صلى الله عليه وآله .

6 . قال الواقدي : ولمَّا نزل رسول الله صلى الله عليه وآله على القليب بُني له عريش من جريد ، فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشحاً سيفه ، فدخل النبي صلى الله عليه وآلهوأبو بكر .

قال ابن أبي الحديد : لأعجبُ من أمر العريش من أين كان لهم ؟ ! أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشاً وليس تلك الأرض (أعني أرض بدر) أرض نخل ، والذي كان معهم من سعف النخل يجري مجرى السلاح كان يسيراً جداً قيل أنَّه كان بأيدي سبعة منهم سعاف عوض السيوف ، والباقون كانوا بالسيوف والقسي وهذا قول شاذ والصحيح أنَّه ما خلا أحد منهم عن سلاح ، اللهم إلاَّ أن يكون معهم سعفات يسيرة وظلِّل عليها بثوب أو ستر ، وإلاَّ فلا أرى لبناء عريش من جريد النخل هناك وجهاً  (6) .

تعليقاته على أخبار تدلُّ على النصِّ على علي عليه السلام :

7 . قال ابن أبي الحديد : روى ابن عباس قال : خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته ، فانفرد يوماً وهو يسير على بعيره ، فاتبعته فقال لي : يا بن عباس أشكو إليك ابن عمِّك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ولم أزل أراه واجداً فيم تظنُّ موجدته ؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنَّك لتعلم ، قال : أظنُّه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة ، قلت : هو ذاك إنَّه يزعم أنَّ رسول الله أراد الأمر له ، فقال : يا بن عباس لو أراد رسول الله صلى الله عليه وآله الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك ؟ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله أراد أمراً وأراد الله غيره فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله أو كلَّما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله كان ؟ إنَّه أراد إسلام عمِّه ولم يرده الله فلم يسلم .

وقد روى معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ ، وهو قوله : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله أراد أن يذكره للأمر في مرضه ، فصددته عنه خوفاً من الفتنة وانتشار أمر الإسلام فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك وأبى الله إلاَّ إمضاء ما حتم .

قال ابن أبي الحديد : وحدَّثني الحسين بن محمد السيني قال : قرأت على ظهر كتاب : أنَّ عمر نزلت به نازلة فقام لها وقعد وترنَّح لها وتقطَّر وقال لمن عنده معشر الحاضرين : ما تقولون في هذا الأمر ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين أنت المفزع والمنزع ، فغضب وقال : (يا أيُّها الذين آمنوا اتَّقوا الله وقولوا قولاً سديداً) ثمَّ قال : أما والله إنِّي وإيَّاكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها قالوا : كأنَّك أردت ابن أبي طالب قال : وأنَّى يعدل بي عنه ! وهل طفحت حرَّة مثله ؟ ! قالوا : فلو دعوت به يا أمير المؤمنين قال : هيهات إنَّ هناك شمخاً من هاشم وأثرة من علم ولُحمة من رسول الله صلى الله عليه وآله يُؤتَى ولا يأتي فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه وأفضَوْا إليه فألفَوْه في حائط له عليه تُبَّان وهو يتركَّل  (7) على مسحاته ويقرأ : (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) إلى آخر السورة ودموعه تهمي  (8) على خديه ، فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثمَّ سكت وسكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة ، فأصدر جوابها فقال عمر : أما والله لقد أرادك الحقُّ ولكن أبى قومك ، فقال : يا أبا حفص خفِّض عليك من هنا ومن هنا ، إنَّ يوم الفصل كان ميقاتاً ، فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى وأطرق إلى الأرض وخرج كأنَّما ينظر في رماد .

قال ابن أبي الحديد : أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوعاً ، وفيه ما يدُل على ذلك من كون عمر أتى علياً يستفتيه في المسألة ، ، والأخبار كثيرة بأنَّه ما زال يدعوه إلى منـزله وإلى المسجد ، وأيضاً فإنَّ عليّاً لم يخاطب عمر منذ ولي الخلافة بالكنية ، وإنَّما كان يخاطبه بإمرة المؤمنين ، هكذا تنطق كتب الحديث وكتب السير والتواريخ كلُّها .

و أيضاً فإنَّ هذا الخبر لم يُسند إلى كتاب معيَّن ولا إلى راو معيَّن ، بل ذكر ذلك أنَّه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا والحديث المجهول غير الصحيح .

فأمَّا ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر وفي الروايات منه الكثير الواسع ولكنَّا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصَّة .

8 . وقد روي عن ابن عباس أيضاً قال : دخلت على عمر يوماً ، فقال : يا بن العباس لقد أجهد هذا الرَّجل نفسه في العبادة حتَّى نحلته رياءً قلت : من هو ؟ فقال : هذا ابن عمِّك يعني عليّاً قلت : وما يقصد بالرياء أمير المؤمنين ؟ قال : يرشِّح نفسه بين الناس للخلافة قلت : وما يصنع بالترشيح ؟ قد رشَّحه لها رسول الله صلى الله عليه وآله فصرفت عنه ، قال : إنَّه كان شاباً حدثاً فاستصغرت العرب سنَّه وقد كَمُل الآن ، ألم تعلم أنَّ الله تعالى لم يبعث نبياً إلاَّ بعد الأربعين ؟ قلت : يا أمير المؤمنين أمَّا أهل الحجى والنهى فإنَّهم ما زالوا يعدُّونه كاملاً منذ رفع الله منار الإسلام ولكنَّهم يعدُّونه محروماً مجدوداً ، فقال : أما إنَّه سيليها بعد هياط ومياط ثمَّ تزِلُّ فيها قدمه ولا يقضي منها إربه ولتكوننَّ شاهداً ذلك يا عبد الله ، ثمَّ يتبيَّن الصبح لذي عينين وتعلم العرب صحَّة رأي المهاجرين الأوَّلين الذين صرفوها عنه بادى بدء ، فليتني أراكم بعدي يا عبد الله إنَّ الحرص محرمة وإنَّ دنياك كظلِّك كلَّما هممت به ازداد عنك بعداً .

قال ابن أبي الحديد : نقلت هذا الخبر من أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب رحمه الله .

ونقلت منه أيضاً ما رواه عن ابن عباس قال : تبرَّم عمر بالخلافة في آخر أيّامه ، وخاف العجز وضجر من سياسة الرعيَّة ، فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه ، فقال لكعب الأحبار يوماً وأنا عنده : إنَّي قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر ، وأظنُّ وفاتي قد دنت فما تقول في علي عليه السلام أشر علىَّ في رأيك ، واذكرلي ما تجدونه عندكم ، فإنَّكم تزعمون أنَّ أمرنا هذا مسطور في كتبكم ، فقال : أمَّا من طريق الرأي فإنَّه لا يصلح إنَّه رجل متين الدين لا يغضي على عورة ولا يحلم عن زلَّة ولا يعمل باجتهاد رأيه وليس هذا من سياسة الرعيَّة في شيء ، وأمَّا ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر ولا ولده وإن وليه كان هرج شديد ، قال : كيف ذاك ؟ قال : لأنَّه أراق الدِّماء فحرمه الله الملك ، إنَّ داود لمَّا أراد أن يبني حيطان بيت المقدس ، أوحى الله إليه إنَّك لا تبنيه لأنَّك أرقت الدماء وإنَّما يبنيه سليمان ، فقال عمر : أليس بحقّ أراقها ؟ ! قال كعب : وداود بحقّ أراقها يا أمير المؤمنين ، قال : فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم ؟ قال : نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والإثنين من أصحابه إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه وحاربهم على الدِّين ، فاسترجع عمر مراراً وقال : أتستمع يا بن عباس أما والله لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ما يشابه هذا سمعته يقول : ليصعدنَّ بنو أُمية على منبري ولقد أريتهم في منامي ينـزون عليه نزو القردة وفيهم أُنزل (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاَّ فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) .

وقد روى الزبير بن بكار في الموفقيات ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة قال : قال لي عمر يوماً : يا مغيرة هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أُصيبت ؟ قلت : لا قال : أما والله ليعورنَّ بنو أُمية الإسلام كما أعورت عينك هذه ، ثمَّ ليعمينه حتَّى لا يدرى أين يذهب ولا أين يجى قلت : ثمَّ ماذا يا أمير المؤمنين ؟ قال : ثمَّ يبعث الله تعالى بعد مائة وأربعين أو بعد مائة وثلاثين وفداً كوفد الملوك ، طيبة ريحهم يعيدون إلى الإسلام بصره وشتاته ، قلت : من هم يا أمير المؤمنين ؟ قال : حجازي وعراقي وقليلاً ما كان وقليلاً ما دام .

وروى أبو بكر الأنبارى في أماليه أنَّ عليّاً عليه السلام جلس إلى عمر في المسجد ، وعنده ناس فلمَّا قام عرض واحد بذكره ونَسَبَهُ إلى التيه والعُجب ، فقال عمر : حقٌّ لمثله أن يتيه والله لولا سيفه لما قام عمود الإسلام وهو بعد أقضى الأُمَّة وذو سابقتها وذو شرفها ، فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه ؟ قال : كرهناه على حداثة السنِّ وحبِّه بني عبد المطلب .

قال ابن أبي الحديد : قلت : سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد وقد قرأت عليه هذه الأخبار ، فقلت له : ما أراها إلاَّ تكاد تكون دالَّة على النصِّ ولكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نصِّ رسول الله صلى الله عليه وآله على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على ردِّ نصِّهِ على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين .

فقال لي رحمه الله : أبيت إلاَّ ميلاً إلى المعتزلة .

ثمَّ قال : إنَّ القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى إنَّها من معالم الدين ، وإنَّها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة والصوم ، ولكنَّهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية ويذهبون لهذا مثل تأمير الأمراء ، وتدبير الحروب وسياسة الرعيَّة ، وما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه صلى الله عليه وآله إذا رأوا المصلحة في غيرها ..

ألا تراه كيف نصَّ على إخراج أبي بكر وعمر في جيش أُسامة ولم يخرجا لمَّا رأيا إنَّ في مقامهما مصلحة للدولة وللملَّة ، وحفظاً للبيضة ودفعاً للفتنة وقد كان رسول الله يُخالَف وهو حي في أمثال ذلك فلا ينكره ولا يرى به بأساً ...

وقد أطبقت الصَّحابة إطباقاً واحداً على ترك كثير من النصوص لمَّا رأوا المصلحة في ذلك كاسقاطهم سهم ذوي القربى ، وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم ... وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة وحوَّلوا المقام بمكة ، وعملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة ولم يقفوا مع موارد النصوص ، حتَّى اقتدى بهم الفقهاء من بعد ، فرجَّح كثير منهم القياس على النصِّ ، حتَّى استحالت الشريعة وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة ... إلى آخر كلامه .

قال ابن أبي الحديد : قد ذكرت في هذا الفصل خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر ، ولم يكن إمامي المذهب ولا كان يبرأ من السلف ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة ، ولكنَّه كلام أجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه على أنَّ العلوي لو كان كرامياً لا بدَّ أن يكون عنده نوع من تعصُّب وميل على الصحابة وإن قلَّ  (9) .

تعليقه على خبرين من أخبار الطبري :

9 . قال الطبري : وأُختلِف في تجهيزه صلى الله عليه وآله أي يوم كان ، فقيل يوم الثلاثاء الغد من وفاته ، وقيل إنَّما دُفِنَ بعد وفاته بثلاثة أيام اشتغل القوم عنه بأمر البيعة .

وقد روى الطبري ما يدُّل على ذلك عن زياد بن كليب عن إبراهيم النخعي : إنَّ أبا بكر جاء بعد ثلاث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقد اربَدَّ بطنه ، فكشف عن وجهه وقبَّل عينيه وقال : بأبي أنت وأُمي طبت حيّاً وطبت ميتاً .

قال ابن أبي الحديد : قلت وأنا أعجب من هذا ، هب أنَّ أبا بكر ومن معه اشتغلوا بأمر البيعة ، فعلي بن أبي طالب والعباس وأهل البيت بماذا اشتغلوا حتَّى يبقى النبي مسجَّى بينهم ثلاثة أيّام بلياليهن لا يغسِّلونه ولا يمسّونه ؟ .

فإن قلت الرواية التي رواها الطبري في حديث الأيّام الثلاثة إنَّما كانت قبل البيعة لأنَّ لفظ الخبر عن إبراهيم ، وأنَّه لمَّا قبض النبي صلى الله عليه وآله كان أبو بكر غائباً فجاء بعد ثلاث ولم يتجرأ أحد أن يكشف عن وجهه صلى الله عليه وآله حتَّى أربد بطنه فكشف عن وجهه وقبَّل عينيه وقال : بأبي أنت وأمي طبت حيّاً وطبت ميتاً ثمَّ خرج إلى الناس فقال : (من كان يعبد محمداً فإنَّ محمداً قد مات ...) الحديث بطوله .

قلت : لعمري إنَّ الرواية هكذا أوردها ولكنَّها مستحيلة ، لأنَّ أبا بكر فارق رسول الله صلى الله عليه وآله وهو حي ، ومضى إلى منزله بالسُّنح في يوم الإثنين وهو اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، لأنَّه رآه بارئاً صالح الحال ، هكذا روى الطبري في كتابه ، وبين السنح وبين المدينة نصف فرسخ ، بل هو طائفة من المدينة فكيف يبقى رسول الله صلى الله عليه وآله ميِّتاً يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء لا يعلم به أبو بكر وبينهما غلوة ثلاثة أسهم ؟ ! وكيف يبقى طريحاً بين أهله ثلاثة أيّام لا يجترى أحد منهم أن يكشف عن وجهه وفيهم علي بن أبي طالب عليه السلام وهو روحه بين جنبيه والعباس عمَّه القائم مقام أبيه وابنا فاطمة وهما كولديه وفيهم فاطمة عليها السلامبضعة منه ؟ ! أفما كان في هؤلاء من يكشف عن وجهه ولا من يفكِّر في جهازه ولا من يأنف له من انتفاخ بطنه واخضرارها وينتظر بذلك حضور أبي بكر ليكشف عن وجهه أنا لا أُصدِّق ذلك ولا يسكن قلبي إليه  (10) .

10 . قال ابن ابي الحديد : وأمَّا خبر الوزارة ، فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام ثمَّ ساق ابن أبي الحديد الخبر بتمامه وذكر قول النبي صلى الله عليه وآله لهم : هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع .

قال ابن أبي الحديد : ويدلُّ على أنَّه وزير رسول الله صلى الله عليه وآله من نصِّ الكتاب والسنَّة قول الله تعالى : (واجعل لي وزيراً من أهلى هارون اخى اشدد به ازرى واشركه في امرى) وقال النبي صلى الله عليه وآله في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي) . فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسى فإذن هو وزير رسول الله صلى الله عليه وآله وشادُّ أزره ولو لا أنَّه خاتم النبيين لكان شريكاً في أمره .

أقول :

بل معنى الوزير في اللغة هو : الشريك في الأمر وشادُّ الأزر وهو ما بيَّنته الآيات الآنفة الذكر وليس شاد الأزر فقط ، والأمر الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله هو الرسالة وعلي عليه السلام في ضوء ذلك شريك مع النبي في الرسالة بمعنى علمه بها وإن كان مصدره النبي إلاَّ أنَّه يستوي فيه مع النبي من حيث عدم النسيان وعدم الخطأ في التبليغ ، ومن هنا كان تبليغه له بقوة تبليغ النبي لها ، قال علي : (وأنا من رسول الله كالضوء من الضوء (وفي نسخة كالصنو من الصنو))(كالذراع من العضد) .

قال ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه السلام : شبَّه عليه السلام نفسه بالنسبة إلى رسول الله بالذراع الذي العضد أصله وأُسُّه ، والمراد من هذا التشبيه الإبانة عن شدَّة الامتزاج والاتحاد والقرب بينهما ، فإنَّ الضوء الثاني شبيه بالضوء الأوّل ، والذراع متصل بالعضد اتصالاً بيِّناً ، وهذه المنزلة قد أعطاه إيّاها رسول الله صلى الله عليه وآله في مقامات كثيرة ، نحو قوله في قصة براءة (قد أُمرت أن لا يؤدي عنِّي إلاَّ أنا أو رجل منِّي) وقوله : (لتنتهُنَّ يا بني وليعة أو لأبعثنَّ إليكم رجلاً منِّي أو قال : عديل نفسي) . وقد سمَّاه الكتاب العزيز نفسه فقال : (و نساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم) وقد قال له : لحمك مختلط بلحمي ودمك مسوط  (11) بدمي وشبرك  (12) وشبري واحد  (13) .

ردُّه على الشيعة في قصة الإفك :

11 . قال ابن أبي الحديد : وقُذفت عائشة بصفوان بن المعطل السلمي في سنة ست للهجرة منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله من غزاة بني المصطلق وكانت معه ، فقال فيها أهل الإفك ما قالوا ، ونزل القرآن ببراءتها .

وقوم من الشيعة زعموا أنَّ الآيات التي في سورة النور لم تنـزل فيها وإنَّما أُنزلت في مارية القبطية وما قُذِفت به مع الأسود القبطي وجحدهم لإنزال ذلك في عائشة جحد لما يعلم ضرورةً من الأخبار المتواترة  (14) .

أقول : روايات قذف عائشة بصفوان بن المعطل ونزول آيات الإفك لتبرئتها منحصرة بعائشة نفسها ، ومن ثمَّ فهي خبر واحد لا غير ومن ثم فليس ثمَّة تواتر في القضية ، مضافاً إلى أنَّ الباحثين قد أثبتوا كذب هذه الروايات وتهافتها وتناقضها بعضها مع بعض ومع الحقائق التاريخية الثابتة  (15) .

موقفه من أخبار إيمان أبي طالب :

12 . قال ابن أبي الحديد : واختلف الناس في إيمان أبي طالب ، فقالت الإمامية وأكثر الزيدية : ما مات إلاَّ مسلماً .

وقال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك ، منهم الشيخ أبو القاسم البلخي وأبو جعفر الإسكافي وغيرهما .

وقال : أكثر الناس من أهل الحديث والعامَّة من شيوخنا البصريين وغيرهم مات على دين قومه ويروون في ذلك حديثاً مشهوراً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال له عند موته : قل يا عم كلمةً أشهد لك بها غداً عند الله تعالى فقال : لولا أن تقول العرب : إنَّ أبا طالب جزع عند الموت لأقررتُ بها عينك .

وروي أنَّه قال : أنا على دين الأشياخ .

وقيل أنَّه قال : أنا على دين عبد المطلب وقيل غير ذلك .

وروى كثير من المحدِّثين أنَّ قوله تعالى : (مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) التوبة/الآية أُنزلت في أبي طالب لأنَّ رسول الله استغفر له بعد موته .

ورووا أنَّ قوله تعالى : (انك لا تهدي من احببت) نزلت في أبي طالب .

ورووا أنَّ عليّاً عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بعد موت أبي طالب فقال له : إنَّ عمَّك الضّال قد قضى فما الذي تأمرني فيه .

واحتجّوا بأنَّه لم ينقل أحد عنه أنَّه رآه يصلي والصلاة هي المفرِّقة بين المسلم والكافر وأنَّ عليّاً وجعفراً لم يأخذا من تركته شيئاً ، ورووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنَّه قال : أنَّ الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقِّي وأنَّه في ضحضاح من نار ، ورووا عنه أيضاً أنَّه قيل له لو استغفرت لأبيك وأُمَّك ، فقال : لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب فإنَّه صنع إلىَّ ما لم يصنعا وإنَّ عبد الله وآمنة وأبا طالب جمرات من جمرات جهنَّم .

فأمَّا الذين زعموا أنَّه كان مسلماً فقد رووا خلاف ذلك ، واحتجّوا بما روي عن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة : يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب ؟ فقال : أرجو له كلَّ خير من الله عزَّ وجلَّ .

وروي أنَّ رجلاً من رجال الشيعة وهو أبان بن محمود كتب إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام جعلت فداك إنِّي قد شككت في إسلام أبي طالب فكتب إليه : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) الآية وبعدها إنَّك إن لم تقرَّ بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار .

وقد روي عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنَّه سُئِل عمَّا يقوله الناس : إنَّ أبا طالب في ضحضاح من نار ، فقال : لو وُضِع إيمان أبي طالب في كفَّة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفَّة الأُخرى لرَجُحَ إيمانُه ثمَّ قال : ألم تعلموا أنَّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام كان يأمر أن يحجَّ عن عبد الله وأبيه أبي طالب في حياته ثمَّ أوصى في وصيته بالحجِّ عنهم .

وروي أنَّ علي بن الحسين عليه السلام سُئل عن هذا فقال : وا عجباً ! إنَّ الله تعالى نهى رسوله أن يُقِرَّ مسلمة على نكاح كافر ، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام ولم تزل تحت أبي طالب حتَّى مات .

ويروي قوم من الزيدية إنَّ أبا طالب أسند المحدِّثون عنه حديثاً ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله قال : سمعت أبا طالب يقول بمكة : حدَّثني محمد ابن أخي إنَّ ربَّهُ بعثه بصلة الرحم ، وأن يعبده وحده لا يعبد معه غيره ومحمد عندي الصادق الأمين .

وقالت الإمامية : إنَّ ما يرويه العامَّة من أنَّ عليّاً عليه السلام وجعفراً لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئاً ، حديث موضوع ومذهب أهل البيت بخلاف ذلك فإنَّ المسلم عندهم يرث الكافر ولا يرث الكافر المسلم ولو كان أعلى درجة منه في النَّسب .

وقالوا : وحبُّ رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي طالب معلوم مشهور ، ولو كان كافراً ما جاز له حبُّه لقوله تعالى : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله) الآية .

وقالوا : وقد اشتهر واستفاض الحديث وهو قوله صلى الله عليه وآله لعقيل : أنا أُحبُّك حبَّين حبّاً لك وحبّاً لحبِّ أبي طالب فإنَّه كان يحبُّك .

قالوا : وخطبة النكاح مشهورة خطبها أبو طالب عند نكاح محمد صلى الله عليه وآله خديجة وهي قوله : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوجاً وجعلنا الحكَّام على الناس ، ثمَّ إنَّ محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلاَّ رَجُحَ عليه برّاً وفضلاً وحزماً وعقلاً ورأياً ونبلاً وإن كان في المال قلَّ ، فإنَّما المال ظلٌّ زائلٌ وعارية مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك ، وما أحببتم من الصداق فعلىَّ وله والله بعد نبأ شائع وخطب جليل .

وقالوا : افتراه يعلم نبأه الشائع وخطبه الجليل ، ثمَّ يعانده ويكذِّبه ، وهو من أولي الألباب هذا غير سائغ في العقول .

وقالوا : وقد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهم السلام : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآلهقال : إنَّ أصحاب الكهف أسرُّوا الإيمان وأظهروا الكفر ، فآتاهم الله أجرهم مرَّتين وإنَّ أبا طالب أسرَّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره .

ثمَّ أورد ابن أبي الحديد جملة من أشعار أبي طالب في النبي صلى الله عليه وآله الدالّة على إيمانه .

قال ابن أبي الحديد : فأمَّا أنا فإنَّ الحال ملتبسة عندي والأخبار متعارضة والله أعلم بحقيقة حاله كيف كانت .

ثمَّ قال : ويقف في صدري رسالة النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن إلى المنصور وقوله فيها : فأنا ابن خير الأخيار وأنا ابن شرِّ الأشرار وأنا ابن سيِّد أهل الجنَّة وأنا ابن سيِّد أهل النار .

فإنَّ هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر ، وهو ابنه وغير متَّهم عليه وعهده قريب من عهد النبي صلى الله عليه وآله لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلاً  (16) .

أقول : هذا إذا صحَّت نسبة الرسالة إلى محمد وأنَّى لنا بذلك . والطبري لم يذكر لنا سندهامضافاً إلى أنَّ ما في رسالة المنصور الجوابية له من أمور يؤكد كون الرسالتين من الموضوعات ، ومن كاتب واحد وضعها في الفترة التي تلت قتل محمد وأخيه حيث كانت وجهة الإعلام العباسي زمن المنصور بعد فشل ثورة الحسنيين وقتلهما وجهة تسقيطية تشويهية للحسنيين بل للعلويين عامَّة .

ترجيحه لرواية أهل البيت عليهم السلام في تعيين قبر علي عليه السلام  :

13 . قال ابن أبي الحديد : وقبره (أي الامام علي) بالغري . وما يدَّعيه أصحاب الحديث من الاختلاف في قبره وأنَّه حُمِلَ إلى المدينة أو أنَّه دُفِنَ في رحبة الجامع أو عند باب قصر الإمارة أو نَدَّ  (17) البعير الذي حُمِل عليه فأخذته الأعراب ، باطل كلُّه لا حقيقة له وأولاده أعرف بقبره وأولاد كلِّ الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب وهذا القبر هو الذي زاره بنوه لمَّا قدموا العراق منهم جعفر بن محمد عليهم السلام وغيره من أكابرهم وأعيانهم .

وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بإسناد ذكره هناك : أنَّ الحسين عليه السلام لمَّا سئل : أين دفنتم أمير المؤمنين ؟ فقال : خرجنا به ليلاً من منزله بالكوفة ، حتَّى مررنا به على مسجد الأشعث حتَّى انتهينا به إلى الظَّهر بجنب الغري  (18) .

قال ابن أبي الحديد : قال أبو الفرج قال : حدَّثني أحمد بن عيسى قال : حدَّثنا الحسين بن نصر قال : حدَّثنا زيد بن المعدل عن يحيى بن شعيب عن أبي مخنف عن فضيل بن خديج عن الأسود الكندي والأجلح قالا : توفي علي عليه السلام وهو ابن أربع وستين سنة ، في عام أربعين من الهجرة ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت من شهر رمضان ، وولي غسله ابنه الحسن وعبد الله بن العباس وكفِّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ، وصلّى عليه ابنه الحسن فكبَّر عليه خمس تكبيرات ودفن بالرحبة مما يلي أبواب كندة عند صلاة الصبح . هذه رواية أبي مخنف .

قال أبو الفرج : وحدَّثني أحمد بن سعيد قال : حدَّثنا يحيى بن الحسن العلوي قال : حدَّثنا يعقوب بن زيد عن ابن أبي عمير عن الحسن بن علي الخلال عن جدِّه قال : قلت للحسين بن علي عليه السلام : أين دفنتم أمير المؤمنين عليه السلام ؟ قال : خرجنا به ليلاً من منزله حتَّى مررنا به على منزل الأشعث بن قيس ثمَّ خرجنا به إلى الظَّهر بجنب الغري .

قال ابن أبي الحديد : وهذه الرواية هي الحق وعليها العمل وقد قلنا فيما تقدَّم : إنَّ أبناء الناس أعرف بقبور آبائهم من غيرهم من الأجانب وهذا القبر الذي بالغري هوالذي كان بنو علي يزورونه قديماً وحديثاً ويقولون : هذا قبر أبينا لا يشك أحد في ذلك من الشيعة ولا من غيرهم ، أعني بني علي من ظهر الحسن والحسين وغيرهما من سلالته المتقدمين منهم والمتأخرين ما زاروا ولا وقفوا إلاَّ على هذا القبر بعينه .

و قد روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم وفاة أبي الغنائم محمد بن علي بن ميمون النرسي المعروف بـ (أُبَىّ) لجودة قراءته ، قال : توفي أبو الغنائم هذا في سنة عشر وخمسمائة ، وكان محدِّثاً من أهل الكوفة ثقة حافظاً وكان من قوَّام الليل ومن أهل السنَّة ، وكان يقول : ما بالكوفة من هو على مذهب أهل السنَّة وأصحاب الحديث غيري ، وكان يقول : مات بالكوفة ثلاثمائة صحابي ليس قبر أحد منهم معروفاً إلاَّ قبر أمير المؤمنين ، وهو هذا القبر الذي يزوره الناس ، وقال : جاء جعفر بن محمد وأبوه محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام إليه فزاراه ، ولم يكن إذ ذاك قبراً معروفاً ظاهراً وإنَّما كان به سرح عضاه حتَّى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهر القبر  (19) .

قال ابن أبي الحديد : وسألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة عمَّا ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه ، إنَّ قوماً يقولون : إنَّ هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغري هو قبر المغيرة بن شعبة ، فقال : غلطوا في ذلك ، قبر المغيرة وقبر زياد بالثوية من أرض الكوفة ، ونحن نعرفهما وننقل ذلك عن آبائنا وأجدادنا وأنشدني قول الشاعر يرثي زياداً وقد ذكره أبو تمَّام في الحماسة :

صلَّى الإله على قبر وطهَّره       عند الثوية يسفي فوقه المورُ

زفَّت إليه قريش نعش سيِّدها       فالحلم والجود فيه اليوم مقبورُ

أبا المغيرة والدنيا مفجعةٌ       وإنَّ من غرَّت الدنيا لمغرورُ

قد كان عندك للمعروف معرفةٌ       وكان عندك للمنكور تنكيرُ

وكنت تُغشى وتعطي المال من سِعَة       فاليوم قبرك أضحى وهو مهجور

والناس بعدك قد خفَّت حلومهم       كأنَّما نفخت فيه الأعاصيرُ

وسألت قطب الدين نقيب الطالبيين أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال : صدق من أخبرك ، نحن وأهلها كافَّة نعرف مقابر ثقيف إلى الثويَّة وهي إلى اليوم معروفةٌ ، وقبر المغيرة فيها إلاَّ أنَّها لا تعرف ، وقد ابتلعها السبخ وزبد الأرض وفورانها فطمست واختلط بعضها ببعض .

ثمَّ قال : إن شئت أن تتحقَّق أنَّ قبر المغيرة في مقابر ثقيف ، فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين ، والمح ما قاله في ترجمة المغيرة ، وأنَّه مدفون في مقابر ثقيف ، ويكفيك قول أبي الفرج فإنَّه الناقد البصير والطبيب الخبير ، فتصفَّحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور فوجدت الأمر كما قاله النقيب  (20) .

تأييده لرأي الشيعة في كون الأمير الأوّل في غزوة مؤتة هو جعفر بن أبي طالب :

14 . قال ابن أبي الحديد : اتَّفق المحدِّثون على أنَّ زيد بن حارثة كان هو الأمير الأوّل وأنكرت الشيعة ذلك وقالوا : كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأوَّل ، فإن قتل فزيد بن حارثة ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة ، ورووا في ذلك روايات ، وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم ، فمن ذلك ما رواه عن حسان بن ثابت وهو :

تأوبني ليل بيثرب اعسر       وهم اذا ما نوم الناس مسهر

لذكرى حبيب هيجت لي عبرة       سفوحا واسباب البكاء التذكر

بلى ان فقدان الحبيب بلية       وكم من كريم يبتلى ثمَّ يصبر

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا       بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد الله حين تتابعتوا       جميعا واسياف المنية تخطر

وكنا نرى في جعفر من محمد       وقارا وامرا حازما حين يامر

وما زال في الإسلام من آل هاشم       دعائم صدق لا ترام ومفخر

هم جبل الإسلام والناس حولهم       رضام إلى طور يطول ويقهر

بهاليل منهم جعفر وابن امه       علي ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهم       عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج الغماء من كل مأزق  (21)       عَماس اذا ما ضاق بالناس مصدر

هم اولياء الله انزل حكمه       عليهم وفيهم والكتاب المطهر

ومنها قول كعب بن مالك الانصارى من قصيدة اولها :

نام العيون ودمع عينك يهمل       سحّاً كما وكف الرباب المسبل

وجدا على النفر الذين تتابعوا       قتلى بمؤته اسندوا لم ينقلوا

ساروا امام المسلمين كانهم       طود يقودهم الهزبر المشبل

اذ يهتدون بجعفر ولوائه       قدام اولهم ونعم الاول

حتى تقوضت الصفوف وجعفر       حيث التقى جمع الغواة مجدل

فتغير القمر المنير لفقده والشمس       قد كسفت وكادت تأفل

قوم علا بنيانهم من هاشم       فرع أشم وسؤدد متأثل

قوم بهم عصم الإله عباده       وعليهم نزل الكتاب المنزل

فضلوا المعاشر عفة وتكرما       وتعمدت أخلاقهم من يجهل  (22)

تعليقاته على طرف من أخبار أبي حيان التوحيدي :

15 . قال ابن أبي الحديد : ثمَّ قال عليه السلام : (و أين ذو الشهادتين) : وهو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمي الأنصاري ، من بني خطمة من الأوس ، جعل رسول الله شهادته كشهادة رجلين لقصَّة مشهورة ، يكنَّى أبا عمارة شهد بدراً وما بعدها من المشاهد ، وكانت راية بني خطمة بيده يوم الفتح .

قال أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب وشهد صفين مع علي بن أبي طالب فلمَّا قُتل عمار قاتل حتَّى قُتل .

قال أبو عمر : وقد روي حديث مقتله بصفين من وجوه كثيرة ، ذكرناها في كتاب الاستيعاب عن ولد ولده وهو محمد بن عمارة بن خزيمة ذي الشهادتين وإنَّه كان يقول في صفين : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : (تقتل عمّاراً الفئة الباغية ثمَّ قاتل حتَّى قُتل) .

قال ابن أبي الحديد : ومن غريب ما وقعت عليه من العصبية القبيحة إنَّ أبا حيان التوحيدي قال في كتاب (البصائر) : إنَّ خزيمة بن ثابت المقتول مع علي عليه السلام بصفين ليس هو خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين بل آخر من الأنصار ، صحابي اسمه خزيمة بن ثابت . وهذا خطأ لأنَّ كتب الحديث والنسب تنطق بأنَّه لم يكن في الصحابة من الأنصار ولا من غير الأنصار خزيمة بن ثابت إلاَّ ذو الشهادتين ، وإنَّما الهوى لا دواء له على أنَّ الطبري  (23)صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول ، ومن كتابه نقل أبو حيان والكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه ، ثمَّ أيُّ حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثَّروا بخزيمة وأبي الهيثم وعمّار وغيرهم ؟ ! لو أنصف الناس هذا الرجل ورأوه بالعين الصحيحة لعلموا أنَّه لو كان وحده وحاربه الناس كلُّهم أجمعون لكان على الحقِّ وكانوا على الباطل  (24) .

16 . قال ابن أبي الحديد : وروى القاضي أبو حامد أحمد بن بشير المروروذي العامري فيما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي ، قال أبو حيان : سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد بدار ابن جيشان في شارع الماذيان ، فتصرَّف الحديث بنا كلَّ متصرَّف ... ، فجرى حديث السقيفة وتنازع القوم الخلافة ، فركِب كلٌّ منَّا فنّاً وقال قولاً وعرض بشيء ونزع إلى مذهب ، فقال أبو حامد : هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر إلى علي عليه السلام وجواب علي له ومبايعته إيّاه عقيب تلك الرسالة ؟ فقالت الجماعة لا والله ، فقال : هي والله من درر الحقائق المصونة ومخبَّآت الصناديق في الخزائن المحوطة ، ومنذ حفظتها ما رويتها إلاَّ للمهلبي في وزارته ، فكتبها عنِّي في خلوة بيده وقال : لا أعرف في الأرض رسالة أعقل منها ولا أبين ، وإنَّها لتدلُّ على علم وحكم وفصاحة وفقاهة في دين ودهاء وبعد غور وشدَّة غوص .

فقال له واحد من القوم : أيُّها القاضي فلو أتممت المنَّة علينا بروايتها سمعناها ورويناه عنك ، فنحن أوعى لها من المهلبي وأوجب ذماماً عليك .

فقال : هذه الرسالة رواها عيسى بن دأب عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن أبي عبيدة بن الجرَّاح .

قال أبو عبيدة : لمَّا استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين والأنصار ولحظ بعين الوقار والهيبة بعد هنة ، كاد الشيطان بها يُسَر ، فدفع الله شرَّها وأدحض عسرها فركد كيدها وتيسَّر خيرها وقصم ظهر النفاق والفسق بين أهلها ، بلغ أبا بكر عن علي عليه السلام تلكُّؤ وشماس وتهمهم ونفاس ، فكره أن يتمادى الحال وتبدو له العورة وتنفرج ذات البين ويصير ذلك دريئة لجاهل مغرور ... فحضرته وعنده عمر وحده ... فقال لي : يا أبا عبيدة ... إمض إلى علي واخفض جناحك له واغضض من صوتك عنده ... وقل له : ما هذا الذي تسوِّل لك نفسك ، ويدوي به قلبك ، ويلتوي عليه رأيك ويتخاوص دونه طرفك ويستشري به ضغنك ، ويترادَّ معه نفسك ، وتكثر لأجله صعداؤك ولا يفيض به لسانك ، أعجمة بعد إفصاح ، ألبساً بعد إيضاح ، أديناً غير دين الله ... ، إنَّك لجد عارف باستجابتنا لله ولرسوله وخروجنا من أوطاننا وأولادنا وأحبَّتنا هجرة إلى الله ونصرة لدينه في زمان أنت منه في كِنِّ الصِّبا وخدر الغرارة غافل تشبب وتربب لا تعي ما يشاد ويراد ولا تحصل ما يساق ويقاد سوى ما أنت جار عليه من أخلاق الصبيان أمثالك ، وسجايا الفتيان أشكالك ، حتَّى بلغت إلى غايتك هذه التي إليها أجريت ، وعندها حطَّ رحلك غير مجهول القدر ، ولا مجحود الفضل ، ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالاً تزيل الرواسي ، ونقاسي أهوالاً تشيب النواصي ، خائضين غمارها ، راكبين تيَّارها ، نتجرَّع صلبها ونشرج عيابها ونحكم أساسها ونبرم أمراسها والعيون تحدج بالحسد والأُنوف تعطس بالكبر والصدور تستعر بالغيظ والأعناق تتطاول بالفخر والأسنَّة تشحذ بالمكر والأرض تميد بالخوف لا ننتظر عند المساء صباحاً ولا عند الصباح مساءً ولا ندفع في نحر أمر إلاَّ بعد أن نحسو الموت دونه ولا نبلغ إلى شى إلاَّ بعد تجرُّع العذاب قبله ... هذا إلى خبيئات أسرار ومكنونات أخبار كنت عنها غافلاً ولولا سنُّك لم تك عن شى منها ناكلاً ... ولقد شاورني رسول الله صلى الله عليه وآله في الصهر ، فذكر فتياناً من قريش فقلت له : أين أنت من علي ؟ فقال : إنِّي لأكره لفاطمة ميعة شبابه وحدَّة سنَّه فقلت : متى كنفته يدك ورعته عينك حفَّت بهما البركة وأسبغت عليهما النعمة ... فقال علي عليه السلام : ما كان قعودي في كسر هذا البيت قصداً لخلاف ولا إنكاراً لمعروف ولا زراية على مسلم بل لما وقذني به رسول الله صلى الله عليه وآله من فراقه وأودعني من الحزن لفقده فإنِّي لم أشهد بعده مشهداً إلاَّ جدَّد علىَّ حزناً وذكرني شجناً وإنَّ الشوق إلى اللِّحاق به كاف عن الطمع في غيره ، وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه وأجمع ما تفرَّق منه رجاء ثواب ، معدٌّ لمن أخلص لله عمله وسلم لعلمه ومشيئته أمره على إنِّي أعلم أنَّ التظاهر على واقع ولي عن الحق الذي سيق إلى دافع وإذ قد أفعم الوادي لي وحشَّد النادي علىَّ فلا مرحباً بما ساء أحداً من المسلمين وفي النفس كلام لولا سابق قول وسالف عهد لشفيت غيظي بخنصري وبنصري وخضت لجته بأخمصي ومفرقي ولكنِّي ملجم إلى أن ألقى الله تعالى عنده أحتسب ما نزل بي وأنا غاد إن شاء الله إلى جماعتكم ومبايع لصاحبكم وصابر على ما ساءني وسرَّكم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وكان الله على كلِّ شى شهيداً ...

قال ابن أبي الحديد : الذي يغلب على ظنِّي إنَّ هذه المراسلات والمحاورات والكلام كلَّه مصنوع موضوع ، وإنَّه من كلام أبي حيان التوحيدي ، لأنَّه بكلامه ومذهبه في الخطابة والبلاغة أشبه ، وقد حفظنا كلام عمر ورسائله ، وكلام أبي بكر وخطبه ، فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب ، ولا يسلكان هذا السبيل ، في كلامهما وهذا كلام عليه أثر التوليد ، ليس يخفى وأين أبو بكر وعمر من البديع وصناعة المحدثين ؟ ! ومن تأمَّل كلام أبي حيان عرف أنَّ هذا الكلام من ذلك المعدن خرج ، ويدلُّ عليه أنَّه أسنده إلى القاضي أبي حامد ، المروروذي وهذه عادته في كتاب البصائر يسند إلى القاضي أبي حامد كلَّ ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه إذا كان كارهاً لأن يُنسب إليه وإنَّما ذكرناه نحن في هذا الكتاب لأنَّه وإن كان عندنا موضوعاً منحولاً ، فإنَّه صورة ما جرت عليه حال القوم ، فهم وإن لم ينطقوا به بلسان المقال فقد نطقوا به بلسان الحال .

وممَّا يوضح لك أنَّه مصنوع إنَّ المتكلمين على إختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث وكلِّ من صنَّف في علم الكلام والإمامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية ، ولقد كان المرتضى رحمه الله يلتقط من كلام أمير المؤمنين عليه السلاماللفظة الشاذَّة والكلمة المفردة الصادرة عنه عليه السلام في معرض التألُّم والتظلُّم فيحتجَّ بها ويعتمد عليها.

نحو قوله : (ما زلتُ مظلوماً مذ قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وآله حتَّى يوم الناس هذا) وقوله : (لقد ظُلِمْتُ عدد الحجر والمدر) .

وقوله : (فصبرت وفي الحلق شجا وفي العين قذى) .

وقوله : (اللهم إنِّي أستعديك على قريش ، فأنَّهم ظلموني حقِّي وغصبوني إرثي) .

وكان المرتضى إذا ظفر بكلمة من هذه فكأنَّما ظفر بملك الدُّنيا ، ويودعهاكتبه وتصانيفه فأين كان المرتضى عن هذا الحديث ؟ ! وهلاَّ ذكر في كتاب الشافي في الإمامة كلام أمير المؤمنين عليه السلام هذا ، وكذلك من قبله من الإمامية كابن النعمان وبني نوبخت وبني بابويه وغيرهم ، وكذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة وأصحاب الأخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا ، وأين كان أصحابنا عن كلام أبي بكر وعمر له عليه السلام ، وهلاَّ ذكره قاضي القضاة في المغني مع احتوائه على كلِّ ما جرى بينهم حتَّى إنَّه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير  (25) .

17 . قال ابن أبي الحديد : قرأت في كتاب صنَّفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ ، قال : نقلت من خطِّ الصولي ، قال الجاحظ : إنَّ العباس بن عبد المطلب أوصى علي بن أبي طالب عليه السلام في علَّته التي مات فيها ، فقال : أي بني إنِّي مشرف على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه ، وتجوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأُشير عليك به ولكنَّ العرق نبوض والرحم عروض وإذا قضيت حقَّ العمومة فلا أُبالي بعد ، إنَّ هذا الرجل (يعني عثمان) قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلاَّ مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلاَّ مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلَّة علم ولكن من قلَّة قبول ، ومع هذا كلِّه فالرأي الذي أودعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك وهمزك وغمزك ، فإنَّه لا يبدؤك ما لم تبدأه ، ولا يجيبك عمَّا لم يبلغه ، وأنت المتجنِّي وهو المتأنِّي ، وأنت العائب وهو الصامت ، فإن قلت : كيف هذا ؟ وقد جلس مجلساً أنا به أحق ، فقد قاربت ، ولكن ذاك بما كسبت يداك ونكص عنه عقباك ، لأنَّك بالأمس الأدنى هرولت إليهم تظنُّ أنَّهم يحلُّون جيدك ، ويختمون إصبعك ، ويطئون عقبك ، ويرون الرُّشد بك ، ويقولون : لابدَّ لنا منك ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمِّك في البيداء يتدهده في السافياء ، خذ بأحزم ممَّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارِ هذا الرجل ولا تمارِهِ ولا يبلغنَّه عنك ما يحنقه عليك ، فإنَّه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر إلاَّ ضراراً ولم تستلج إلاَّ عثاراً ، وأعرف من هو بالشام له ، ومن هاهنا حوله من يطيع أمره ، ويمتثل قوله ، لا تغترَّ بالناس يطيفون بك ويدَّعون الحنو عليك والحبَّ لك ، فإنَّهم بين مولى جاهل وصاحب متمن وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظنَّ الناس بك ما تظنُّ بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى الله عليه وآله فات ، ثمَّ حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله فلم يتمَّ ، وتصديت له مرَّة بعد مرَّة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غلب ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبَّتك ، ووجدت عنده من ذلك ظنِّي به لك ، لا توتر قوسك إلاَّ بعد الثقة بها ، وإذا أعجبتك فانظر إلى سيتها ، ثمَّ لا تفوق إلاَّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلاَّ لتصيب الرَّمية ، وانظر لا تطرف يمينك عينك ولا تجن شمالك شينك ودعني بآيات من آخر سورة الكهف وقم إذا بدا لك  (26)  (27) .

أقول :

أبو حيان التوحيدي ليس ثقة فيما ينفرد به وهذه الرسالة من وضعه وتأليفه ، هذا مضافاً إلى أنَّ دخول علي عليه السلام في أهل الشورى لم يكن عن إختياره بل كان مكرهاً عليه لكي تُخلَق الأنداد لعلي عليه السلام من جهة ولكي يُضمَن منه أن يبايع لعثمان ومن ثمَّ لا يتحرَّك لنقض بيعته كما تحرَّك بالأمس لنقض بيعة أبي بكر وإذا لم يكن قد يتيسر له أنصار آنذاك فالأمر هنا محتمل جداً .

بعض مناقشاته مع السيد المرتضى :

18 . قال ابن أبي الحديد : الطعن السابع : قصة خالد بن الوليد وقتله مالك بن نويرة ومضاجعته امرأته من ليلته وإنَّ أبا بكر ترك إقامة الحدِّ عليه وزعم أنَّه سيف من سيوف الله سلَّه الله على أعدائه مع أنَّ الله تعالى قد أوجب القوَد وحدَّ الزنا عموماً وإنَّ عمر نبَّهه وقال له : اقتله فإنَّه قتل مسلماً .

أجاب قاضي القضاة فقال : إنَّ شيخنا أبا علي قال : إنَّ الردَّة ظهرت من مالك بن نويرة لأنَّه جاء في الأخبار أنَّه ردَّ صدقات قومه عليهم لمَّا بلغه موت رسول الله صلى الله عليه وآله كما فعله سائر أهل الردَّة فاستحق القتل فإن قال قائل : فقد كان يصلي قيل له : وكذلك سائر أهل الردَّة وإنَّما كفروا بالامتناع من الزكاة واعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره فإن قيل : فلم أنكر عمر قيل : كان الأمر إلى أبي بكر فلا وجه لإنكار عمر وقد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر فإن قيل : فما معنى ما روي عن أبي بكر من أنَّ خالداً تأوَّل فأخطأ قيل : أراد عجلته عليه بالقتل وقد كان الواجب عنده على خالد أن يتوقَّف للشبهة واستدل أبو علي على ردَّته بأنَّ أخاه متمِّم بن نويرة لمَّا أنشد عمر مرثيته أخاه قال له : وددت أنِّي أقول الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك فقال متمِّم : لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك ما رثيته فقال عمر ما عزَّاني أحد بمثل تعزيتك فدلَّ هذا على أنَّ مالكاً لم يقتل على الإسلام كما قتل زيد .

وأجاب عن تزويج خالد بامرأته بأنَّه إذا قتل على الردَّة في دار الكفر جاز تزويج امرأته عند كثير من أهل العلم وإن كان لا يجوز أن يطأها إلاَّ بعد الاستبراء .

وحكي عن أبي علي أنَّه إنَّما قتله لأنَّه ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله فقال صاحبك وأوهم بذلك أنَّه ليس بصاحب له وكان عنده أنَّ ذلك رِدَّة وعلم عند المشاهدة المقصد وهو أمير القوم فجاز أن يقتله وإن كان الأولى ألاَّ يستعجل وأن يكشف الأمر في ردَّته حتَّى يتَّضح فلهذا لم يقتله أبو بكر به فأمَّا وطؤه لامرأته فلم يثبت فلا يصحُّ أن يجعل طعناًفيه .

اعترض المرتضى : فقال : أمَّا منع خالد في قتل مالك بن نويرة واستباحة امرأته وأمواله لنسبته إيّاه إلى ردَّة لم تظهر منه بل كان الظاهر خلافها من الإسلام فعظيم ويجري مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره ولم يُقِم فيه حكم الله تعالى وأقرَّه على الخطأ الذي شهد هو به على نفسه ويجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها ولم يتصفَّح ما روي من الأخبار في هذا الباب وتعصَّب لأسلافه ومذهبه وكيف يجوز عند خصومنا على مالك وأصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة وهما جميعاً في قرن لأنَّ العلم الضروري بأنَّهما من دينه صلى الله عليه وآله وشريعته على حدّ واحد وهل نسبة مالك إلى الردَّة مع ما ذكرناه إلاَّ قدح في الأصول ونقض لما تضمَّنته من أنَّ الزكاة معلومة ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وأعجب من كلِّ عجيب قوله وكذلك سائر أهل الردَّة يعني أنَّهم كانوا يصلّون ويجحدون الزكاة لأنَّا قد بيَّنا أنَّ ذلك مستحيل غير ممكن وكيف يصح ذلك وقد روى جميع أهل النَّقل أنَّ أبا بكر لمَّا وصَّى الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذِّنوا ويقيموا فإن أذَّن القوم كأذانهم وإقامتهم كفُّوا عنهم وإن لم يفعلوا أغاروا عليهم فجعل أمارة الإسلام والبراءة من الردَّة الأذان والإقامة وكيف يطلق في سائر أهل الردَّة ما أطلقه من أنَّهم كانوا يصلّون وقد علمنا أنَّ أصحاب مسيلمة وطليحة وغيرهما ممَّن كان ادّعى النبوة وخلع الشريعة ما كانوا يرون الصلاة ولا شيئاً ممَّا جاءت به شريعتنا وقصة مالك معروفة عند من تأمَّل كتب السير والنَّقل لأنَّه كان على صدقات قومه بني يربوع والياً من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله ولمَّا بلغته وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله أمسك عن أخذ الصَّدقة من قومه وقال لهم : تربَّصوا بها حتَّى يقوم قائم بعد النبي صلى الله عليه وآله وننظر ما يكون من أمره وقد صرَّح بذلك في شعره حيث يقول :

وقال رجال سدد اليوم مالك       وقال رجال مالك لم يسدد

فقلت دعوني لا أبا لأبيكم       فلم أُخطِ رأيا في المقام ولا الندي

وقلت خذوا أموالكم غير خائف       ولا ناظر فيما يجى به غدي

فدونكموها انما هي مالكم       مصورة أخلاقها لم تجدد

سأجعل نفسي دون ما تحذرونه       وأرهنكم يوما بما قلته يدي

فان قام بالأمر المجدد قائم       أطعنا وقلنا الدين دين محمد

فصرَّح كما ترى أنَّه استبقى الصَّدقة في أيدي قومه رفقاً بهم وتقرُّباً إليهم إلى أن يقوم بالأمر من يُدفَع ذلك إليه .

وقد روى جماعة من أهل السير وذكره الطبري في تاريخه أنَّ مالكاً نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات وفرَّقهم وقال : يا بني يربوع إنَّا كنَّا قد عصينا أُمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين وبطَّأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح وإنِّي قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتَّى لهؤلاء القوم بغير سياسة وإذا أمر لا يسوسه الناس فإيَّاكم ومعاداة قوم يصنع لهم فتفرَّقوا على ذلك إلى أموالهم .

ورجع مالك إلى منزلة فلمَّا قدم خالد البطاح بثَّ السَّرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكلِّ من لم يجب وأمرهم إن امتنع أن يقاتلوه فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع واختلف السريَّة في أمرهم وفي السريَّة أبو قتادة الحارث بن ربعي فكان ممَّن شهد أنَّهم أذَّنوا وأقاموا وصلُّوا فلما أختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا وكانت ليلة باردة لا يقوم لها شى فأمر خالد منادياً ينادي ادفئوا أُسراءكم فظنُّوا أنَّهم أُمروا بقتلهم لأنَّ هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل فقتل ضرار بن الأزور مالكاً وتزوَّج خالد زوجته أُمَّ تميم بنت المنهال .

وفي خبر آخر أنَّ السريَّة التي بعث بها خالد لمَّا غشيت القوم تحت الليل راعوهم فأخذ القوم السلاح قال : فقلنا إنَّا المسلمون فقالوا : ونحن المسلمون قلنا : فما بال السلاح معكم قلنا : فضعوا السلاح فلمَّا وضعوا السلاح ربطوا أُسارى فأتوا بهم خالداً فحدَّث أبو قتادة خالد بن الوليد إنَّ القوم نادوا بالإسلام وإنَّ لهم أماناً فلم يلتفت خالد إلى قولهم وأمر بقتلهم وقسَّم سبيهم وحلف أبو قتادة ألاَّ يسير تحت لواء خالد في جيش أبداً وركب فرسه شادّاً إلى أبي بكر فأخبره الخبر وقال له : إنِّي نهيت خالداً عن قتله فلم يقبل قولي وأخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم وإنَّ عمر لمَّا سمع ذلك تكلَّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال : إنَّ القصاص قد وجب عليه ولمَّا أقبل خالد بن الوليد قافلاً دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجراً بعمامة له قد غرز في عمامته أسهماً فلمَّا دخل المسجد قام إليه عمر فنـزع الأسهم عن رأسه فحطمها ثمَّ قال له : يا عدوَّ نفسه أعدوت على أمرى مسلم فقتلته ثمَّ نزوت على امرأته والله لنرجمنك بأحجارك وخالد لا يكلِّمه ولا يظنُّ إلاَّ أنَّ رأي أبي بكر مثل رأيه حتَّى دخل إلى أبي بكر واعتذر إليه بعذره وتجاوز عنه فخرج خالد وعمر جالس في المسجد فقال : هلمَّ إلىَّ يا بن أُمِّ شملة فعرف عمر أنَّ أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلِّمه ودخل بيته .

وقد روي أيضاً : إنَّ عمر لمَّا ولي جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم واسترجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم وأولادهم ونسائهم فردَّ ذلك عليهم جميعاً مع نصيبه كان منهم وقيل : أنَّه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق وبعضهنَّ حوامل فردَّهنَّ على أزواجهنَّ فالأمر ظاهر في خطأ خالد وخطأ من تجاوز عنه وقول صاحب الكتاب : إنَّه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لأبي بكر ليس بشى لأنَّ الأمر في قصَّة خالد لم يكن مشتبهاً بل كان مشاهداً معلوماً لكلِّ من حضره وما تأوَّل به في القتل لا يعذر لأجله وما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأوِّل ولا غيره ولا تلافى خطأه وزلله وكونه سيفاً من سيوف الله على ما إدَّعاه لا يسقط عنه الأحكام ويبرئه من الآثام .

وأمَّا قول متمِّم : (لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته) لا يدلُّ على أنَّه كان مرتداً فكيف يظنُّ عاقل أنَّ متمماً يعترف بردَّة أخيه وهو يطالب أبا بكر بدمه والاقتصاص من قاتليه وردِّ سبيه وأنَّه أراد في الجملة التقرُّب إلى عمر بتقريظ أخيه ثمَّ لو كان ظاهر هذا القول كباطنه لكان إنَّما يقصد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك والحال في ذلك أظهر لأنَّ زيداً قُتِلَ في بعث المسلمين ذابّاً عن وجوههم ومالك قُتِلَ على شبهة وبين الأمرين فرق .

وأمَّا قوله في النبي صلى الله عليه وآله : (صاحبك) فقد قال أهل العلم : إنَّه أراد القرشية لأنَّ خالداً قرشي وبعد فليس في ظاهر أضافته إليه دلالة على نفيه له عن نفسه ولو كان علم من مقصده الاستخفاف والإهانة على ما إدَّعاه صاحب الكتاب لوجب أن يعتذر خالد بذلك عند أبي بكر وعمر ويعتذر به أبو بكر لمَّا طالبه عمر بقتله فإنَّ عمر ما كان يمنع من قتل قادح في نبوَّة النبي صلى الله عليه وآله وإن كان الأمر على ذلك فأىِّ معنى لقول أبي بكر تأوَّل فأخطأ وإنَّما تأوَّل فأصاب إن كان الأمر على ما ذكر .

قال ابن أبي الحديد : أمَّا تعجُّب المرتضى من كون قوم منعوا الزكاة وأقاموا على الصلاة ودعواه أنَّ هذا غير ممكن ولا صحيح فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك ...

فأمَّا الوقوع فهو المعلوم ضرورة بالتواتر كالعلم بأنَّ أبا بكر ولي الخلافة بعد الرسول ضرورة بطريق التواتر ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر في كتب التواريخ فإنَّها تشتمل من ذلك على ما يشفي ويكفي .

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير باسناد ذكره : إنَّ أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وتوجيهه أُسامة في جيشه إلى حيث قُتِلَ أبوه (زيد بن حارثة) لم يحدث شيئاً وجاءته وفود العرب مرتدِّين يقرُّون بالصلاة ويمنعون الصدقة فلم يقبل منهم وردَّهم وأقام حتَّى قدم أُسامة بعد أربعين يوماً من شخوصه ويقال بعد سبعين يوماً .

وروى أبو جعفر قال : امتنعت العرب قاطبة من أداء الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله إلاَّ قريشاً وثقيفاً  (28) .

وروى أبو جعفر عن السري عن شعيب عن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال : ارتدَّت العرب ومنعت الزكاة إلاَّ قريشاً وثقيفاً فأمَّا هوازن فقدَّمت رجلاً وأخَّرت أُخرى أمسكوا الصدقة  (29) .

وروى أبو جعفر قال : لمَّا منعت العرب الزكاة كان أبو بكر ينتظر قدوم أُسامة بالجيش فلم يحارب أحداً قبل قدومه إلاَّ عبساً وذبيان فإنَّه قاتلهم قبل رجوع أُسامة  (30) .

وروى أبو جعفر قال : قدمت وفود من قبائل العرب المدينة فنزلوا على وجوه الناس بها ويحملونهم إلى أبي بكر أن يقيموا الصلاة وألاَّ يؤتوا الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال : لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم عليه  (31) .

وروى أبو جعفر شعراً للخطيل بن أوس أخي الحطيئة في معنى منع الزكاة وإنَّ أبا بكر ردَّ سؤال العرب ولم يجبهم من جملته .

أطعنا رسول الله ما كان بيننا       فيا لعباد الله ما لأبي بكر

أيورثها بكراً إذا مات بعده       وتلك لعمر الله قاصمة الظهر

فهلاَّ رددتم وفدنا بزمانه       وهلاَّ حسَّ راغية البكر

فإنَّ التي سألوكم فمنعتم       لكالتمر أو أحلى الىَّ من التمر  (32)

وروى أبو جعفر قال : لمَّا قدمت العرب المدينة على أبي بكر فكلَّموه في إسقاط الزكاة نزلوا على وجوه الناس بالمدينة فلم يبق أحد إلاَّ ونزل عليه ناساً منهم إلاَّ العباس بن عبد المطلب ثمَّ اجتمع إلى أبي بكر المسلمون فخوَّفوه بأس العرب وإجتماعها قال ضرار بن الأزور : فما رأيت أحداً ليس رسول الله أملأ بحرب شعواء من أبي بكر فجعلنا نخوِّفه ونروِّعه وكأنَّما نخبره بما له لا ما عليه واجتمعت كلمة المسلمين على إجابة العرب إلى ما طلبت وأبى أبو بكر أن يفعل إلاَّ ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وأن يأخذ إلاَّ ما كان يأخذ ثمَّ أجَّلهم يوماً وليلة ثمَّ أمرهم بالانصراف وطاروا إلى عشائرهم  (33) .

و روى أبو جعفر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله بعث عمرو بن العاص إلى عمان قبل موته فمات وهو بعمان فأقبل قافلاً إلى المدينة فوجد العرب قد منعت الزكاة فنزل في بني عامر على قرَّة بن هبيرة وقرَّة يقدِّم رجلاً ويؤخِّر أُخرى وعلى ذلك بنو عامر كلُّهم إلاَّ الخواص ثمَّ قدم المدينة فأطافت به قريش فأخبرهم إنَّ العساكر معسكرة حولهم فتفرَّق المسلمون وتحلَّقوا حلقاً وأقبل عمر بن الخطاب فمرَّ بحلقة وهم يتحدَّثون فيما سمعوا من عمرو وفي تلك الحلقة علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد فلمَّا دنا عمر منهم سكتوا فقال : في أي شى أنتم فلم يخبروه فقال : ما أعلمني بالذي خلوتم عليه فغضب طلحة وقال : الله يا بن الخطاب إنَّك لتعلم الغيب فقال : لا يعلم الغيب إلاَّ الله ولكن أظنُّ قلتم ما أخوفنا على قريش من العرب وأخلقهم ألاَّ يقرُّو ا بهذا الأمر قالوا : صدقت فقال : فلا تخافوا هذه المنزلة إنَّا والله منكم على العرب أخوف منِّي عليكم من العرب  (34) .

قال أبو جعفر وحدَّثني السري قال : حدَّثنا شعيب عن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال : نزل عمرو بن العاص بمنصرفه من عمان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بقرة بن هبيرة بن سلمة بن يسير وحوله عساكر من أفنائهم فذبح له وأكرم منزلته فلمَّا أراد الرحلة خلا به وقال : يا هذا إنَّ العرب لا تطيب لكم أنفساً بالأتاوة فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع وتطيع وإن أبيتم فإنَّها تجتمع عليكم فقال عمرو : أتوعدنا بالعرب وتخوِّفنا بها موعدنا حفش أمِّك أما والله لأُوطئنَّه عليك الخيل وقدم على أبي بكر والمسلمين فاخبرهم  (35) .

وروى أبو جعفر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد فرَّق عمّاله في بني تميم على قبض الصدقات فجعل الزبرقان بن بدر على عوف والرباب وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بني عمرو ومالك بن نويرة على بني حنظلة فلمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وآله ضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي صلى الله عليه وآلهبصدقات بني عمرو وبما ولي منها وما ولي سبرة وأقام سبرة في قومه لحدث إن ناب وأطرق قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع فكان له عدوّاً وقال وهو ينتظره وينتظر ما يصنع : ويلي عليه ما أدري ما أصنع إن أنا بايعت أبا بكر وأتيته بصدقات قومي خلَّفني فيهم فساءني عندهم وإن رددتها عليهم فليأتينَّ أبا بكر فيسوءني عنده ثمَّ عزم قيس على قسمتها في مقاعس والبطون ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء فأتبع صفوان بصدقات عوف والرباب حتَّى قدم بها المدينة وقال شعراً يعرِّض فيه بقيس بن عاصم ومن جملته :

وفيت بأذواد الرسول وقد أبت       سعاة فلم يردد بعيراً أميرها

فلمَّا أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة فأتاه بها وقدم معه إلى المدينه  (36) .

وفي تاريخ أبي جعفر الطبري من هذا الكثير الواسع وكذلك في تاريخ غيره من التواريخ وهذا أمر معلوم باضطرار لا يجوز لأحد أن يخالف فيه .

فأمَّا قوله : (كيف يصحُّ ذلك وقد قال لهم أبو بكر : إذا أذَّنوا وأقاموا كأذانكم وإقامتكم فكفُّوا عنهم فجعل أمارة الإسلام والبراءة من الردَّة الأذان والإقامة) .

فإنَّه قد أسقط بعض الخبر .

قال أبو جعفر الطبري في كتابه : كانت وصيته لهم : إذا نزلتم فأذِّنوا وأقيموا فإن أذَّن القوم وأقاموا فكفُّوا عنهم فإن لم يفعلوا فلا شى إلاَّ الغارة ثمَّ اُقتلوهم كلَّ قتلة ، الحرق فما سواه وإن أجابوا داعية الإسلام فاسألوهم فإن أقرُّوا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوا فلا شى إلاَّ الغارة ولا كلمة  (37) .

فأمَّا قوله : (و كيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردَّة ما أطلقه من أنَّهم كانوا يصلُّون ومن جملتهم أصحاب مسيلمة وطلحة)

فإنَّما أراد قاضي القضاة بأهل الردَّة هاهنا مانعي الزكاة لا غير ولم يرد من جحد الإسلام بالكلية .

فأمَّا قصَّة مالك بن نويرة وخالد بن الوليد فإنَّها مشتبهة عندي ولا غروَ فقد اشتبهت على الصحابة وذلك إنَّ من حضرها من العرب اختلفوا في حال القوم هل كان عليهم شعار الإسلام أو لا واختلف أبو بكر وعمر في خالد مع شدَّة اتفاقهما فأمَّا الشعرالذي رواه المرتضى لمالك بن نويرة فهو معروف إلاَّ البيت الأخير فإنَّه غير معروف وعليه عمدة المرتضى في هذا المقام وما ذكره بعد من قصَّة القوم صحيح كلُّه مطابق لما في التواريخ إلاَّ مويضعات يسيرة .

منها : قوله إنَّ مالكاً نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات فإنَّ ذلك غير منقول وإنَّما المنقول أنَّه نهى قومه عن الاجتماع في موضع واحد وأمرهم أن يتفرقوا في مياههم ذكر ذلك الطبري  (38) ولم يذكر نهيه إيّاهم عن الاجتماع على منع الصَّدقة وقال الطبري  (39) : إنَّ مالكاً تردَّد في أمره هل يحمل الصَّدقات أم لا فجاءه خالد وهو متحيِّر سبح .

ومنها : أنَّ الطبري  (40) ذكر : أنَّ ضرار بن الأزور قتل مالكاً عن غير أمر خالد وإنَّ خالداً لمَّا سمع الواعية خرج وقد فرغوا منهم فقال : إذا أراد الله أمراً أصابه ، قال الطبري : وغضب أبو قتاده : لذلك وقال لخالد : هذا عملك وفارقه وأتى أبا بكر فأخبره فغضب عليه أبو بكر حتَّى كلَّمه فيه عمر فلم يرض إلاَّ أن يرجع إلى خالد فرجع إليه حتَّى قدم معه المدينة .

ومنها : أنَّ الطبري  (41) روى : أنَّ خالداً لمَّا تزوَّج أًم تميم بنت المنهال امرأة مالك لم يدخل بها وتركها حتَّى تقضي طهرها ولم يذكر المرتضى ذلك .

ومنها : أنَّ الطبري  (42) روى : أنَّ متمماً لمَّا قدم المدينة طلب إلى أبي بكر في سبيهم فكتب له بردِّ السبي والمرتضى ذكر : أنَّه لم يُرَدَّ إلاَّ في خلافة عمر .

فأمَّا قول المرتضى : (إنَّ قول متمِّم : لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته) لا يدلُّ على ردَّته فصحيح ولا ريب أنَّه قصد تقريظ زيد بن الخطَّاب وأن يرضى عمر أخاه بذلك ونعمّا قال المرتضى : إنَّ بين القتلتين فرقاً ظاهراً وإليه أشار متمِّم لا محالة .

فأمَّا قول مالك : صاحبك يعني النبي صلى الله عليه وآله فقد روى هذه اللفظة الطبري في التاريخ  (43)عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق قال : كان خالد يعتذر عن قتله فيقول : إنَّه قال له وهو يراجعه ما أخال صاحبكم إلاَّ قال كذا وكذا فقال له خالد : أوما تعدُّه لك صاحباً وهذه لعمري كلمة جافية وإن كان لها مخرج في التأويل إلاَّ أنَّه مستكره وقرائن الأحوال يعرفها من شاهدها وسمعها فإذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك فقد اندفع قول المرتضى : هلاَّ اعتذر بذلك ولست أنزه خالداً عن الخطأ وأعلم أنَّه كان جباراً فاتكاً لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه ولقد وقع منه في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله مع بني جذيمة بالغميصاء أعظم ممَّا وقع منه في حقِّ مالك بن نويرة وعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن غضب عليه مدَّةً وأعرض عنه وذلك العفو هو الذي أطمعه حتَّى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح  (44) .

أقول : الروايات التي أوردها ابن أبي الحديد للردِّ على السيد المرتضى كلَّها من طريق سيف بن عمر التميمي الكذَّاب، ما عدا الرواية الأولى التي أوردها الطبري عن أبي زيد عمر بن شبة عن علي بن محمد (المدائني) عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء  (45) .

من مشيختهم  (46) ، ثم ان غسان مجهول  (47)، ويزيد كذَّاب  (48)، وأبي معشر  (49) اختلط قبل سنتين من وفاته ، والمدائني روى عنه في وقت اختلاطه ، أمَّا جويرية: فقد وثَّقوه ، ولكنَّنا لانعرف مشيخته ، وإذا أغضينا الطرف عن ذلك فالرواية خبر واحد ، فمن أين حصل التواتر الذي ادَّعاه ابن أبي الحديد لقضية مجى القبائل تقرُّ بالصلاة وتمتنع عن الزكاة ؟ .

______________________

(1) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة 14/266 .

(2) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج15/22-25 .

(3) البلاذري : أنساب الأشراف 1/337-338 .

(4) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج15/45-48 .

(5) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج13/111 .

(6) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج14 ص118 .

(7) يتركَّل : أي يضرب برجل على مسحاته .

(8) همت عينه هَميا وهُميا وهَميانا : سال دمعها .

(9) نفس المصدر ج12/78-90 .

(10) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج13/35-37 .

(11) السوط  : خلط الشى بعضه ببعض  .

(12) الشبر : العطية والخير.

(13) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج16/291 .

(14) نفس المصدر ج14/23 .

(15) العلامة العسكري : احاديث ام المؤمنين عائشة ج2 ، والعلامة السيد جعفر مرتضى العاملي : حديث الإفك .

(16) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج14/65-82 ملخَّصة .

(17) ند البعير : شرد .

(18) نفس المصدر ج1/16 .

(19) انظر ابن الجوزي : المنتظم 9/189 .

(20) نفس المصدر ج6/121-124 .

(21) يقال ليلٌ عَماسَ : أي مظلم .

(22) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج15 /62-64 .

(23) أقول: روى الطبري في تاريخه ج4/447 خبرين عن خزيمة بن ثابت المقتول بصفين ، بأنه ليس هو ذا الشهادتين وكلاهما عن طريق سيف بن عمر التميمى الوضاع المشهور ، وقد ترجم العلامة العسكري في كتابه خمسين مأة صحابي مختلق لخزيمة المختلق هذا ضمن الصحابة المختلقين .

(24) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج10/108-110 .

(25) نفس المصدر ج10/271-287 .

(26) قال ابن أبي الحديد : الناس يستحسنون رأي العباس لعلي عليه السلام في أَلاَّ يدخل في أصحاب الشورى ، وأمَّا انا فاني أستحسنه ان قصد به معنى ، ولا استحسنه ان قصد به معنى آخر . وذلك لأنه إن أجرى بهذا الراي إلى ترفعه عليهم وعلو قدره عن ان يكون مماثلا لهم أو اجرى به إلى زهده في الاماره ورغبته عن الولايه ، فكل هذا راى حسن وصواب . وان كان منزعه في ذلك إلى انك ان تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض اموالك ، فانهم يطلبونك ويضربون اليك آباط الابل حتَّى يولوك الخلافة وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ، لأنه لو فعل ذلك لولوا عثمان أو واحدا منهم غيره ولم يكن عندهم من الرغبة فيه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه بل كان تأخره عنهم قرة أعينهم وواقعا بإيثارهم فإنَّ قريشا كلها كانت تبغضه اشد البغض ولو عمَّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة والمناشدة بفضائله تارة وبما فعله في ابتداء الأمر من اخراج زوجته واطفاله ليلا إلى بيوت الانصار وبما اعتمده اذ ذاك من تخلفه في بيته واظهار انه قد انعكف على جمع القرآن وبسائر انواع الحيل فيها لم تحصل له إلاَّ بتجريد السيف كما فعل في آخر الأمر ولست الوم العرب لا سيما قريشا في بغضها له وانحرافها عنه فانه وترها وسفك دماءها وكشف القناع في منابذتها ونفوس العرب واكبادهم كما تعلم . وليس الإسلام بمانع من بقاء الاحقاد في النفوس كما نشاهده اليوم عيانا والناس كالناس الاول والطبائع واحدة فاحسب انك كنت من سنتين أو ثلاث جاهليا أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو اخاك ثمَّ اسلمت اكان اسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشن آنه كلا ان ذلك لغير ذاهب هذا اذا كان الإسلام صحيحا والعقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب فبعضهم تقليدا وبعضهم للطمع والكسب وبعضهم خوفا من السيف وبعضهم على طريق الحمية والانتصار أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه . واعلم ان كل دم أراقه رسول الله (صلى الله عليه وآله)بسيف علي عليه السلام وبسيف غيره فإنَّ العرب بعد وفاته عليه السلام عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب عليه السلام وحده لانه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم ان يعصب به تلك الدماء إلاَّ بعلي وحده . وهذه عاده العرب اذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله لما قتل قوم من بنى تميم أخا لعمرو بن هند قال بعض اعدائه يحرض عمرا عليهم :
وحوادث الايام لا يبقى لها إلاَّ الحجارة
من مبلغ عمرا بان المرء لم يخلق صباره
تسفى الرياح خلال كشحيه وقد سلبوا إزاره
ها ان عجزة امه بالسفح اسفل من اواره
فاقتل زرارة لا ارى في القوم امثل من زرارة
فامره ان يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ولم يكن قاتلا اخا الملك ولا حاضرا قتله ومن نظر في ايام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه .
ثم قال سالت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد رحمه الله فقلت له اني لاعجب من علي عليه السلام كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكيف ما اغتيل وفتك به في جوف منزله مع تلظي الاكباد عليه فقال لو لا انه ارغم انفه بالتراب ووضع خده في حضيض الارض لقتل ولكنه اخمل نفسه واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن وخرج عن ذلك الزي الاول وذلك الشعار ونسي السيف وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحا في الارض أو راهبا في الجبال ولما اطاع القوم الذين ولوا الأمر وصار اذل لهم من الحذاء تركوه وسكتوا عنه ولم تكن العرب لتقدم عليه إلاَّ بمواطاة من متولي الأمر وباطن في السر منه فلما لم يكن لولاه الأمر باعث وداع إلى قتله وقع الامساك عنه ولو لا ذلك لقتل .

(27) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج13/297-301 .

(28) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري 3/242 .

(29) نفس المصدر 3/242 .

(30) نفس المصدر 3/248 .

(31) نفس المصدر 3/244 .

(32) نفس المصدر 3/244 .

(33) نفس المصدر 3/256-258 .

(34) نفس المصدر 3/258-259 .

(35) نفس المصدر 3/259 .

(36) نفس المصدر 3/267-268 .

(37) نفس المصدر 3/277-278 .

(38) نفس المصدر 3/277 .

(39) نفس المصدر 3/277 .

(40) نفس المصدر 3/278 .

(41) نفس المصدر 3/278 .

(42) نفس المصدر 3/279 .

(43) نفس المصدر : 3/280 .

(44) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج17/202-214 .

(45) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 2/107 جويرية بن أسماء بن عبيد بن مخارق ويقال مخراق الضبعي أبو مخارق ويقال أبو أسماء البصري روى عن أبيه ونافع والزهري وبديح مولى عبد الله بن جعفر ومالك بن أنس وهو من أقرانه وغيرهم وعنه حبان بن هلال وحجاج بن منهال وابن أخته سعيد بن عامر الضبعي وابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء وأبو عبد الرحمن المقري وأبو سلمة ويحيى القطان ويزيد بن هارون ومسدد وأبو الوليد وغيرهم قال ابن معين : ليس به بأس وقال أحمد : ثقة ليس به بأس وقال أبو حاتم : صالح قلت : أرخ البخاري وغيره وفاته سنة 173 هـ وكذلك ابن حبان في الثقات وقال ابن سعد : كان صاحب علم كثير وذكره ابن المديني في الطبقة السابعة من أصحاب نافع .

(46) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري 3/241 .

(47) قال ابن حجر في لسان الميزان 4/418غسان بن عبد الحميد عن بن المنكدر وعنه مسلم بن إبراهيم مجهول .

(48) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 11/308 يزيد بن عياض بن جعدبة الليثي أبو الحكم المدني نزل البصرة روى عن الأعرج وأبي ثفال المري وابن المنكدر وعاصم بن عمر بن قتادة وسعيد المقبري وزيد بن علي بن الحسين والزهري ونافع ويحيى بن سعيد وهشام بن عروة وجماعة وعنه ابنه الحكم وهشام بن سعد ومات قبله وابن وهب وابن أبي فديك وعبد الصمد بن النعمان ويزيد بن هارون وأبو تميلة وأبو ضمرة أنس بن عياض الليثي ويقال أنَّه بن عمِّه وسعيد بن أبي مريم وعلي بن الجعد وشيبان بن فروخ وآخرون وروى عمر بن دينار عن يزيد بن جعدبة عن عبيد بن السباق وغيره فقيل هو هذا وقيل غيره.
قال ابن خزيمة : عمرو أجلُّ وأكبر من أن يروي عن يزيد بن عياض وقال أبو حاتم : هو جده لأنَّ بعضهم يقول يزيد بن عياض بن يزيد بن جعدبة وقال عبد الحميد بن الوليد المصري عن ابن القاسم : سألت مالكاً عن ابن سمعان فقال : كذَّاب قلت : فيزيد بن عياض قال : أكذب وأكذب وقال الدوري عن ابن معين : ليس بشيء.
وقال أحمد بن صالح المصري : أظنُّه كان يضع للناس وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : ضعيف الحديث منكر الحديث وعن أبي زرعة : ضعيف الحديث وأمر أن يضرب على حديث وقال البخاري ومسلم : منكر الحديث وقال أبو داود : ترك حديثه ابن عيينة يتكلَّم فيه وقال النسائي : متروك الحديث وقال في موضوع آخر : كذّاب وقال مرَّة : ليس بثقة ولا يكتب حديثه.
وقال ابن عدي : عامّة ما يرويه غير محفوظ قلت : وقال العجلي وعلي بن المديني والدارقطني : ضعيف وقال يزيد بن الهيثم عن ابن معين : كان يكذب وقال حسين بن حبان : قلت لابن معين : كيف قصَّته قال : أفسدوه جعلوا يدخلون له الأحاديث فيقرأها وإذا كان لا يعقل ما سمع ممَّا لم يسمع فكيف يكتب عنه وقال أحمد بن أبي مريم قال يحيى بن معين : لا يُكتب حديثه وجزم أبو أحمد الحاكم تبعاً للبخاري بأنَّه أخو أبي ضمرة الليثي.
وقال ابن سعد : كان قليل الحديث فيه ضعف مات بالبصرة في خلافة المهدي وقال الجوزجاني : ذهب حديثه سكت الناس عنه وقال الفلاس : ضعيف الحديث جداً وقال الأزدي : متروك الحديث وقال الساجي : منكر الحديث وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم وكنت أسمع أصحابنا يضعِّفونهم .

(49) قال ابن حبان في المجروحين 3/60 نجيح السندي أبو معشر مولى أم موسى من أهل المدينة وأم موسى هي أم المهدي يروي عن محمد بن عمر ونافع وهشام بن عروة روى عنه العراقيون مات سنة سبعين ومائة في شهر رمضان فصلَّى عليه هارون الرشيد في السنة التي استخلف فيها ودفن في المقبرة الكبيرة ببغداد وكان ممَّن اختلط في آخر عمره وبقي قبل أن يموت سنتين في تغير شديد لا يدري ما يحدث به فكثر المناكير في روايته من قبل اختلاطه فبطل الاحتجاج به .

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري