المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الثالث : تعريف بالموسوعات التاريخة وأصولها ومصنفيها
الفصل السادس : العوامل المؤثرة في التدوين التاريخي عند المسلمين
مما يؤسف له ان تدوين أخبار السيرة والتاريخ الاسلامي قد اصيب بفاجعة كبيرة في السنوات الخمس والعشرين من عهد الخلفاء الثلاثة بعد النبي صلى الله عليه وآلهحيث تبنوا سياسة المنع من نشر أخبار السيرة فضلاً عن تدوينها ، بل رأى الخليفة عمر أن يحرق ما كتبه الصحابة من مدونات ومذكرات عن العهد النبوي وكتب إلى ولاته في الامصار يأمر بان يتلفوا ما يعثرون عليه من ذلك .
روى الذهبي ان أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال : (انكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله احاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم اشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئافمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه)
وروى أيضاً عن قرظة بن كعب انه قال : (لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر إلى صرار ، ثمَّ قال : اتدرون لم شيعتكم ؟ قلنا : اردت ان تشيعنا وتكرمنا ، قال : ان مع ذلك لحاجة انكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فلا تصدوهم بالاحاديث عن رسول الله وانا شريككم ، قال قرظة : فما حدّثت بعده حديثا عن رسول الله)
وكان في الصحابة مثل قرظة بن كعب ممن تابعوا سنة الخلفاء وامتنعوا عن نشر سنة الرسول نظير عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص .
قال الشعبي : جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدِّث عن رسول الله .
وفي رواية اخرى عنه ، قال قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصف فما سمعته يحدَّث عن رسول الله شيئا إلاَّ هذا الحديث .
وروى عن السائب بن يزيد ، قال : خرجت مع سعد بن أبي وقاص - إلى مكة فما سمعته يحدَّث حديثا عن رسول الله حتّى رجعنا إلى المدينة
وكان في الصحابة من خالف سنة الخلفاء في نهيهم عن نشر الحديث النبوي واصروا على رواية سنة الرسول صلى الله عليه وآله فاستضعفوا وأوذوا .
روى الذهبي (ان عمر بن الخطاب حبس ثلاثة : ابن مسعود ، وأبا الدرداء ، وأبا مسعود الانصاري ، فقال اكثرتم الحديث عن رسول الله)
وروى الدارمي : (ان أبا ذر كان جالسا عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه فأتاه رجل فوقف عليه ثمَّ قال : الم تنه عن الفتيا ؟ فرفع راسه إليه ، فقال ارقيب انت علي ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه واشار إلى قفاه ثمَّ ظننت اني انفذ كلمة سمعت من رسول الله قبل ان تجيزوا علي لأَنفذتها)
ومعنى اجاز على الجريح : اجهز عليه .
أما مسألة احراق مدونات الصحابة في الحديث فتوضحه الأخبار التالية .
روى الذهبي عن عائشة (ان أبا بكر جمع خمسمائة من حديث النبي ودعا بنار فاحرقها)
وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى القاسم بن محمد (ان عمر بن الخطاب بلغه ان قد ظهر في ايدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها وقال : ايها الناس انه قد بلغني انه قد ظهرت في ايديكم كتب فاحبها إلى الله اعدلها واقومها فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاَّ اتاني به فارى فيه رأيي ، قال فظنوا انه يريد ان ينظر فيها ويقوِّمها على امر لا يكون فيه اختلاف ، فاتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ، ثمَّ قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب)
قال عبد الله بن العلاء : سألت القاسم يملي عليّ احاديث ، فقال : ان الاحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فانشد الناس ان يأتوه بها فلما أتوه بها امر بتحريقها ثمَّ قال : مثناة كمثناة أهل الكتاب ، فمنعني القاسم يومئذ ان اكتب حديثا
وروى الخطيب عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة (ان عمر بن الخطاب اراد ان يكتب السنة ثمَّ بدا له ان لا يكتبها ، ثمَّ كتب في الامصار : من كان عنده منها شيء فليمحه)
وروى الخطيب أيضاً عن عبد الرحمن بن الاسود عن ابيه قال : (جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن صحيفة فيها احاديث في أهل البيت عليهم السلام ، بيت النبي ، فاستأذنا على عبد الله (بن مسعود) فدخلنا عليه ، قال فدفعنا إليه الصحيفة ، قال فدعا الجارية ثمَّ دعا بطست فيها ماء فقلنا له : يا أبا عبد الرحمن انظر فيها فان فيها أحاديث حسانا ، قال فجعل يميثها فيها ويقول : نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن القلوب اوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما سواه) .
(ماث يميث ميثا : اذاب الملح في الماء) .
وفي رواية اخرى عن عبد الرحمن بن الاسود عن ابيه قال : (جاء رجل من أهل الشام إلى عبد الله بن مسعود ومعه صحيفة ، فيها كلام من كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه فقال : يا أبا عبد الرحمن ألا تنظر ما في هذه الصحيفة من كلام اخيك أبي الدرداء وقصص من قصصه ، فاخذ الصحيفة فجعل يقرأ فيها وينظر حتّى اتى منـزله فقال يا جارية آتيني بالاجانة مملوءة ماء ، فجئ بها فجعل يدلكها ويقول : (الم تلك آيات الكتاب المبين ... نحن نقص عليك احسن القصص) اقصصا احسن من قصص الله تريدون أو حديثا احسن من حديث الله تريدون)
______________________
(1) الذهبي : تذكرة الحفاظ ترجمة أبي بكر .
(2) الذهبي : تذكرة الحفاظ ح1 : 4-5 وجامع بيان العلم لابن عبد البرباب ذكر من ذم الاكثار من الحديث دون التفهم له 2 : 147 .
(3) الدارمي سنن الدارمي ج1 / 84-85 .
(4) الذهبي : تذكرة الحفاظ /ترجمة عمر .
(5) الدارمي سنن الدارمي 1 : 132 وابن سعد : الطبقات الكبرى 2 : 354 بترجمة أبي ذر ، واختصرها البخاري واوردها في صحيحه 1 : 161 باب العلم قبل القول .
(6) الذهبي : تذكرة الحفاظ 1 : 5 .
(7) تقييد العلم : 52 ط مصر 1974 .
(8) ابن سعد : الطبقات الكبرى 5 : 188 توفي القاسم سنة سبع ومائة .
(9) الخطيب البغدادي : تقييد العلم : 53 ، القرطببي: جامع بيان العلم 1 : 65 .
(10) تقييد العلم : 54 .