طغيان قريش قبيل البعثة

قال ابن إسحاق : وقد كانت قريش لا أدري قبل بناء البيت أو بعده (1) ابتدعت رأىَ الحُمْس (2) رأياً رأَوْه وأدارُوه (3) ، فقالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقاطن (4) مكة وساكنها ، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ، ولا مثل منزلتنا ، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا ، فلا تعظِّموا شيئاً من الحِلّ كما تعظِّمون الحَرَم ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخف العرب بحرمتكم وقالوا : قد عظِّموا من الحِلّ مثل ما عظَّموا من الحَرَم . فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها ، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم عليه السلام ، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها ، وأن يفيضوا منها ، إلا أنهم قالوا : نحن أهل الحرم ، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظِّم غيرها كما نعظِّمها ، نحن الحُمْس ، والحُمْس أهل الحرم ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم : يحِلُّ لهم ما يحل لهم ، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم .

وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك .

قال ابن إسحاق : ثم ابتدعوا في ذلك أُمورا لم تكن لهم ، حتى قالوا : لا ينبغي للحُمس أن يأتقِطوا الأَقْط (5) ، ولا يسلأوا (6) السِّمن وهم حرم ، ولا يدخلوا بيتاً من شعر ، ولا استظلوا إن استظلّوا في بيوت الأَدَم (7) ما كانوا حُرُماً ، ثم رفعوا في ذلك فقالوا : لا ينبغي لأهل الحِل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرام ، إذا جاءوا حجاجاً أو عُمّاراً ، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحُمْس ، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عُراة ، فإنْ تكرَّم منهم متكرِّم من رجل أو امرأة ، ولم يجد ثياب الحُمْس ، فطاف في ثيابه التى جاء بها من الحِلّ ألقاها إذا فرغ من طوافه ، ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبداً . فكانت العرب تسمّي تلك الثياب اللُّقَى (8) ، فحملوا على ذلك العربَ ، فدانت به ووقفوا على عرفات ، وأفاضوا منها ، وطافوا (أي العرب) بالبيت عُراة : أما الرجال فيطوفون عراة ، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا دِرعا مفرَّجا (9) عليها ، ثم تطوف فيه ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها ، فلم ينتفع بها هو ولا غيره .

فكانوا كذلك حتى بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وآله ، فأنزل عليه حين أحكم له دينه ، وشرع له سُنن حجِّه : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة/199 ، يعني قريشاً . والناس : العرب . فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها . وأنزل الله عليه فيما كانوا حرَّموا على الناس من طعامهم ولَبُوسهم (10) عند البيت ، حين طافوا عراة وحرَّموا ما جاءوا به من الحِلّ من الطعام : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ (32))الأعراف/31-32 .

قال ابن إسحاق : فوضع الله تعالى أمرَ الحُمْس ، وما كانت قريش ابتدعت منه على الناس بالإسلام حين بعث الله به رسوله صلى الله عليه وآله (11) .

أقول : إنَّ بِدعة الحُمْس ابتدعتها قريش بعد موت عبد المطلب وادِّعائها ما خصَّ الله صفيَّه عبد المطلب والطاهرين من ذريته من نصرته على أَبرهة وتدمير قوته ، وقالت : إنَّ ذلك لكل قريش ومن ثم سمت نفسها (آلَ الله) أي خاصة الله من خلقه أي أصفياء الله (12) . وقَبِلت العرب منهم ذلك بصفتهم سكان بيت الله الحرام وبسبب ما كانوا يضطلعون به من تعليم الناس مناسك حجهم وضيافتهم . ورافق ذلك ثراء قريش بسبب رحلة الشتاء والصيف الآمنتين إلى الشام والحبشة ورافقه فجور الكثير منهم واتخاذ بِدعة الحُمْس سِتاراً يتستَّرون به .

______________________

(1) هذا في نسخة ابن اسحق القطعة المكتشفة في السنين الاخيرة وطبعها د.سهيل زكار ، أمّا في نسخة ابن هشام ففيها قوله : لا أدري أقبل الفيل أم بعده ، والنسخة المكتشفة أصح.

(2) الحُمْس جمع أحمس وهو المتشدِّد في الدين .

(3) اي الزموا الناس به .

(4) قطن في المكان : اقام فيه .

(5) الأقْط والإقْط والأُقْط : شيء يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك ثم يَمصُل والقطعة منه أقِطة ، قا ل ابن ا لاعرابي : هو من البان الابل خاصة . ويأتقط الاقط يأكله .

(6) يسلأ السمن يذيبه ويطبخه والسمن هو الزبد .

(7) اي بيوت الجلد .

(8) اللقى : الشيء الملقى المطروح .

(9) المفرَّج : المشقوق.

(10) أي ملا بسهم .

(11) سيرة ابن هشام ج2 ص27 .

(12) وليس من شك أنّ هذا اللقب إنّما هو لعدد معيّن من ذرية إبراهيم ولأفراد من قريش وهم آباء النبي (صلى الله عليه وآله)ثم ينتهي إلى أبي طالب . ولكن قريش جعلت ذلك لكل قرشي .