قريش تعذب المسلمين

قال ابن إسحاق : ثم إنَّ قريشاً عَدَت (1) على من أسلم واتّبع رسول الله صلى الله عليه وآله ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء (2) مكة إذا اشتدَّ الحر ، يفتنونهم عن دينهم فمنهم من يُفْتَن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يَصْلُب لهم ، ويعصمه الله منهم .

قال : وكان أبو جهل الفاسق إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومِنعة ، أنَّبَه وأخزاه وقال له : تركت دين أبيك وهو خير منك ! لنسفِّهنَّ حِلمَك ، ولنُفَيِّلَنَّ رأيك (3) ، ولنَضَعَنَّ شرفك ، وإن كان تاجراً قال : والله لنكسِّدَنَّ تجارتك ، ولنُهْلِكَنَّ مالَك ، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به (4) .

عمّـار وأهل بيته : قال ابن إسحاق وكانت بنو مخزوم يخرُجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمه ، وكانوا أهل بيت إسلام (5) ، إذا حَمِيَت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله فيقول : صبراً آل ياسر ، موعدُكم الجنّة (6) .

قالت أم هاني : فمات ياسر في العذاب وأغلظت سمية لأبي جهل فطعنَها في قلبها فماتت (7) .

قال عبد الكريم بن أبي عبيدة بن محمد بن عمّار بن ياسر : أخذ المشركون عمار بن ياسر ، فلم يتركوه حتى نال من رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر آلهتهم بخير فلما أتى النبي صلى الله عليه وآله قال : ما وراءك ؟ قال : شرٌ يا رسول الله والله ما تُرِكْتُ حتى نلت (8) منك وذكرت آلهتهم بخير ، قال : فكيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئن بالإيمان ، قال : فإن عادوا فعُدْ ، قال الراوي ، فنزلت فيه (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)النحل/106 (9) .

قال ابن إسحاق : وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جُبَير ، قال : قلت لعبد الله بن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من العذاب ما يُعْذَرون به في ترك دينهم ؟ قال : نعم والله ، إن كانوا ليضربون أحدهم ويُجيعونه ويُعطِّشونه حتى ما يَقدِر على أن يستوي جالساً من شدَّة الضُّر الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ، حتى يقولوا له : الّلات والعُزى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ، حتى إنَّ الجُعَل (10) ليمر بهم، فيقولون له : أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم ، افتداءً منه مما يبلغون من جَهْده (11) . وفي رواية البلاذري : فإذا أفاق رجع إلى التوحيد (12) .

خَبّاب بن الأَرَتّ: قال ابن سعد : بِيعَ خباب بمكة ثم حالف بني زُهرة وأسلم قديماً وكان من المستضعفين (13) ، وكان قيِّناً (14) وعذِّب عذاباً شديداً (15) . روى البلاذري عن الواقدي أنَّ خباباً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فشكا له ما أصابه فقال له النبي : لقد كان الرجل ممن قَبْلَكم يُمَشَّط بأمشاط الحديد حتى يخلُص إلى ما دون عظمه من لحم وعصب وشُقَّ بالمناشير ... والله ليمضين هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب على غنمه (16) .

______________________

(1) اي تعدت على من اسلم .

(2) الرمضاء : الارض الحارة بسبب الشمس .

(3) فيَّل رأيه : أضعفه وأفسده .

(4) سيرة ابن هشام ج2 ص162 . أغرى به : اي سلطه عليه .

(5) في طبقات ابن سعد ج3 ص246 عمار بن ياسر بن عامر من مذحج ، وكان ياسر بن عامر قد قدم هو وأخواه الحارث ومالك من اليمن إلى مكة يطلبون أخا لهم ، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن وأقام ياسر بمكة وحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وزوجه أبو حذيفة أَمَة له يقال لها : سمية بنت خياط ، فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة ولم يزل ياسر وعمار مع أبي حذيفة الى أن مات وجاء الله بالإسلام فأسلم ياسر وسمية وعمار وأخوه عبد الله بن ياسر .

(6) سيرة ابن هشام ج2 ص162 .

(7) أنساب الأشراف ج1 ص160 .

(8) نال منه : اي ذكره بسوء .

(9) انساب الاشراف ج1 ص159 ، طبقات ابن سعد ج3 ص246 .

(10) جعل : دابة سوداء من دواب الارض كالخنفساء أو اكبر منها .

(11) سيرة ابن هشام ج2 ص163 . والجَهد : المشقة .

(12) أنساب الأشراف ج1 ص197 .

(13) الاصابة .

(14) القيِّن : الحداد .

(15) قال في الإصابة : شهد بدراً وما بعدها ، وروى الطبراني من طريق زيد بن وهب قال : لما رجع علي من صفين مرَّ بقبر خبّاب فقال : رحم الله خبّاباً أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه أحوالاً ولن يُضَيِّع الله أجره ، وشهد خباب بدرا وما بعدها ونزل الكوفة ومات بها سنة سبع وثلاثين ، زاد ابن حِبان منصرف علي من صفين وصلى عليه علي، وعاش ثلاثا وستين سنة. أقول: قتل الخوارج ابنه عبد الله وأرسل إليهم علي  عليه السلام أن أقيدونا بعبد الله بن خباب فقالوا : كيف نقيدك به وكلنا قتله؟ فقتلهم في النهروان.

(16) أنساب الاشراف ج1 ص176 .