الهجرة إلى الحبشة
قال ابن إسحاق : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية ، لمكانه من الله ومن عمه أبي طالب ، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها مَلِكاً لا يُظلَم عنده أحد ، وهى أرض صِدق ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أرض الحبشة ، مخافة الفتنة وفِراراً إلى الله بدينهم .
قالت أُمُّ سلمة : لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير جار النّجاشي ، أمِنّا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى ، لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه .
فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جَلِدين ، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرَف من مَتاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأَدَم (1) ، فجعلوا له أدَماً كثيراً ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً (2) إلا أهدوا له هدية ، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص .
قالت : فخرجا حتى قدِما على النّجاشي ، ونحن عنده بخير دار ، عند خير جار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلاّ دفعا إليه هديته قبل أن يكلِّما النجاشي ، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوى (3) إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم ، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم ، فإن قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم ، فقالوا لهما : نعم . ثم إنّهما قدَّما هداياهما إلى النّجاشي فقبلها منهما ، ثم كلّماه فقالا له : أيها الملك ، إنه قد ضوى إلى بلدك منّا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بَعَثَنا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتَرُدَّهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .
قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النّجاشي .
قالت : فقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عيناوأعلم بما عابوا عليهم ، فأسلمهم إليهما فليَرُدّاهم بلادهم وقومهم .
قالت : فغضب النّجاشي ، ثم قال : لاها الله (4) ، إذاً لا أسلمهم إليهما ، ولا يُكاد قوم جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟
قالوا : نقول والله ما علمنا ، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وآله كائناً في ذلك ما هو كائن .
فلما جاءوا وقد دعا النّجاشي أساقفته ، فنشروا مصاحفهم (5) حوله ، سألهم فقال لهم : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ، ولا في دين أحد من هذه الملل ؟
قالت : فكان الذي كلمه جعفر ابن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال له : أيّها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار ، ويأكل القوىّ منّا الضعيف ، فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا (6) من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرَّحِم ، وحُسن الجِوار ، والكف عن المحارم والدماءونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . (قالت : فعدد عليه أمور الإسلام) فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً ، وحَرَّمْنا ما حَرَّمَ علينا ، وأحلَلْنا ما أحلّ لنافعدا علينا قومنا ، فعذبونا وافتتنونا عن ديننا ، ليردّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من
الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن ألا نُظلم عندك أيها الملك .
قالت : فقال له النّجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم ، فقال له النجاشي : فاقرأه علي ، قالت : فقرأ عليه صدراً من (سورة) كهيعص ، قالت : فبكى والله النّجاشي حتى اخضلَّت لحيته ، وبكت أساقفته حتى أَخْضَلوا (7) مصاحفهم ، حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال لهم النّجاشي : إنَّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما .
قالت : فخرجا من عنده مقبوحَيْن مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار (8) .
وكان أبو طالب قد بعث أبياتاً للنّجاشي يحُضُّه على حُسْنِ جوارهم والدفع عنهم ، وهي :
ليعلم خِيارُ الناس أنَّ محمداً
وزيرٌ لموسى والمسيح ابن مريمِ
أتانا بهدي مثل ما أتيا به
فكلٌّ بأمر الله يهدي ويعصِمِ
وإنَّكم تتلونه في كتابكم
بصدق حديث لا حديث المترجمِ (9)
وإنك ما تأتيك منّا عِصابةٌ
لقصدك إلا أُرجِعوا بالتكرُّمِ (10)
وأقام المسلمون بأرض الحبشة حتى ولد لهم الأولاد ، وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة ولم يزالوا بها في أمن وسلامة ، ورجع جعفر ومن معه إلى المدينة بعد أنْ هاجر النبي صلى الله عليه وآله إليها ، وكان ذلك في يوم فتح خيبر (11) .
|