بيعة العقبة الثانية

قال ابن إسحاق : ثم إنَّ مصعب بن عمير رجع إلى مكة ، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حُجّاج قومهم من أهل الشِّرك ، حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله العقبة ، من أوسط أيام التشريق ، حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته ، والنصر لنبيه ، وإعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله .

قال كعب : خرجنا إلى الحج ، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وآله العقبة من أوسط أيام التشريق .

قال : فلما فرغنا من الحج ، وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وآله لهاومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ، سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا أخذناه معنا ، وكنا نكتُم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ، فكلمناه وقلنا له : يا أبا جابر ، إنّك سيّد من ساداتنا ، وشريف من أشرافنا ، وإنّا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً ، ثم دعوناه إلى الإسلام ، أخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله إيانا العقبة .

قال : فأسلم وشهد معنا العقبة ، وكان نقيبا . قال : فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله ، نتسلل تسلل القِطا (1) مستخفين ، حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائنا : نَسيبة بنت كَعب ، أم عُمارة ، إحدى نساء بنى مازن ابن النجار ، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي ، إحدى نساء بني سلمة ، وهي أمّ منيع . قال : فاجتمعنا في الشِّعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلاّ أنّه أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له (2) .

فلما جلس كان أول متكلم العباس ابن عبد المطلب ، فقال : يا معشر الخزرج (قال : وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها) وإنَّ محمداً مّنا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عِزّ من قومه ومِنْعَة في بلده ، وإنّه قد أبى إلاّ الانحياز إليكم ، واللُّحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مُسلِّموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنّه في عِزّ ومِنْعَة (3) من قومه وبلده قال : فقلنا له : قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت .

قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فتلا القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغَّب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم .

قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم ، والذى بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أُزُرَنا (4) ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحَلْقة ، وَرِثناها كابِراً عن كابِر .

قال : فاعترض القول ، والبراء يكلِّم رسول الله صلى الله عليه وآله ، أبو الهيثم بن التيِّهان فقال : يا رسول الله ، إنَّ بيننا وبين الرجال حبالاً (5) ، وإنّا قاطعوها (يعني يهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال : فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال : بل الدم الدم ، والهدْم الهدْم ، أنا منكم وأنتم منّي ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم . قال ابن هشام : الهدم الهدم يعني الحرمة : أى ذِمَّتي ذِمَّتُكم ، وحُرمتي حُرمتكم .

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أنَّ القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وآله قال العباس ابن عبادة بن نَضْلة الأنصاري ، أخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج ، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم ، قال : إنَّكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنَّكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله (وإن فعلتم) خزىُ الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنَّكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة (6) الأموال ، وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة ، قالوا : فإنّا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وَفَيْنا بذلك ؟ قال : الجنة . قالوا : ابسُط يدك ، فبسط يده فبايعوه .

قال ابن إسحاق : وكانت لبيعة الحرب ، حين أذن الله لرسوله صلى الله عليه وآله في القتال شروطاً سوى شرطه عليهم في العقبة الأولى ، كانت الأولى على بيعة النّساء ، وذلك أنَّ الله تعالى لم يكن أذِن لرسوله صلى الله عليه وآله في الحرب ، فلمّا أذِن الله له فيها ، وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وآله في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود ، أخذ لنفسهواشترط على القوم لربه ، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنّة .

قال ابن إسحاق : فحدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه الوليد ، عن جده عبادة بن الصامت ، وكان أحد النُّقباء ، قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله بيعة الحرب ، وكان عبادة من الاثنى عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى على بيعة النّساء على السمع والطاعة ، في عُسرنا ويُسرنا ، ومَنشَطِنا ومَكْرَهنا ، وأن لا ننازع الأمر أهله (7) ، وأن نقول بالحق أينما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم .

قصة صنم عمرو بن الجموح

قال ابن اسحاق : فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها ، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك ، منهم عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم ابن كعب بن سلمة ، وكان ابنه معاذ بن عمرو شهد العقبة ، وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله بها .

وكان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة ، وشريفاً من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب ، يقال له : مناة ، كما كانت الأشراف يصنعون ، يتخذه إلهاً يعظمه ويطهره ، فلمّا أسلم فتيان بني سلمة ، معاذ بن جبل ، وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح ، في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة ، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك ، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة ، وفيها عذر الناس ، منكَّساً على رأسه ، فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم ! من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟ قال : ثم يغدو يلتمسه ، حتى إذا وجده غَسَّله وطَهَّره وطَيَّبه .

ثم قال : أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأُخزِينَّه ، فإذا أمسى ونام عمرو عَدَوْا عليه ، ففعلوا به مثل ذلك ، فيغدو فيجده في مثل ما كان من الأذى ، فيغسله ويطهِّره ويطيِّبه ، ثم يعدون عليه إذا أمسى ، فيفعلون به مثل ذلك . فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوماً ، فغَسَله وطهَّره وطيَّبه ، ثم جاء بسيفه فعلَّقه عليه ، ثم قال : إنّي والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى ، فإن كان فيك خير فامتنع ، فهذا السيف معك .

فلما أمسى ونام عمرو عَدَوْا عليه ، فأخذوا السيف من عنقه ، ثم أخذوا كلباً ميِّتاً فقرنوه به بحبل ، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة ، فيها عُذَر (8) من عُذَر الناس ، ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به . فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكَّساً مقروناً بكلب ميت ، فلمّا رآه وأبصر شأنه ، وكلمه من أسلم من رجال قومه ، فأسلم برحمة الله وحسن إسلامه (9) .

______________________

(1) جمع قِطة .

(2) اي يسعى في إحكام امره .

(3) اي حماية .

(4) جمع ازار وهو معروف وهو هنا كناية عن المرأة .

(5) حبالا : اى عهود ومواثيق .

(6) اي نقص .

(7) الامر هنا هو الرسالة ولها اهل خاصون يعينهم الله تعالى لمواصلة بيانها بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كما في قوله تعالى (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) الأنعام/90 وقوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فاطر/32 وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء/59 .) وهم اهل بيت النبي واولهم علي كما مرَّ في قصة نزول الوحي وحادثة الدار وغيرها وسياتي تفصيله .

(8) جمع عَذِرَة : وهي الغائط .

(9) سيرة ابن هشام ج2 ص301 .