السنة الخامسة من الهجرة
وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله زينب بنت جحش ، وهي ابنة عمته كان زوَّجها مولاه زيد بن حارثة . وفي شوال كانت وقعة الخندق .
وقعة الخندق
وهي غزوة الأحزاب ، وفيها تحزَّبت (1) قريش والقبائل واليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله وكانوا في نحو من عشرة آلاف يقودهم أبو سفيان .
قال الواقدي : وأشار سلمان الفارسي (2) على رسول الله صلى الله عليه وآله بحفر الخندق حول المدينة وجعل المسلمون ظهورهم إلى جبل سَلْع (3) ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأقام المشركون بِضْعاً وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصا .
ونجم (4) النفاق وعظم البلاء على المسلمين واشتدَّ الخوف على الذراري (5)والنساء وكانوا كما قال الله تعالى : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) الأحزاب/10 .
ورسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون وُجّاه (6) العدوّ لا يستطيعون الزوال عن مكانهم يعتقبون خندقهم ويحرسونه ، وتكلم قوم بكلام قبيح قالوا : يعدنا محمد كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يذهب حاجته وما وعدنا الله ورسوله إلاّ غرورا ، وكان حِصار الخندق في حر شديد وجوع .
وأقبل عَمْرو بن عبد وِدّ العامري من بني عامر بن لؤي ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ، فانتهوا إلى مكان ضيِّق قد أغفله المسلمون فضربوا خيلهم فاقتحمت (7)منه وصاروا بين الخندق وسَلْع (8) . فجعل عمرو بن عبد ودّ يدعو إلى البراز وعمرو يومئذ ثائر كان قد شهد بدراً فارتُثَّ (9) جريحاً فلم يشهد أحدا وحرَّم الدهن حتى يثأر من النبي صلى الله عليه وآله وهو يومئذ كبير يقال بلغ تسعين سنة (10) .
قال ابن إسحاق : إنّ عَمْراً لما نادى بطلب من يبارزه قام علي عليه السلام وهو مقنَّع (11)في الحديد ، فقال : أنا له يا نبي الله ، فقال له : اجلس إنّه عَمْرو ثم كرّر عَمْرو النِّداء وجعل يؤنِّبهم ويقول : أيْنَ جنَّتكم التي تزعمون أنّه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون لي رجلاً (12) ؟ والمسلمون يومئذ على رؤسهم الطّير لمكان عَمْرو وشجاعته (13) : ثم
نادى عَمْرو الثالثة وقال :
ولقد بُحِحْتُ من النداء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت أمامكم موقف القرن المناجز
فقام علي عليه السلام فقال : أنا له يا رسول الله فقال : انّه عَمْرو فقال : وإن كان عَمْراً فاذِن له رسول الله صلى الله عليه وآله فمشى إليه علي (14) فبارزه وقتله وانهزم الباقون وكَبا (15) بنوفل بن عبد الله بن المغيرة فرسُه فلحقه علىٌّ فقتله .
وقال علي عليه السلام في قتل عَمْرو :
نصر الحجارة من سفاهة رأيه
ونصرت دين محمد بضِراب
فصددت حين تركته متجندِلاً
كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنّني
كنت المقطَّر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيَّه يا معشر الإحزاب (16)
قال جابر بن عبد الله الأنصاري : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله بعثه مع علي عليه السلام لينظر ما يكون منه ومن عمرو قال : فما شبَّهت قتل علي عمراً إلاّ بما قصَّ الله تعالى من قصة داود عليه السلام وجالوت حيث يقول جل شأنه : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)البقرة/251 (17) .
قال ربيعة السعدي : أتيت حذيفة بن اليمان ، فقلت له : يا أبا عبد الله إنا لنتحدَّث عن علي عليه السلام ومناقبه فيقول لنا أهل البصرة أنّكم تُفرِطون في علي ، هل أنت محدِّثي بحديث فيه ؟ فقال حذيفة : يا ربيعة وما تسألني عن علي عليه السلام ، فوالذي نفسي بيده لو وُضِع جميع أعمال أصحاب محمد صلى الله عليه وآله في كَفَّة ميزان منذ بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ووُضِع عمل علي عليه السلام في الكَفَّة الأخرى لرجح عمل علي عليه السلام على جميع
أعمالهم ، فقال ربيعة : هذا الذي لا يقام له ولا يقعد . فقال حذيفة : يا لُكَع (18) وكيف لا يُحمَل وأيْن كان أبو بكر وعمر وحذيفة وجميع أصحاب محمد صلى الله عليه وآله يوم عمرو بن عبد ود وقد دعا إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً عليه السلام ، فانّه برز إليه وقتله الله على يده ، والذي نفس حذيفه بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله إلى يوم القيامة (19) .
وروى الحاكم في مستدركه بسنده أنَّ النبي صلى الله عليه وآله قال : لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبدود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي الى يوم القيامة (20) .
وقال أبان : حدثني من سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول : قام رسول الله صلى الله عليه وآله على التل الذي عليه مسجد الفتح في ليلة ظلماء ذات قِرّة (21) قال : من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنّة ؟ فلم يقم أحد ، ثم عاد ثانية وثالثة فلم يقم أحد ، فقام حذيفة وقال صلى الله عليه وآله : انطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم ، فذهب وقال : لا تحدث شيئاً حتى تأتينا ، ولما توجه حذيفة قام رسول الله صلى الله عليه وآله يصلي ثم نادى بأشجى صوت : (يا صريخ المكروبين يا مجيب دعوة المضطرين إكشف همي وكربي فقد ترى حالي وحال من معي) فنزل جبرئيل فقال : يا رسول الله إنَّ الله عز وجل سمع مقالتك واستجاب دعوتك وكفاك هول من تحزَّب عليك وناواك (22) ، فجثا رسول الله صلى الله عليه وآله على ركبتيه وبسط يديه وأرسل بالدمع عينيه ثم نادى : (شكرا شكرا كما آويتني واويت من معي) ، ثم قال جبرئيل : يا رسول الله قد نصرك الله وبعث عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها الحصى وريحاً من السماء الرابعة فيها الجنادل .
قال حذيفة : فخرجت فإذا أنا بنيران القوم قد طَفِئَت وأُخْمِدَت ، وأقبل جند الله الأول ريح شديد فيها الحصى فما ترك لهم ناراً إلاّ أخمدها ولا خباءاً (23) إلاّ طرحها ... حتى جعلوا يتترَّسون من الحصى ... فقام أبو سفيان إلى راحلته ثم صاح في قريش : النجاء النجاء ... وذهب الأحزاب ، ورجع حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره الخبر فانزل الله على رسوله : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ...) الأحزاب/9 واصبح رسول الله صلى الله عليه وآله بالمسلمين حتى دخل المدينة (24) .
|