غزوة حُنَيْن
ثم كانت وقعة حنين ، بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وهو بمكة أنَّ هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كثيراً ورئيسهم مالك بن عوف ومعهم دريد بن الصَّمَّة من بني جُشَم شيخ كبير يتبرَّكون برأيه . وساق مالك مع هوازن أموالهم وحرمهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم في جيش عظيم عدتهم اثنا عشر ألفاً ، عشرة آلاف أصحابه الذين فتح بهم مكة وألفان من
أهل مكة ممن أسلم طوعاً وكرهاً ، فأعجبت المسلمين كثرتهم وقال بعضهم : ما ُنؤتى من قِلَّة ، فكَرِه رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك من قولهم ، كانت هوازن قد كَمَنَت في الوادي فخرجوا على المسلمين وكان يوماً عظيم الخطب وانهزم المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بقي في عشرة من بني هاشم وقيل تسعة وهم علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث ، وعُتبة ومُعتِّب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، وقيل أيمن بن أم أيمن (1) .
وفي ذلك يقول العباس عم النبي صلى الله عليه وآله :
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة
وقد فرَّ من
فرَّ عنه
فاقشعوا
وعاشرنا لاقى الحِمام
(2) بسيفه
ما مسَّه
في الله لا
يتوجع
يعني به أيمن بن أم أيمن رحمه الله (3) .
وضرب علي عليه السلام يومئذ أربعين مبارزاً كلهم يقُدُّه (4) حتى يقُدَّ أنفه وكانت ضرباته منكرة (5) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : يا عباس اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب الشجرة ،
فنادى بذلك وكان رجلاً صَيِّتا (6) ثم انقضَّ الناس (7) وفتح الله على نبيِّه وقتل علي عليه السلام صاحب راية هوازن ، وكانت الهزيمة ، وصارت السبايا والأموال في أيدي المسلمين وبلغت هزيمة المشركين الطائف (8) . وقُتِل من ثقيف وبني مالك سبعون رجلاً ، فأمّا الأحلاف من ثقيف فلم يقتل منهم غير رجلين لأنهم انهزموا سريعاً (9) . واستشهد من المسلمين أربعة (10) .
ومَرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله في الطريق بامرأة مقتولة ، فقال : من قتلها ؟ قالوا : خالد بن الوليد ، فقال لبعض من معه : أدرِك خالداً فقل له : أن رسول الله صلى الله عليه وآله ينهاك أن تقتل امرأة أو وليداً أو عسيفاً (11) (والعسيف الأجير) .
قال أبان في روايته عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : سيَّر رسول الله صلى الله عليه وآله يوم حنين أربعة آلاف رأس واثني عشر ألف ناقة سوى ما لا يُعلَم من الغنائم وخلَّف رسول الله صلى الله عليه وآله الأنفال والأموال والسبايا بالجِعِرّانة (12) ، وافترق المشركون فرقتين فأخذت الأعراب ومن تبعهم أَوطاس (13) ، وأخذت ثقيف ومن تبعهم الطائف ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله أبا عامر الأشعري اوطاس ، فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الرّاية أبو موسى الأشعري وهو ابن عمه فقاتل بها حتى فتح عليه (14) .
مانزل من القرآن في وقعة حنين : قال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)) التوبة/25-26 .
مناجاة النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام في الطائف: سار رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الطائف قبل أن يقسم الغنائم وقبل أن يرجع إلى مكة فحاصرهم بضعة عشر يوماً (15) ووجَّه بعلىٍّ أَمَرَه أن يكسر كل صنم وجده ، فلقي نافع بن غيلان في خيل من ثقيف فقتله ، وانهزم أصحابه وكسر الأصنام وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو بعد محاصر لأهل الطائف ينتظره (16) فلما رآه كبر وأخذ بيده وناجاه (17) طويلاً .
قال جابر بن عبد الله الأنصاري : إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما خلا بعلي عليه السلام يوم الطائف ، أتاه عُمَر بن الخطاب ، فقال : أتناجيه دوننا وتخلو به ؟ فقال : يا عُمَر ما أنا انتجيته بل الله انتجاه (18) .
أقول : وهذا اللقاء الخاص بين النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام كان يتكرر يومياً في بيت النبي صلى الله عليه وآله كما روى ذلك علي عليه السلام قال : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وآله مُدْخَلان مُدخل بالليل ومُدخل بالنهار ، فكنت إذا دخلت بالليل تنحنح لي (19) ، وفي رواية أخرى قال : كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وآله منزلة لم تكن لأحد من الخلائق إني كنت آتيه كلَّ سَحَر فأسلِّم عليه حتى يتنحنح(20) . فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلا دخلت عليه.
وكانت المسالة الأساسية في هذه اللقاءات هي العلم ، قال علي عليه السلام كما روي عنه : ما دخل رأسي نوم ... حتى علمت من رسول الله صلى الله عليه وآله ما نزل به جبرائيل في ذلك اليوم من حلال أو حرام أو سنة أو أمر أو نهي فيما نزل وفيمن نزل ... ، قال الراوي :
وإذا غاب عنه كان يتحفَّظ على رسول الله الأيام التي غاب فيها فإذا التقيا قال له رسول الله : يا علي نزل علىَّ في يوم كذا ، كذا وكذا وفي يوم كذا ، كذا حتى يعُدَّهما عليه إلى آخر اليوم الذي وافى فيه (21) .
وقال عليه السلام : ما من آية نزلت في ليل أو نهار ... إلاّ أقرأنيها وأملاها علي وكتبتها بيدي وعلمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها وكيف نزلت وفيمن أنزلت إلى يوم القيامة (22) .
وفي رواية الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله لعلي : أكتب ما أُملي عليك ! قال : يا نبي الله أتخاف علىَّ النسيان ؟ قال : لست أخاف عليك النسيان وقد دعوت الله أن يحفِّظك ولا يُنسِيَك (23) ولكن أكتب لشركائك ، قال : قلت ومن شركائي يانبي الله ؟ قال : الأئمة من ولدك (24) .
وقد توارث الأئمة من ولد علي واحداً بعد واحد كتب علي عليه السلام .
عن حمران بن أعين قال : أشار ابو جعفر عليه السلام إلى بيت كبير وقال : يا حمران إنَّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخط علىّ وإملاء رسول الله ولو ولِينا الناس لحكمنا بما أنزل الله لم نَعْدُ ما في هذه الصحيفة .
وفي رواية أخرى قال : والله إنَّ عندنا لجِلدىْ ماعز وضأن أملاها رسول الله وخط علي (بيده) وإن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً أملاها رسول الله وخطها علي بيده وإنَّ فيها لجميع ما يحتاج إليه حتى أرْش الخَدش (25) .
المنّ بسبايا حنين:
انصرف النبي صلى الله عليه وآله من الطائف من غير فتح للحصن إلى الجعرانة ، وأتته وفود هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وآله إنّا أصلٌ وعشيرةٌ وقد أصابنا ما لم يخفَ عليك فامْنُن علينا مَنَّ اللهُ عليك ، وقام زهير بن صُرَد من بني سعد بن بكر وهم الذين أرضعوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله إنما في الحظائر (26) عماتك وخالاتك وحواضنك ولو أنّا أرضعنا الحارث بن أبي شمر الغساني او النعمان بن المنذر لرجونا عطفه وأنت خير المكفولين . فَخَيَّرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بين أبنائهم ونسائهم وأموالهم ، فاختاروا أبناءهم ونساءهم ، فقال : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، فإذا أنا صليت بالناس فقولوا : إنّا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم وأسأل فيكم ، فلما صلى الظهر فعلوا ما أمرهم به فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم . وقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله . وقال الأقرع بن حابس : ما كان لي ولبني تميم فلا . وقال عُيَيْنَة بن حصن : ما كان لي ولفَزارة فلا ، وقال عباس بن مرداس : ما كان لي ولسُليم فلا ، فقالت بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال : وهَّنتموني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : من تمسَّك من السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه فردُّوا على الناس أبناءهم ونساءهم (27) .
وفي رواية اليعقوبي : جاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول الله صلى الله عليه وآله من الرضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فحباها وأكرمها وبسط لها رداءه (28) .
قسمة الغنائم واعطيات المؤلفة قلوبهم:
وقسم رسول الله صلى الله عليه وآله الأموال بين المسلمين فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس (29) ، وأعطى المُؤَلَّفة قلوبهم ، يتألَّف قلوبهم من الخمس ، مائة بعير مائة بعير ، وأعطى عباس بن مرداس أباعِر قليلة فتسخَّطها (30) وقال في ذلك أبيات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا علي قم فاقطع لسانه ، قال العباس بن مرداس : فو الله لهذه الكلمة أشد علىَّ من يوم خثعم ، فأَخذ علي بيدي فانطلق بي وقلت : يا علي إنَّك قاطع لساني ؟ قال : إنَّي ممض فيك ما أُمِرتُ حتى أدخلني الحظائر ، فقال : اعقل (31) ما بين أربعة إلى مائة قال : قلت بأبي أنت وأمي ما أكرمكم وأحلمكم وأجملكم وأعلمكم ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين ، فإن شئت فخذها وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة (32) .
ذو الخويصرة:
وعند إعطاء رسول الله صلى الله عليه وآله ما أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعطِ الأنصار ولا المهاجرين قال ذو الخُوَيصِرة التميمي : قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم يا محمد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : أجل فكيف رأيت ؟ قال : لم أَرَكَ عدَلتَ ، فغضب صلى الله عليه وآله . وقال : ويحك إن لم يكن العدل منّي فعِندَ مَنْ يكون؟ (33) فقال عمر : دعني يا رسول الله صلى الله عليه وآله أقتل هذا المنافق ، فقال : معاذ الله أن يتحدَّث الناس أنّي أقتل أصحابي (34) دعه فإنَّ له أصحاباً يمرُقون من الدين كما يمرُق السَّهم من الرَّمية (35) آيتهم رجل إحدى يديه كالبَضْعَة (36) أو كثدي المرأة ، يخرجون على فرقتين من الناس يقتلهم أولى الطائفتين بالله (37) . وَجْدُ الأنصار على الرسول صلى الله عليه وآله : قال أبو سعيد الخدري : لمّا أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وَجَدَ (38) هذا الحىّ من الأنصار في أنفسهم حتى كثُرت منهم القالة (39) حتى قال قائلهم : لقد لقي رسول الله صلى الله عليه وآله قومه .
فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إنَّ هذا الحىّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لِما صنعت في هذا الفي الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا في قبائل العرب ولم يك في هذا الحىّ من الأنصار منها شيء ! قال : فأيْن أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : يا رسول الله ما أنا إلاّ من قومي . قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة (40) . فجمعهم فأتاهم الرسول صلى الله عليه وآله فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله ثم قال : يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم ، وَجْدَةٌ (41) وجدتموها علىَّ في أنفسكم ، ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكم الله ، وعالةً (42) فاغناكم الله وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم .
قالوا : بلى ، والله ورسولُهُ أمَنُّ وأفضل .
ثم قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟
قالوا : بما ذا نجيبك يا رسول الله ، لله ولرسول الفضل والمَنّ ؟
قال : أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم ، أتيناك مكذَّباً فصدَّقناك ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ...
أَوَجَدْتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة (43) من الدنيا تأَلَّفْت بها قوماً ليُسلِموا ووكلتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وآله الى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً لسلكت شِعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار .
قال أبو سعيد : فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله قسماً وحضاً ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وتفرقوا (44) .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من الجِعِرّانة في ذي القعدة إلى مكة فقضى بها عمرته ، ثم صار إلى المدينة وخليفته على أهل مكة معاذ بن جبل يفقِّه الناس في الدين ويعلمهم القرآن (45) .
قال ابن إسحاق : ولمّا قدم رسول الله من منصرفه عن الطائف قدم عليه الشاعر كعب بن زهير وأنشده قصيدته المشهورة التي مطلعها :
بانت سعاد فقلبي
اليوم متبول
متيَّمٌ
إثرَها لم
يفد مكبول
ومنها قوله :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة
حدباء محمول
نبئتُ أنَّ
رسول الله
أوعدني
والعفو عند رسول
الله مأمول
إنَّ الرسول
لنور يستضاء به
مهنَّد من سيوف الله مسلول (46)
|