المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي
الباب الأول : بحوث تمهيدية
الفصل الخامس : دوافع التحريف

الدافع الثاني : الكتمان كراهةً وخوفاً من العامة

أ . ما حذفه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق :

قال ابن خلكان في ترجمة عبد الملك بن هشام الحميري : (جمع سيرة رسول الله من المغازي والسير لابن إسحاق وهذّبها ...) .

و قال السيوطي في بغية الوعاة / 315 في ترجمته أيضاً : (مهذِّب السيرة النبوية سمعها من زياد البكائي صاحب ابن إسحاق ونقّحها ...) .

وقد وضَّح ابن هشام منهجه في التهذيب في مقدمة الكتاب قائلاً :

(وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ... وأشياء يشنع الحديث به بعض يسوء الناس ذكره ...) .

وكان ممّا حذفه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق (ممّا يسوء الناس ذكره) خبر دعوة الرسول بني عبد المطلب عندما أوحى الله إليه : (وَأنْذِرْ عَشِيرَتَك الأقْرَبِين) فقد روى الطبري في تأريخه قال حدَّثنا ابن حميد قال حدَّثنا سلمة قال حدَّثني محمد بن اسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله : (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لي : يا علي إنَّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنِّي متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمّت عليه حتَّى جاءني جبرئيل فقال : يا محمد إنَّك إلاَّ تفعل ما تؤمر به يعذِّبك ربُّك فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عُسَّاً من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتَّى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به . ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه : أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلمَّا إجتمعوا إليه دعاني بالطعام الَّذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وآلهحذية من اللحم فشقها بأسنانه ثمَّ ألقاها في نواحي الصحفة . ثم قال : خذوا بسم الله فأكل القوم حتَّى ما لهم بشى حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم وأيم الله الذي نفس عليِّ بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدَّمت لجميعهم . ثمَّ قال : إسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتَّى رووا منه جميعاً وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله فلمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لشدَّ ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآلهفقال الغد : يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرَّق القوم قبل أن أكلِّمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ، ثم أجمعهم إلىَّ .

قال : ففعلت ، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتَّى ما لهم بشى حاجة . ثم قال : أسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتَّى رووا منه جميعاً ثم تكلَّم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا قد جئتكم به إنِّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة . وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعا وقلت : وإنِّي لأحدَثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . فأخذ برقبتي ، ثم قال : إنَّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع  (1) .

حذف ابن هشام هذا الخبر وأخباراً كثيرةً اُخرى كان يرى أنّ ذكرها يسوء الناسولهذا السبب إشتهرت سيرة ابن هشام وأصبحت أوثق سيرة عند الناس وأهملت سيرة ابن إسحاق لأنّ فيها أخبارا لا يرغبون في نشرها حتَّى فقدت نسختها .

أقول : وقد عُثِر أخيرا على قطعتين من سيرة ابن إسحاق ترتبطان ببعض حوادث الفترة المكية ومعركة بدر وأُحد حققهما أحد الباحثين  (2) ومن حسن الحظ أنَّ إحدى القطعتين إحتفظت بحديث الدار وبالسند نفسه غير أنَّ يد التحريف إمتدت إلى القسم المهم والخطير من الرواية وهو قوله صلى الله عليه وآله : أيُّكم يؤازرني الخ ... فحذفته .

قال يونس  (3) عن ابن إسحاق قال حدَّثني من سمع من عبد الله بن الحارث بن نوفل واستكتمني اسمه عن ابن عباس عن علي قال : لمَّا نزلت هذه الآية على رسول الله(وانذر عشيرتك الأقربين) ... وذكر نص الرواية إلى قوله قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة  (4) ثم حذف الباقي .

أقول : الراوي الذي سمع من عبد الله بن الحارث (ت84هـ) هو المنهال بن عمرو  (5)ولعلَّه حدَّثه به على عهد هشام بن عبد الملك (ت125هـ) ثمَّ حدَّثه به عبد الغفَّار بن القاسم  (6) به (وهو من أقران ابن إسحاق) عن المنهال الذي يحتمل فيه إنَّه سمعه من المنهال ولم يستكتمه اسمه لإنتهاء الظرف الذي يخاف منه .

أمَّا يونس بن بكير فهو صاحب ابن إسحاق وقد وثقَّوه وأثنوا عليه ،  (7) ومن هنا فإنَّنا نحتمل أنَّ الحذف من صنع النُّساخ ويؤيد ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد لمَّا روى عن أبي عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد اللغوي غلام ثعلب ، ومحمد بن حبيب في أماليه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله لمَّا فرَّ معظم أصحابه عنه يوم أُحد كثرت عليه كتائب المشركين وقصدته كتيبة من بنى كنانة ثمَّ من بنى عبد مناة بن كنانة فيها بنو سفيان بن عويف وهم خالد بن سفيان وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان وغراب بن سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا علي أكفني هذه الكتيبة ، فحمل عليها وإنَّها لتقارب خمسين فارساً وهو عليه السلام راجل ، فما زال يضربها بالسيف حتَّى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مراراً حتَّى قتل بنى سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممَّن لا يعرف باسمائهم ، فقال جبرئيل لرسول الله صلى الله عليه وآله : يا محمد إنَّ هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : وما يمنعه وهو منِّي وأنا منه ، فقال جبرائيل عليه السلام : وأنا منكما ، قال : وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مراراً :

لا سيف إلاَّ ذو الفقار       ولا فتى إلاَّ علي

فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله عنه ، فقال : هذا جبرائيل .

قال ابن أبي الحديد : وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الأخبار المشهورة ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق ورأيت بعضها خالياً عنه  (8) .

ب . ما حذفه القاسم بن سلام (ت 224هـ) :

ومثل هذا الحذف أو الكتمان وعدم الذكر قام به أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص 174-175 قال : حدثني سعيد بن عفير قال : حدثني علوان بن داود -مولى أبي زرعة بن عمرو بن جرير-عن حميد بن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عبد الرَّحمن قال :

(دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الَّذي توفي فيه ، فسلَّمت عليه وقلت . ما أرى بك بأساً ، والحمد لله ، ولا تأس على الدنيا . فوالله إنْ علمناك إلاَّ كنت صالحاً مصلحاً . فقال : أما إنِّي لا آسى على شيء إلاَّ على ثلاث فعلتهم ، وددت أنِّي لم أفعلهم ، وثلاث لم أفعلهم ودت إنِّي فعلتهم وثلاث ودت إنِّي سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عنهم .

فأمَّا الَّتي فعلتها ووددت أنِّي لم أفعلها ، فوددت أنِّي لم أكن فعلت كذا وكذا -لخلة ذكرها ، قال أبو عبيد : لا أُريد ذكرها- .

ووددت أنِّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين : عمر ، أو أبي عبيدة . فكان أميراً وكنت وزيراً .

ووددت أنِّي حيث كنت وجَّهت خالداً إلى أهل الرَّدة أقمت بذي القصة ، فإن ظفر المسلمون ظفروا وإلاَّ كنت بصدد لقاء ، أو مدد .

وأمَّا الثلاث التي تركتها ووددت أنِّي فعلتها : فوددت إنِّي يوم أُتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ، فإنَّه يخيِّل إلىَّ أنَّه لا يرى شرًّا إلاَّ أعان عليه) .

ووددت إننَّي يوم أُتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته ، وكنت قتلته سريحاً ، أو أطلقته نجيحاًووددت أنِّي حيث وجَّهت خالداً إلى أهل الشام كنت وجَّهت عمر إلى العراق ، فأكون قد بسطت يدي ، يميني وشمالي في سبيل الله .

وأمَّا الثلاث التي وددت إنِّي كنت سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله : فوددت إنِّي سألته فيمن هذا الأمر ، فلا ينازعه أهله ؟ ووددت إنِّي كنت سألته . هل للأنصار من هذا الأمر من نصيب ؟ ووددت إنِّي كنت سألته عن ميراث العمَّة وإبنة الأخ ، فإن في نفسي منها حاجة .

وقد أثبت الطبري الخلة التي كره ذكرها ابن سلام ، قال في تاريخه قال : فوددت إنِّي لم أكن كشفت عن بيت فاطمة وتركته ولو أُغلق على حرب)  (9) .

أقول : وقد ذكرها الذهبي أيضا في كتابه ميزان الإعتدال (ج3/108) بترجمة علوان بن داود العجلي .

ج . ما حذفه عمر بن شبَّة :

ومثله ما حذفه عمر بن شبة أو الرواة عنه ، قال : (خطب ابن عديس وعثمان محصور وقال في خطبته : إنِّ ابن مسعود حدثني أنَّه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآلهيقول إنَّ عثمان قال ابن شبة : وتكلَّم بكلمة أكره ذكرها)  (10) .

د . ما حذفه الطبري :

قال الطبري في حوادث سنة 30 هـ : "وفي هذه السنة - أعني سنة (30هـ) -كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه منها (أي المدينة) أمور كثيرة كرهت ذكرها ، أمَّا العاذرون معاوية في ذلك فإنهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها إلي السري يذكر : إنَّ شعيباً حدَّثه سيف ، عن عطيّة ، عن يزيد الفقعسي ، قال : لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر ... الخ"  (11) .

ويقول في حوادث سنة (35هـ) : "وذُكِرتْ أُمور كثيرة في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب ، منها ما تقدم ذكره ، ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة مني لبشاعته"  (12) ، ثم يذكر رواية سيف بن عمر في ذلك تفصيلاً .

ويقول في حوادث السنة نفسها أيضاً : " ... إنَّ محمد بن أبي بكركتب إلى معاوية بن أبي سفيان لمَّا ولّي ، فذكر-أي هشام عن أبي مخنف-مكاتبات جرت بينهما ، كرهت ذكرها لما فيها مما لا يحتمل سماعَها العامة"  (13) .

أقول: وقد روى هذه المكاتبات المسعودي في مروج الذهب ج3 ص11-13 ، ورواها أيضاً نصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين ونحن ننقلها من هذا الأخير .

قال نصر :

وكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية :

من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر : سلام على أهل طاعة الله ممَّن هو مُسلِّمٌ لأهل ولاية الله ، أمَّا بعد فإنَّ الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عنت ولا ضعف في قوته ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيداً وجعل منهم شقياً وسعيداً وغوياً ورشيداً ، ثمَّ اختارهم على علمه فاصطفى وأنتخب منهم محمداً فاختصَّه برسالته واختاره لوحيه وائتمنه على أمره وبعثه رسولاً مصدِّقاً لما بين يديه من الكتب ودليلاً على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربَّه بالحكمة والموعظه الحسنة فكان أوّل من أجاب وأناب وصدَّق ووافق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فصدَّقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، ووقاه كل هول وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأَزل ومقامات الروع حتَّى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو ، السابق المبرز في كلِّ خير ، أوّل الناس إسلاماً ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عم .

وأنت اللعين ابن اللعين ، ثمَّ لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل وتجتهدان على إطفاء نور الله وتجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال وتحالفان في ذلك القبائل ، على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الاحزاب ورؤوس النِّفاق والشِّقاق لرسول الله صلى الله عليه وآله ، والشاهد لعلي مع فضله وسابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ، ففضَّلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار فهم معه كتائب وعصائب يجالدون حوله بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في إتباعه ، والشَّقاء والعصيان فى خلافه ، فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله ووصيه وأبو ولده وأول الناس له إتباعا وآخرهم به عهداً ؟ يخبره بسرِّه ، ويشركه فى أمره ، وأنت عدوِّه وابن عدوَّه ، فتمتع ما استطعت بباطلك ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك فكأنَّ أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى ، وسوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا ، واعلم إنَّك إنَّما تكايد ربَّك الذي قد آمنت كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور وبالله وبأهل بيت رسوله عنك الغناء ، والسلام على من إتبع الهدى .

فكتب إليه معاوية :

من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر سلام على أهل طاعه الله ، أمَّا بعد ، فقد أَتاني كتابك ، تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه وما اصفى به نبيه ، مع كلام ألفته ووضعته لرأيك ، فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف ، ذكرت حق ابن أبي طالب ، وقديم سابقت وقرابته من نبي الله ، ونصرته له ، ومواساته إيَّاه في كل خوف وهول ، وإحتجاجك علىَّ ، وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك ، فأحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك، وجعله لغيرك .

فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا ، نرى حق ابن أبي طالب لازماً لنا وفضله مبرزاً علينا ، فلمَّا اختار الله لنبيه ما عنده ، وأتمَّ له ما وعده ، وأظهر دعوته وأفلج حجته ، قبضه الله إليه ، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزه وخالفه على ذلك اتفقا واتسقا ، ثمَّ دعواه إلى أنفسهما ، فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فَهَمَّا به الهموم وأرادا به العظيم ، فبايعهما وسلَّم لهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سِرِّهما ، حتَّى قُبِضا وانقضى أمرهما .

ثمَّ أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان ، يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما ، فعِبْته أنت وصاحبك حتَّى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ، وأبطنتما وأظهرتما وكشفتما له عداوتكما وغلَّكما حتَّى بلغتما منه مُناكما ، فخذ حِذرك يا بن أبي بكر ، فسترى وبال أمرك ، وقس شبرك بفترك تقصر عن أنْ تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه ، ولا تلينُ على قسر قناتُه ، ولا يُدرِك ذو مدى أناته أبوك مهَّد له مهاده ، وبنى ملكه وشاده ، فإن يكن ما نحن فيه صواباً فأبوك أوَّله ، وإنْ يكن جوراً فأبوك أسَّسه ، ونحن شركاؤه ، فبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا ، رأينا أباك فعل ما فعل ، فاحتذينا مثاله ، واقتدينا بفعاله ، فعب أباك بما بدا لك ، أو دع ، والسلام على من أناب  (14) .

هـ . ما حذفه ابن عبد البر :

ومثله ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة أبي موسى الأشعري ، قال : وكان منحرفاً عن علي لأنَّه عزله ولم يستعمله . وكان لحذيفة قبل ذلك (أي قبل مسألة العزل وعدم التولية) فيه كلام وكرهت ذكره ، والله يغفر له  (15) .

أقول : قال ابن أبي الحديد : الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر ولم يذكر قوله فيه ، وقد ذكر عنده (أبو موسى) بالدِّين هو قوله : (أمَّا أنتم فتقولون ذلك وأمَّا أنا فأشهد أنَّه عدُّو لله ولرسوله وحرب لهما في الحياة الدنيا ويوم القيامة يوم يقول الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم سوء الدار) .

قال ابن أبي الحديد : وكان حذيفة عارفاً بالمنافقين ، أسرَّ إليه رسول الله صلى الله عليه وآله أمرهم وأعلمه أسماءهم .

وقال ابن أبي الحديد أيضاً : وروي أنَّ عماراً سئل عن أبي موسى ، فقال : لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً ، سمعته يقول : صاحب البُرنس الأسود ، ثمَّ كلح كلوحاً ، علمت منه أنَّه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط  (16) .

______________________

(1) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري ج2 ص321 .

(2) هو الدكتور سهيل زكار ، قال في مقدمة التحقيق : ان النسخة الاولى من القطعة الاولى ترجع الى القرن الخامس الهجري كانت موجودة في مكتبة القرويين بفاس وتحوي مائة واثنتين صفحة والقطعة الثانية في المكتبة الظاهرية بدمشق ويرجع تاريخها الى القرن الخامس أيضاً .

(3) هو يونس بن بكير ستأتي ترجمته .

(4) ابن اسحاق : سيرة ابن اسحاق تحقيق د . سهيل زكار ط1/1398-1978 .

(5) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : المنهال بن عمرو الأسدي مولاهم الكوفي (خ والأربعة) روى عن أنس إن كان محفوظاً وأرسل عن يعلى بن مرة وزر بن حبيش وعبد الله بن الحارث المصري وزاذان الكندي وسويد بن غفلة ومحمد بن الحنفية وأبي عبيدة بن عبد الله أبن مسعود وسعيد بن جبير وعلي بن ربيعة ومجاهد بن جبر وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعباد بن عبد الله الأسدي وعائشة بنت طلحة وغيرهموعنه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش وربيعة بنت عتبة الكناني والحجاج بن أرطاة ومنصور بن المعتمر وليث بن أبي سليم وعلي بن الحكم البناني وعبد ربه بن سعيد وشعبة بن الحجاج وميسرة بن حبيب وأبو خالد الدالاني وعمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة وعمرو بن أبي قيس الرازي وحصين بن عبد الرحمن وآخرون ، قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول : ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد قال بن أبي حاتم : لأنه سمع من داره صوت قراءة بالتطريب وقال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول : أبو بشر أحبُّ إلىَّ من المنهال وقال : نعم شديدا أبو بشر أوثق إلا أنَّ المنهال أسن وقال إبن معين والنسائي : ثقة ، وقال وهب بن جرير عن شعبة : أتيت منزل المنهال فسمعت منه صوت الطنبور فرجعت ولم أسأله قلت : فهلا سألته عسى كان لا يعلم ؟ وقال بن المديني عن يحيى بن سعيد : أتى شعبة المنهال بن عمرو فسمع صوتا فتركه ، وقال العجلي كوفي : ثقة ، وقال الدار قطني : صدوق ، وقال جرير عن مغيرة : كان حسن الصوت وكان له لحن يقال له وزن سبعة ، وقال الغلابي : كان إبن معين يضع من شأن المنهال بن عمرو ، وقال الجوزجاني : سيء المذهب وقد جرى حديثه ، وقال إبن أبي خيثمة حدَّثنا سليمان بن أبي شيخ حدَّثني محمد بن عمر الحنفي عن إبراهيم بن عبيد الطنافسي قال : وقف المغيرة صاحب إبراهيم على يزيد بن أبي زياد ، فقال : ألا تعجب من هذا الأعمش الأحمق ؟ إنِّي نهيته يروي عن المنهال بن عمرو وعن عباية ففارقني على أن لا يفعل ثمَّ هو يروي عنهما نشدتك بالله تعالى هل كانت تجوز شهادة المنهال على درهمين ؟ قال : اللهمَّ لا ، قال : وكذا عباية وذكره بن حبان في الثقات قلت محمد بن عمر الحنفي راوي الحكاية فيه نظر وقال الحاكم المنهال بن عمرو غمزه يحيى القطان ، وقال أبو الحسن بن القطان : كان أبو محمد بن حزم يضعف المنهال ورد من روايته حديث البراء وليس على المنهال حرج فيما حكى بن أبي حازم فذكر حكايته المتقدمة ، قال : فإن هذا ليس بجرح إلاَّ أن تجاوز إلى حدِّ تحريم ولم يصح ذلك عنه وجرحه بهذا تعسف ظاهر وقد وثقه بن معين والعجلي وغيرهما ولهم شيخ آخر يقال له المنهال بن عمرو أقدم من هذا روى عن عبد الله بن مسعود روى عنه أبو إسحاق السبيعي قال أبو حاتم إن لم يكن بالأسدي فلا أعرفه ، قلت : إنما يمكن أن يكون الأسدي إن كان أرسل عن بن مسعود فإن الأسدي لم يدركه وتكون رواية أبي إسحاق عنه من رواية الأكابر عن الأصاغر .

(6) قال ابن عدي في الكامل في الضعفاء 5/327 قال علي بن المديني : أبو مريم اسمه عبد الغفار وكان لشعبة فيه رأي وتعلَّم منه زعموا توقيف الرجال ثمَّ ظهر منه رأي ردى في الرفض فترك حديثه وسمعت أحمد بن محمد بن سعيد يثني على أبي مريم ويطريه وتجاوز الحد في مدحه حتَّى قال : لو انتشر علم أبي مريم وخرج حديثه لم يحتج الناس إلى شعبة وابن سعيد حيث مال هذا الميل الشديد إنَّما كان لإفراطه في التشيع ، وفي تعجيل المنفعة 263 قال أحمد : ليس بثقة وكان يحدث ببلايا في عثمان وعامة حديثه بواطيل ، وقال أبو حاتم : متروك الحديث وكان من رؤساء الشيعة ، وقال الآجري : سألت أبا داود ؟ فقال : كان يضع الحديث .

(7) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 11/382 : يونس بن بكير بن واصل الشيباني أبو بكر ، ويقال : أبو بكير الجمال الكوفي الحافظ ، قال مضر بن محمد عن ابن معين : ثقة ، وقال الدوري عن ابن معين : كان صدوقاً ، وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين : ثقة ، قال عثمان : يخالف في يونس ، وقال عثمان أيضاً : لا بأس به ، وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين : كان ثقة صدوقاً إلا أنَّه كان مع جعفر بن يحيى وكان موسراً فقال له رجل : إنَّهم يرمونه بالزندقة ، فقال : كذب ثمَّ ، قال يحيى : رأيت ابني أبي شيبة أتياه فأقصاهما وسألاه كتاباً فلم يعطهما فذهبا يتكلمان فيه ، قال يحيى بن معين : قد كتبت عنه ، وقال أبو خيثمة : قد كتبت عنه ، وقال العجلي بكر بن يونس بن بكير : لا بأس به كان أبوه علي مظالم جعفر وبعض الناس يضعفونهما ، وقال ابن أبي حاتم : سئل أبو زرعة أي شيء ينكر عليه ؟ قال : أمَّا في الحديث فلا أعلمه ، وسئل عنه أبي ؟ فقال : محلَّه الصدق وقال الآجري بن أبي داود : ليس هو عندي بحجة كان يأخذ ابن إسحاق فيوصله بالأحاديث ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال مرَّة : ضعيف ، وذكره ابن حبان في الثقات ، قال مطين وغيره : مات سنة تسع وتسعين ومائة ، قلت : وقال إبراهيم بن داود : سألت محمد بن عبد الله بن نمير عنه ، قال : ثقة رضي وقال عبيد بن يعيش ثنا يونس بن بكير : وكان ثقة ، وقال ابن عمار : هو اليوم ثقة عند أصحاب الحديث ، وقال الجوزجاني : ينبغي أن يثبت في أمره ، وقال الساجي : كان ابن المديني لا يحدث عنه وهو عندهم من أهل الصدق ، وقال أحمد بن حنبل : ما كان أزهد الناس فيه وأنفرهم عنه وقد كتبت عنه ، قال الساجي : وحدَّثني أحمد بن محمد يعني بن محرز قال : قلت ليحيى الحماني : إلا تروي عن يونس بن بكير ؟ قال : لم يكن ظاهراً ، قال وقلت لابن أبي شيبة : إلا تروي عنه ؟ قال : كان فيه لين ، قال الساجي : وكان صدوقاً إلا أنَّه كان يتبع السلطان وكان مرجئا .

(8) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة 14/250-251 .

(9) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري 3/430 .

(10) ابن شبة : تاريخ المدينة : 1156 . اقول : ولم أعثر على مصدر يذكر كلمة النبي (صلى الله عليه وآله) في عثمان التي حذفها ابن شبة .

(11) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري 4 : 283 .

(12) ابن جرير الطبري : تاريخ الطبري 4 : 35 .

(13) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج3 ص 188 .

(14) نصر بن مزاحم : وقعة صفين : 118-121 ط/ المؤسسة العربية الحديثة 1382هـ .

(15) ابن عبد البر: الاستيعاب ص980 ، 1762 .

(16) ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ج3/314-315 .

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري