قصة إسماعيل

ولد إبراهيم في بابل في العراق وبعث فيها ايام امبراطورية الأكدييِّن (2100-200ق . م تقريبا) ، ثم نفاه نمرود (1) عنها فخرج منها هو وابن أخيه لوط وزوجه سارة وعبر الفرات وسكن البادية التي بظهر الكوفة وهي بادية الكوفة وتعرف ببادية السماوة وايضا ببادية الشام ، ولما صار عمره ستاً وثمانين سنة وُلد له إسماعيل من هاجر ، ولما صار طفلاً يحبو (2) أمره الله تعالى أن يأخذ إسماعيل وأمه ويسكنهما مكة (3) وكانت آنذاك أرضاً قفراء (4) وتركهما إبراهيم هناك وليس عند هاجر سوى جراب (5) فيه تمر ووكاء (6) فيه ماء ، ونفد الماء وأخذ الطفل يبكي وتحرّكت أمه تبحث عن الماء ، وليس بالوادي من أنيس وأجرى الله تعالى آية لإسماعيل حين نبع ماء (زمزم) من تحت قدميه وعين الماء هذه هي التي ذكرت في التوراة العبرية بـ (بئر لحي روئي) (تكوين 13 14 : 16) (7) .

ثم نزلت جرهم ، وهم طائفة من العرب الأقدمين عند هاجر بمكة ووافاهم إبراهيم بعد أيام وسر بما جرى من آية الله ونزول جرهم .

ولما بلغ إسماعيل مبلغ الرّجال تزوّج من جُرْهُم ، وأمر الله نبيه إبراهيم ببناء البيت الذي كان آنذاك أكمة حمراء (8) قريباً من زمزم وقد قصّ الله تعالى قصة بنائهما البيت ودعائهما عند رفع قواعده في كتابه الكريم .

قال تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* )البقرة/127-129 .

وقد اتفقت كلمة المفسرين أنَّ النّبي الموعود المنتظرة بعثته الوارد ذكره في قوله تعالى (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ)يراد به محمد صلى الله عليه وآله .

ثم ابتلى اللهُ تعالى إبراهيمَ وإسماعيلَ بذلك البلاء العظيم الذي أخبر عنه في كتابه الكريم : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْح عَظِيم (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)) الصافات/102-109 .

وفي التوراة أنَّ إبراهيم دعا ربَّه أن يبارك في ولده اسماعيل فأجابه في ذلك بأنه باركه وجعل من ذريته محمداً صلى الله عليه وآله واثني عشر إماماً من بعده من أهل بيته (9) .

قال ابن اسحاق : وَلَدَ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اثني عشر رجلاً : نابتا ، وكان أكبرهم ، وقيذر ، وأذبل ، ومبشا ، ومسمعا ، وماشى ، ودما ، وأذر ، وطيما ، ويطور ، ونبش ، وقيذما (10) .

أقول : وهذه الأسماء مأخوذة من أهل الكتاب ، وقد أصابها شيء من التحريف ، ونحن ننقلها من الأصل العبري مباشرة حيث جاء في سفر التكوين 25 : 13 18 .

(وهذه أسماء بني إسماعيل بحسب أسمائهم وسلالتهم :

(نْبايوت) ( נבית ) (11) بِكر إسماعيل .

و (قَيدار) ( קדר ) (12) .

و (أدبئيل) ( אדבאיל ) (13) .

و (مِبْسام) ( מבשׂם ) (14) .

و (مِشماع) ( משׁמאע ) (15) .

و (دومة) ( דומא ) (16) .

و (مَسَّا) ( משׂא ) (17) .

و (حَدَد) ( חדד ) (18) .

و (تَيما) ( תימא ) (19) .

و (يْطور) ( יטר ) (20) .

و (نافيش) ( נאפישׁ ) (21) .

و (قَيدمه) ( קדמה ) (22) .

هؤلاء هم بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بحسب قُراهم ومخيماتهم وأقاموا من حويلة (23) إلى شور التي تُجاه مصر وانت آت نحو آشور . وكان قد نزل قُبالةَ أخوته) (24) .

توفي إسماعيل ودفن مع أمه هاجر في المكان المعروف بـ (حِجر إسماعيل) عند الكعبة (25) ، وهو معدود جزءاً منها عند الطواف ولذلك يلتزم كل المسلمين بعدم الطواف بين الحجر والكعبة بل يطوفون حول الكعبة والِحجر (26) .

______________________

(1) لا يبعد ان يكون نمرود هذا هو نرام سين حفيد سرجون مؤسس الدولة الاكدية وقد لقب نرامسين نفسه ملك الجهات الاربع وامر ان تكتب امام اسمه اشارة الالوهية .

(2) أي يزحف .

(3) ورد في التوراة انّ هاجر وإسماعيل سكنا برية (فاران) ( פארן ) وهي اسم من اسماء مكة، أو وصف مشهور لها والكلمة لا يبعد انها مشتقة من الفعل ( פאר ) بمعنى : يعظم،يكرِّم، يمجِّد،فهي تعني البَرِّيَّة المُكَرَّمة أو المعظَّمة وقد ورد في سفر التثنية: (وَهَذِهِ هِيَ الْبَرَكَةُ الَّتِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى، رَجُلُ اللهِ،بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: أَقْبَلَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ ساعير، وَتَأَلَّقَ فِي جَبَلِ فَارَانَ جَاءَ مُحَاطاً بِعَشَرَاتِ الأُلُوفِ مِنَ المقدسين) . وقوله: (وتألق في جبل فاران، وفي ترجمة أخرى، وأشرق من جبل فاران أي اشرق نور الرب من جبل فاران) إشارة إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) .

(4) أي خالية .

(5) الجِراب : الوعاء .

(6) كل وعاء يشد راسه فهو وكاء .

(7)  (بئر زمزم) ذكر العالم اليهودي ابن عزرا (ت 1092، 1167) وهو أحد مفسري اليهود المشهورين ان (بئر لَحِي روئي) ( באר לחי רואי ) هي بئر زمزم ، أقول : واللفظ العبري يعني حرفيّاً (بئر جديدة شوهدت) غير انّ المترجمين أبقوها في النسخة العربية كما هي دون ترجمة .

(8) أي مرتفع أحمر .

(9) سيأتي بحث ذلك عند ذكر البشارات بالنبي (صلى الله عليه وآله) وآله .

(10) السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص110 .

(11) لم يذكر لها في معجم جزينيوس للالفاظ العبرية اشتقاقها ومن المحتمل هي محرفة من كلمة ( נביאות ) (نْبيأوت) وتعني نبوءة .

(12) جاء في القاموس المقدس : معناه قدير أو اسود وهو أب لأشهر قبائل العرب وتسمى بلادهم أيضاً قيدار ، أقول : وقد وردت اللفظة في الفقرات 28ـ29 ومن الاصحاح 49 من سفر ارميا وتفيد انّ بني قيدار كانوا ممن اغار عليهم نبوخذ نصر الثاني ملك بابل (605ـ562 ق . م) ، ووردت في سفر اشعيا في ثلاثة نصوص مهمة من نصوص البشارات بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) يشير إلى انّهم سكان الجزيرة العربية ، وتفيد هذه النصوص انّ ذرية إسماعيل من قيدار كانت منتشرة في الجزيرة العربية إلى زمن بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) .

(13) جاء في القاموس المقدس : (ادب ايل تعني أدب الله) ، أقول : وفي المعجم الصرفي لألفاظ التوراة قال تعني : معجزة الرب .

(14) تعني : عبير أو رائحة طيبة .

(15) تعني : طاعة ، امتثال .

(16) تعني : هدوء ، صمت .

(17) فسرها الحاخام اليهودي المعاصر (اريه قافلان) والحاخام سعادية رأس اليهود في القرن العاشر الميلادي : بأنها (مكة) . أقول : واللفظة تعني : النبوءة .

(18) تعني : حِدّة مشتقة من الفعل حدَّ «Sharpness, to sharp» .

(19) مشتقة من يمن : اتجه إلى اليمين .

(20) مشتقة من طور بمعنى سلسلة او جبل .

(21) تعني : الذي أُنعِشَ . وفي قاموس الكتاب المقدس انّ ذريته سكنت شرقي الاردن .

(22) مشتقة من ( קדם ) (قدم) تعني : شرق ، اسبقية ، الواجهة .

(23) مدينة تقع في جنوب الجزيرة العربية ، للمزيد انظر قاموس الكتاب المقدس .

(24) تكررت العبارة (وكان قد نزل قبالة إخوته) في سفر التكوين الاصحاح 16 الفقرة 18 ونفهم منها انّ منزل إسماعيل كان القبلة التي يصلّي اليها اسحق وولده وغيرهم .

(25) السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص111 .

(26) وصف ابن جبير الاندلسي(ت616 هجرية) قبري اسماعيل وامه هاجر قال : (وتحت الميزاب في صحن الحجر بمقربة من جدار البيت الكريم قبر اسماعيل عليه السلام وعلامته رخامة (اى لبنة) خضراء مستطيلة قليلا شكل محراب تتصل بها رخامة خضراء مستديرة والى جانبها مما يلي الركن العراقي قبر امه هاجر رضي الله عنها وعلامته رخامة خضراء سعتها مقدار شبر ونصف يتبرك الناس في هذين الموضعين من الحجر ... رحلة ابن جبير ج1 ص76 . للمزيد حول الموضوع انظر سلسلة على مائدة الكتاب والسنة للعلامة العسكري الحلقة 12 تحت عنوان البناء على قبور الانبياء والاولياء واتخاذها مساجد واماكن للعبادة .