![]() |
![]() |
الباب الثالث : حركة الحسين (عليه السلام) في مواجهة الانقلاب الأموي
الفصل الثالث : طرف من أخبارشهادة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم)
شاء الله تعالى ان يحبس النصر عن الحسين (عليه السلام)، وخُيِّر الحسين بين البيعة ليزيد اوالقتال، واختار القتال، وآثر ان يخوض معركة غير متكافئة مع عُسلان الفلوات ذئاب الفرات وطلائع جيش بني أمية، وهو جيش الكوفة الذي نجح زياد في تصفيته من كل متهم بحب علي (عليه السلام) فضلا عن تشيعه، ونجح معاوية في تربيته على البغض والحقد على علي (عليه السلام) وأهل بيته، ومحض المودة والطاعة لمعاوية ويزيد. ويسقط الحسين (عليه السلام) قتيلا بعد ان وفى اصحابه بما بايعوه عليه من القتال بين يده، ووفى اهل بيته حين قُتِلوا بين يديه، ويبدي بنوامية وشيعتهم ابشع مستوى من الحقد والبغض لآل الرسول، وفيما يلي طرف من أخبار هذه المعركة:
روى الطبري عن ابي مخنف قال: نهض عمر بن سعد إلى الحسين عشية الخميس لتسع مضين من المحرم وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين، فقال: أين بنو أختنا؟فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي، فقالوا له: ما لك وما تريد؟قال: أنتم يا بني أختي آمنون، وكان قد أخذ لهم امانا من ابن زيادا.
فقال له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له.
قال: ثم إن عمر بن سعد نادى:
" يا خيل الله اركبي وأبشري "
فركب في الناس ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر.
فبعث اليهم الحسين (عليه السلام) أخاه العباس في نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر وقال لهم العباس: ما بدا لكم وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أوننازلكم.
قال: فلا تعجلوا، حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم، فانصرف العباس راجعا إلى الحسين يخبره بالخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم.
فقال حبيب ابن مظاهر لزهير بن القين: كلم القوم إن شئت. وإن شئت كلمتهم، فقال له زهير: أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلمهم.
فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غدا قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه (صلى الله عليه وآله) وعترته وأهل بيته (عليهم السلام) وعباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيرا.
فقال له عزرة بن قيس: إنك لتزكي نفسك ما استطعت.
فقال له زهير: يا عزرة إن الله قد زكاها وهداها، فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية.
قال: يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت عثمانيا.
قال: أما والله قد جمع الطريق بيني وبينه ودعاني الى نصرته وتذكرت حديث سلمان الباهلي وذكرت بالحسين رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومكانه منه، فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله(صلى الله عليه وآله).
وأقبل العباس بن علي حتى انتهى إليهم فقال: يا هؤلاء إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه أوكرهنا فرددناه.
فلما أتاهم العباس بن علي بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟قال: ما ترى أنت؟أنت الأمير والرأي رأيك، قال: قد أردت إلا أكون، ثم أقبل على الناس فقال: ما ذا ترون؟
فقال عمروبن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله !والله لوكانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها، وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة، فقال: والله لوأعلم أن يفعلوا ما أخرتهم العشية.
قال: وكان العباس بن علي حين أتى حسينا بما عرض عليه عمر بن سعد قال:
ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه
ونستغفره، فهويعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.
قال أبومخنف: حدثني الحارث بن حصيرة عن عبد الله بن شريك العامري
قال علي بن الحسين(عليه السلام): فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وهويقول لأصحابه: أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين، أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا خيرا، ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وإني قد رأيت لكم، فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبوني ولوقد أصابوني لهوا عن طلب غيري.
فقال له إخوته وأبناؤه وبنوأخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدا، بدأهم بهذا القول العباس بن علي.
وقام مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلِّي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك، ولولم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.
وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا حفظنا غيبة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيك، والله لوعلمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.
وقال زهير بن القين: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة وإن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.
وتكلم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد فقالوا: والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا.
قال أبومخنف: عن عبد الله بن عاصم عن الضحاك بن عبد الله المشرقي قال: فلما أمسى الحسين (عليه السلام) وأصحابه ، قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون.
قال ابومخنف: فلما صلّى عمر بن سعد الغداة يوم السبت، وقد بلغنا أيضا أنه كان يوم الجمعة
قال أبومخنف: أمر الحسين (عليه السلام) بفُسطاط، فَضُرِب، ثم أمر بِمِسْك فَميثَ في جَفنة عظيمة أوصحفة قال: ثم دخل الحسين (عليه السلام) ذلك الفُسطاط فتطلى بالنورة. قال :وكان عبد الرحمن بن عبد ربه
قال: وعبأ الحسين (عليه السلام) أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلاً
فجعل زهير بن القَين في ميمنة أصحابه.
وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه.
وأعطى رايته العباس بن علي أخاه.
وجعلوا البيوت في ظهورهم وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم.
قال: وكان الحسين (عليه السلام) أُتي بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه في ساعة من الليل، فجعلوه كالخندق، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب وقالوا: إذا عَدَوْا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا وقاتلنا القوم من وجه واحد. ففعلوا وكان لهم نافعا.
قال أبومخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي عن محمد بن بشر عن عمروالحضرمي قال: لما خرج عمر بن سعد بالناس،
كان على ربع أهل المدينة يومئذ عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي.
وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي.
وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس.
وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي.
فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين (عليه السلام)، إلا الحر بن يزيد فإنه عدل إلى الحسين (عليه السلام) وقتل معه.
وجعل عمر على ميمنته عمروبن الحجاج الزبيدي.
وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن.
وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي.
وعلى الرجَّالة شَبَث بن رَبعي الرياحي.
قال أبومخنف عن بعض أصحابه عن أبي خالد الكاهلي قال: لما أصبحت خيل الحسين (عليه السلام) رفع الحسين (عليه السلام) يديه فقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك، ففرَّجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة.
ثم اتجه الى القوم وخاطبهم: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظكم بما لحق لكم عليَّ وحتى أعتذر اليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا اليّ ولا تنظرون، إن وليي الله الذى نزل الكتاب وهويتولى الصالحين...
وحمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هوأهله وصلى على محمد صلى الله عليه وعلى ملائكته وأنبيائه فذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره.
قال :فوالله ما سمعت متكلما قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه.
ثم قال :عباد الله اتقوا الله !وكونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لوبقيت لأحد وبقي عليها أحد كانت الأنبياء أحق بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء، غير أن الله تعالى خلق الدنيا للبلاء وخلق أهلها للفناء، فجديدها بال ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر، والمنزل بلغة والدار قلعة، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوا الله لعلكم تفلحون
ثم قال: أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟
ألست ابن بنت نبيكم صلى الله عليه وسلم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟.
أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار ذوالجناحين عمي؟
أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لي ولاخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟
فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني فان فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم.
سلوا جابر بن عبد الله الانصاري أو أبا سعيد الخدرى أوسهل بن سعد الساعدي أوزيد بن أرقم أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولاخي، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟
فقال له شمر بن ذى الجوشن :هو يعبد الله على حرف إن كان يدرى ما تقول.
فقال له حبيب بن مظاهر :والله إنى لأَراك تعبد الله على سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق، ما تدرى ما يقول، قد طبع الله على قلبك، ثم قال لهم الحسين :فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أثرا ما أنى ابن بنت نبيكم؟فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبى غيرى منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة.
أخبروني ! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أومال لكم استهلكته أوبقصاص من جراحة؟
قال :فأخذوا لا يكلمونه.
قال :فنادى :يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الاشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب وطُمَّت الجِمام
قالوا له :لم نفعل. فقال(عليه السلام): سبحان الله بلى والله لقد فعلتم.
ثم قال : أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الارض.
قال :فقال له قيس بن الاشعث :أولا تنزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه.
فقال له الحسين :أنت أخوأخيك أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل.لا والله لا أعطيهم بيدى إعطاء الذليل ولا أقر اقرار العبيد عباد الله إنى عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب
ثم قال: لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد
ثم التفت الى العسكر قائلا:
تبّا لكم أيتها الجماعة وترحا:... تداعيتم إلينا كتداعي الفراش هلعا وذلة لطواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، وغضبة الآثام، وبقية الشيطان، ومحرفي الكلام، ومطفئي السنن... الذين جعلوا القرآن عضين. لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. فهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون.
ألا وإن (ابن الدعي) قد ركن (ركز) بين اثنتين بين المسألة والذلة، وهيهات منا الدنية (الذلة)، يأبى الله (لنا)ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت (وطهرت)... وأنوف حمية ونفوس أبية أن تؤثر مصارع الكرام على ظئار اللئام
فإن نَهزِم فهزامون قدما *** وإن نُهزَم فغير مهزمينا
وما إن طبنا جُبنٌ ولكن *** منايانا وطعمة آخرينا
قال أبومخنف: عن أبي جناب الكلبي عن عدي بن حرملة قال: ثم إن الحر بن يزيد لما زحف عمر بن سعد قال له: أصلحك الله مقاتل أنت هذا الرجل؟قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
قال: فأقبل حتى وقف من الناس موقفا ومعه رجل من قومه يقال له قرة بن قيس فقال: يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: أما تريد أن تسقيه؟قال: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذلك فيخاف أن أرفعه عليه، فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فساقيه، قال: فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه، قال: فوالله لوأنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين(عليه السلام).
قال: فأخذ يدنومن الحسين(عليه السلام) قليلا قليلا، فقال له رجل من قومه يقال له (المهاجر) ابن أوس: ما تريد يا أبن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟فسكت، وأخذه مثل العرواء، فقال له :يا بن يزيد والله إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن ولوقيل لي: من أشجع أهل الكوفة رجلا؟ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟قال: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ووالله لا أختار على الجنة شيئا ولوقُطِّعت وحُرِّقت.
ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين(عليه السلام) فقال له: جعلني الله فداك يا بن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستُك عن الرجوع وسايرتُك في الطريق وجعجعتُ بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلا هوما ظننت أن القوم يبلغون منك هذه المنزلة. وإني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي ومواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟؟
قال: نعم ان تبت يتوب الله عليك ويغفر لك.
فاستقدم أمام أصحابه ثم قال: أيها القوم: بئسما خلفتم محمدا في ذريته، ها هم أولاء قد صرعهم العطش، حلأتموهم عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والمجوس والنصارى وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه.
فحملت عليه رجالة لهم ترميه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين(عليه السلام).
قال أبومخنف: فحدثني عبد الله بن عاصم قال: حدثني الضحاك المشرقي قال: لما أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حتى مر على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هولا يرى إلا حطبا تلتهب النار فيه، فرجع راجعا فنادى بأعلى صوته: يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة.
فقال الحسين(عليه السلام): من هذا؟كأنه شمر بن ذي الجوشن، فقالوا: نعم أصلحك الله هوهو.
فقال: يا بن راعية المعزى !أنت أولى بها صليا، فقال له مسلم بن عوسجة: يا بن رسول الله جعلت فداك إلا أرميه بسهم فإنه قد أمكنني وليس يسقط مني سهم فالفاسق من أعظم الجبارين.
فقال له الحسين(عليه السلام): لا ترمه !فإني أكره أن أبدأهم.
قال أبومخنف: خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان وسالم مولى عبيد الله بن زياد فقالا: من يبارز؟ليخرج إلينا بعضكم.
قال: فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير، فقال لهما الحسين(عليه السلام): اجلسا.
فقام عبد الله بن عمير الكلبي فقال: أبا عبد الله رحمك الله ائذن لي لأخرج إليهما، فرأى الحسين رجلا آدم طويلا، شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين، فقال الحسين(عليه السلام): إني لأحسبه للأقران قتّالا، اخرج إن شئت، فخرج إليهما وقتلهما.
فأخذت أم وهب امرأته عمودا ثم أقبلت نحوزوجها تقول له: فداك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين ذرية محمد فأقبل إليها يردها نحوالنساء فأخذت تجاذب ثوبه.
ثم قالت: إني لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها حسين(عليه السلام) فقال: جزيتم من أهل بيت خيرا، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن فإنه ليس على النساء قتال، فانصرفت إليهن.
قال أبومخنف: وحدثني يوسف بن يزيد عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس وكان قد شهد مقتل الحسين(عليه السلام) قال: وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة وهوحليف لبني سليمة من عبد القيس فقال: يا برير بن خضير، كيف ترى الله صنع بك؟قال: صنع الله والله بي خيرا وصنع الله بك شرا.
قال: كذبت، وقبل اليوم ما كنت كذابا، هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إن عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفا وإن معاوية بن أبي سفيان ضال مضل وإن إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟؟
فقال له برير: اشهد أن هذا رأيي وقولي، فقال له يزيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين.
فقال له برير بن خضير: هل لك فلأُباهلك ولندعُ الله أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل ثم اخرج فلأُبارزك؟!
قال: فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحق المبطل ثم برز كل واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضره شيئا وضربه برير بن خضير ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق وإن سيف ابن حضير لثابت في رأسه، فكأني أنظر إليه ينضنضه من رأسه، وحمل عليه رضي بن منقذ العبدي واعتركا ووقعا على الارض، فجاء كعب بن جابر بن عمروالأزدي وطعنه بالرمح حتى وضعه في ظهره، ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتى قتله.
قال عفيف: كأني أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه ويقول: أنعمت علي يا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبدا.
وخرج عمروبن قرظة الأنصاري يقاتل دون الحسين(عليه السلام) وهويقول:
قد علمت كتيبة الأنصار *** إني سأحمي حوزة الذمار
ضرب غلام غير نكس شاري *** دون حسين مهجتي وداري
قال أبومخنف عن ثابت بن هبيرة :فقتل عمرو بن قرظة بن كعب وكان مع الحسين(عليه السلام) وكان علي أخوه مع عمر بن سعد، فنادى علي بن قرظة: يا حسين !يا كذاب ابن الكذاب !أضللت أخي وغررته حتى قتلته. قال(عليه السلام): إن الله لم يضل أخاك ولكنه هدى أخاك وأضلك قال: قتلني الله إن لم أقتلك أوأموت دونك فحمل عليه فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه فحمله أصحابه فاستنقذوه فدووي بعد فبرأ.
قال: ثم إن عمرو بن الحجاج حمل على الحسين(عليه السلام) في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين(عليه السلام)، ثم انصرف عمروبن الحجاج وأصحابه وارتفعت الغبرة، فإذا هم به صريع، فمشى إليه الحسين(عليه السلام) فإذا به رمق، فقال: رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)
ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة، فقال له مسلم قولا ضعيفا: بشرك الله بخير.
فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمَّك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.
قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله،(وأهوى بيده إلى الحسين(عليه السلام)) أن تموت دونه قال: أفعل ورب الكعبة.
وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر.
فقال: يا شوذب ما في نفسك أن تصنع؟
قال: ما أصنع؟ أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتى أقتل.
قال: ذلك الظن بك أملاً، فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه وحتى أحتسبك أنا فإنه لوكان معي الساعة أحد أنا أولى به مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى أحتسبه، فإن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هوالحساب.
قال: فتقدم، فسلم على الحسين(عليه السلام)، ثم مضى فقاتل حتى قتل.
ثم قال عابس بن أبي شبيب: يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز عليَّ ولا أحب إليَّ، منك ولوقدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد الله أني على هديك وهدي أبيك. ثم مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربه على جبينه.
قال أبومخنف: حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بني عبد من همدان يقال له :ربيع بن تميم (شهد ذلك اليوم)قال: لما رأيته مقبلا عرفته، وقد شاهدته في المغازي وكان أشجع الناس، فقلت: أيها الناس هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم. فأخذ ينادي: إلا رجل لرجل؟فقال عمر بن سعد: أرضخوه بالحجارة، قال: فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثم شد على الناس، فوالله لرأيته يطرد أكثر من مائتين من الناس ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقتل، قال: فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة، هذا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته فأتوا عمر بن سعد فقال: لا تختصموا هذا لم يقتله سنان واحد، ففرق بينهم بهذا القول.
قال هشام بن محمد عن أبي مخنف قال: حدثني يحيى بن هانىء بن عروة أن نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهويقول:
أنا الجملي أنا *** على دين علي
قال: فخرج إليه رجل يقال له: مزاحم بن حريث، فقال: أنا على دين عثمان فقال له: أنت على دين شيطان، ثم حمل عليه فقتله.
ثم حمل فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح، ثم تكاثروا عليه وأخذوه اسيرا، حتى أتي به عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد: ويحك يا نافع ما حملك على ما صنعت بنفسك؟ قال: إن ربي يعلم ما أردت. ثم قال له والدماء تسيل على لحيته: والله لقد قتلت منكم اثني عشر سوى من جرحت وما ألوم نفسي على الجهد ولوبقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني.
قال له شمر: أقتله أصلحك الله؟قال: أنت جئت به، فإن شئت فاقتله، قال: فانتضى شمر سيفه فقال له نافع: أما والله أن لوكنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه، فقتله.
______________________________________
(1) قال الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2/439: عبدالله بن شريك العامري. حدث عن ابن عمر، وجماعة. وكان في أوائل أمره من أصحاب المختار، ولكنه تاب. وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما، ولينه النسائي. وقال الجوزجانى: كذاب. وقال ابن عيينة: جالسنا عبدالله بن شريك وهوابن مائة سنة، وكان ممن جاء إلى ابن الحنفية عليهم أبوعبد الله الجدلي. الحميدى، حدثنا سفيان، عن عبدالله بن شريك، قال: قال الحسين: نبعث نحن وشيعتنا كهاتين - وأشار بالسبابة والوسطى. وقال إبراهيم بن عرعرة، عن سفيان: كان مختاريا، وان لا يحدث عنه. قال: وكان عبدالرحمن بن مهدى قد ترك الحديث عنه.
(2) قال الطبري في ذيل المذيل :وشهد علي بن الحسين الاصغر وهوابن ثلاث وعشرين سنة، وكان مريضا نائما على فراش.
(3) المشهور ان يوم العاشر سنة 61 كان يوم الجمعة. (ويؤيد روايات السبت ما ورد في كامل الزيارات عن صفوان، عن يعقوب بن شعيب، عن حسين بن أبي العلاء:. .. وقتل يوم السبت يوم عاشوراء. وما ورد في التهذيب (4/334) للطوسي عن الباقر (عليه السلام) قال: يخرج القائم (عليه السلام) يوم السبت يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين(صلى الله عليه وآله)).
(4) عبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري صحابي، ذكره بن عقدة في كتاب الموالاة فيمن روى حديث من كنت مولاه فعلى مولاه وساق من طريق الاصبغ بن نباتة قال: لما نشد علي الناس في الرحبة من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال إلا قام ولا يقوم إلا من سمع، فقام بضعة عشر رجلا منهم أبوأيوب وأبوزينب وعبد الرحمن بن عبد رب فقالوا :نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :إن الله وليي وأنا ولي المؤمنين فمن كنت مولاه فعلى مولاه ؛وفي سنده من لا يعرف. الاصابة 4/328.
(5) وفي رواية عمارالدهني (الطبري 4/292): انه (عليه السلام) كان معه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل قال المؤلف: هؤلاء الرجالة سواء كانوا اربعين اومائة فهم الذين خرجوا من الكوفة بشِقِّ الانفس خُفية ايام المهادنة. وهذا قرينة اكيدة على ان خطة مسلم مع انصار الحسين بعد اعتقال هانئ بن عروة في الكوفة هي اللحاق بالحسين (عليه السلام) كل بحسب قدرته وتمكنه ولم تكن خطته ان يثور باهل الكوفة ضد ابن زياد.
(6) دويد: تصغير داود.
(7) تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر ج 41 ص 218.
(8) من المؤكد ان الحسين (عليه السلام) قد ذكر لهم حديث الغدير وحديث الثقلين وحديث الكساء وقول النبي: (رحم الله من احب حسينا، حسين مني وانا من حسين) ولكن ابا مخنف لم تكن سياسته في وضع كتابه ان يذكر ذلك مسايرة لهدف بني العباس.
(9) طم الماء: علا وغمر، والجمام :جمع جمة، وهو المكان الذي يجتمع فيه الماء.
(10) تاريخ الطبري - الطبري ج 4 ص 322 .
(11) تاريخ ابن عساكر 14/219 .
(12) ظئار :اللئام اظهار حبهم وعطفهم.
(13) يختلف نص الخطبة عند ابي مخنف عن نصها عند ابن عساكر في تاريخ دمشق 14/219. وقد اخترنا من الخطبتين المقاطع التي نرى انها صحيحة.
(14) الأحزاب/23.
![]() |
![]() |