الباب الثالث : حركة الحسين (عليه السلام) في مواجهة الانقلاب الأموي
الفصل الثالث : طرف من أخبارشهادة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم)

هجوم جيش ابن سعد على اصحاب الحسين (عليه السلام):

ثم صاح عمرو بن الحجاج بالناس: يا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر، قوما مستميتين لا يبرزن لهم منكم أحد فإنهم قليل وقلما يبقون، والله لولم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: صدقت الرأي ما رأيت، وأرسل إلى الناس يعزم عليهم إلا يبارز رجل منكم رجلا منهم.

(قال أبومخنف: حدثني الحسين بن عقبة المرادي، قال الزبيدي): إنه سمع عمروبن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين يقول:

يا أهل الكوفة !الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام.

فقال له الحسين(عليه السلام): يا عمرو بن الحجاج أعليَّ تحرض الناس؟أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه؟ أما والله لتعلمُّن لوقد قبضت أرواحكم ومتم على أعمالكم أينا مرق من الدين ومن هوأولى بصلي النار.

قال ابومخنف: (وقاتلوهم حتى انتصف النهار اشد قتال خلقه الله، واخذوا لا يقدرون ان يأتوهم الا من وجه واحد لاجتماع ابنيتهم وتقارب بعضها مع بعض، فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين(عليه السلام) قد قتل فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبين فيهم وأولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم.

آخر صلاة للحسين (عليه السلام) وأصحابه (رضوان الله عليهم):

قال: فلما رأى ذلك أبوثمامة عمروبن عبد الله الصائدي قال للحسين(عليه السلام): يا أبا عبد الله نفسي لك الفِداء، إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله وأحب أن ألقى ربي، وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها.

قال: فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه، ثم قال:

"ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي ".

فقال لهم الحصين بن تميم: إنها لا تقبل.

فقال له حبيب بن مظاهر: لا تقبل زعمت الصلاة من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتقبل منك يا حمار؟.

ثم صلوا الظهر، وصلّى بهم الحسين (عليه السلام) صلاة الخوف.

شهادة حبيب بن مظاهر:

وحمل حصين بن تميم على اصحاب الحسين فخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف فشب ووقع عنه، وحمله أصحابه، فاستنقذوه وأخذ حبيب يقول:

أنا حبيب وأبي مظاهرْ *** فارس هيجاء وحرب تسعَرْ
أنتمْ أعدُّ عدة وأكثرْ *** ونحن أوفى منكمُ وأصبَرْ
ونحن أعلى حجة وأظهرْ *** حقاً وأتقى منكمُ وأعذَرْ

وقاتل قتالا شديدا، فحمل عليه رجل من بني تميم، فضربه بالسيف على رأسه فقتله، وكان يقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع فذهب، ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه.

فقال له الحصين: إني لشريكك في قتله. فقال الآخر: والله ما قتله غيري !فقال الحصين: أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله! ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه. قال: فأبى عليه فأصلح قومه فيما بينهما على هذا فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر قد علقه في عنق فرسه، ثم دفعه بعد ذلك إليه.

قال أبومخنف: حدثني محمد بن قيس قال: لما قتل حبيب بن مظاهر هدَّ ذلك حسينا وقال عند ذلك: أحتسب نفسي وحماة أصحابي.

شهادة الحنفي:

ثم اقتتلوا بعد الظهر، فاشتد قتالهم، ووصل إلى الحسين (عليه السلام)، فاستقدم الحنفي أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يمينا وشمالا قائما بين يديه، فما زال يرمى حتى سقط.

شهادة زهير بن القين:

وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا وأخذ يقول:

أنا زهير وأنا ابن القين *** أذودهم بالسيف عن حسين

قال: وأخذ يضرب على منكب الحسين (عليه السلام) ويقول:

أقدِم هُدِيت هاديا مهديا *** فاليوم تلقى جدَّك النبيّا
وحسَنا والمرتضى عليّا *** وذا الجناحين الفتى الكميّا

قال: فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه.

شهادة بقية الاصحاب الحسين (عليه السلام):

قال: فلما رأى أصحاب الحسين انهم قد كُثِروا وانهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينا ولا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه،وجاء الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع وهما ابنا عم وأخوان لأم فأتيا حسينا فدنوا منه وهما يبكيان.

فقال: أي ابني أخي ما يبكيكما؟فوالله إني لأرجوأن تكونا عن ساعة قريري عين، قالا: جعلنا الله فداك لا والله ما على أنفسنا نبكي ولكنا نبكي عليك نراك قد أحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك.

فقال: جزاكما الله يا بني أخي بوجدكما من ذلك ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين.

قال: وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي الحسين (عليه السلام) فأخذ ينادي: (وقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَْحْزابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * ويا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) غافر/30-33 يا قوم لاتقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى.

فقال له الحسين(عليه السلام): يا ابن أسعد رحمك الله، إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟ قال: صدقت، جعلت فداك، أنت أفقه مني وأحق بذلك، أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا؟ فقال: رُح إلى خير من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى، فقال: السلام عليك أبا عبد الله، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك وعرف بيننا وبينك في جنته، فقال: آمين آمين، فاستقدم فقاتل حتى قتل.

شهادة ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) وآل أبي طالب:

قال: وكان أول قتيل من بني أبي طالب يومئذ علي الأكبر بن الحسين بن علي (عليهم السلام) وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي وذلك أنه أخذ يشد على الناس وهويقول:

أنا علي بن حسين بن علي *** نحن وربِّ البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدَّعي

ففعل ذلك مرارا.

فبصر به مرة بن منقذ العبدي فقال: عليَّ آثام العرب إن مر بي يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكل أباه، فمر يشد على الناس بسيفه، فاعترضه مرة بن منقذ فطعنه، فصرع واحتوشه الناس فقطعوه بأسيافهم.

قال أبومخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم الأزدي قال: سماع أذني يومئذ من الحسين (عليه السلام) يقول: قتل الله قوما قتلوك يا بُنَيَّ ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفاء.

وأقبل الحسين (عليه السلام) إلى ابنه وأقبل فتيانه إليه فقال: احملوا أخاكم فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.

قال: ثم إن عمرو بن صبيح الصائدي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته فأخذ لا يستطيع أن يحرك كفيه، ثم انتحى له بسهم آخر ففلق قلبه،

فاعتَوَرَهم الناس من كل جانب.

فحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب فقتله.

وخرج محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو يقول:

قد بدلوا معالم الفرقان *** فعال قوم في الردى عميان
نشكو الى الله من العدوان *** ومحكم التنزيل والتبيان

فحمل عليه عامر بن نهشل التيمي فقتله.

وشد عثمان بن خالد ابن أسير الجهني وبشر بن سوط الهمداني ثم القابضي على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه.

ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمي جعفر بن عقيل بن أبي طالب فقتله.

قال أبومخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال: خرج إلينا غلام كان وجهه شقة قمر، في يده السيف، عليه قميص وإزار ونعلان، قد انقطع شسع أحدهما ما أنسى أنها اليسرى.

فقال لي عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه، فقلت له: سبحان الله وما تريد إلى ذلك؟يكفيك قتله هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه.

قال: فقال: والله لأشِدَّن عليه، فشدَّ عليه، فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف فوقع الغلام لوجهه.

فقال: يا عماه! قال: فجلى الحسين (عليه السلام) كما يجلي الصقر، ثم شدَّ شّدة ليث غضب، فضرب عمرا بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنَّها من لدن المرفق فصاح ثم تنحى عنه، وحملت خيل لأهل الكوفة ليستنقذوا عمرا من الحسين (عليه السلام)، فاستقبلت عمرا بصدورها، فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه فوطئته حتى مات.

وانجلت الغبرة، فإذا أنا بالحسين (عليه السلام) قائم على رأس الغلام والغلام يفحص برجليه، والحسين (عليه السلام) يقول: بُعداً لقومٍ قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك، ثم قال: عزَّ والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أويجيبك ثم لا ينفعك، صوت واللهِ كثُرَ واترُه وقلَّ ناصرُه. ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض وقد وضع الحسين (عليه السلام) صدره على صدره، فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين (عليه السلام) وقتلى قد قتلت حوله من أهل بيته.

قال: فسألت عن الغلام؟ فقيل: هوالقاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام).

قال: وشد هانىء بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي بن أبي طالب فقتله.

ثم شد على جعفر بن علي فقتله.

ورمى خَوَلّي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي بن أبي طالب بسهم، ثم شد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله.

ورمى رجل من بني أبان بن دارم محمد بن علي بن أبي طالب فقتله.

شهادة العباس بن علي بن ابي طالب (عليه السلام)

وبقي العباس بن علي (عليه السلام) قائما أمام الحسين (عليه السلام) يقاتل دونه ويميل معه حيث مال، وكان لواء الحسين بيده، فخرج، فحملوا عليه وحمل عليهم وهويقول:

لا أرهب الموت إذا الموت رَقى *** إني أنا العباس أغدوا بالسِّقا
نفسي لنفس المصطفى الطهر وِقا *** حتى أُوارى في المصاليت لَقا

ولا أخاف الشر يوم الملتقى

ففرقهم، فكمن له زيد بن الورقاء الجهني من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي، فضربه على يمينه فاخذ السيف بشماله وحمل عليه وهويرتجز:

والله إن قطعتم يميني *** إني أحامي أبدا عن ديني
وعن إمام صادق اليقين *** نجل النبي الطاهر الامين

فقاتل حتى ضعف، وضربه حكيم بن الطفيل على شماله فقطعها وضربه بعمود من حديد فقتله.

وقال الحسين(عليه السلام): الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي.

شهادة عبد الله الرضيع:

قال ابو مخنف: قال عقبة بن بشير الاسدي: قال لي ابوجعفر محمد بن علي بن الحسين: وأُتيَ الحسين بصبي له في الرضاع، فهو في يده إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه فتلقى الحسين (عليه السلام) دمه فلما ملأ كفيه صبه في الأرض ثم قال:

"رب إن تكُ حبستَ عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هوخير وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين ".

شهادة الامام الحسين (عليه السلام):

قال أبومخنف: عن الحجاج عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي عن عبد الله بن عمار قال:

" فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتِل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مَقدَماً منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف الِمعزى إذا شدَّ فيها الذئب. "

قال هشام: حدثني عمروبن شمر عن جابر الجعفي قال: عطش الحسين (عليه السلام) حتى اشتد عليه العطش فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه، فجعل يتلقى الدم من فمه ويرمي به إلى السماء ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يديه فقال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تذر على الأرض منهم أحدا.

قال هشام عن أبيه محمد بن السائب عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال: حدثني من شهد الحسين (عليه السلام) في عسكره، أن حسينا حين غُلب على عسكره، ركب المُسنّاة يريد الفرات، فضربه رجل من بني أبان بن دارم بسهم فأثبته في حنك الحسين(عليه السلام): فانتزع الحسين السهم، ثم بسط كفيه فامتلأت دما، ثم قال الحسين(عليه السلام): اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك.

قال أبومخنف في حديثه: إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحومن عشرة من رجالة أهل الكوفة قِبَلَ منزل الحسين (عليه السلام) الذي فيه ثقله وعياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه وبين رحله.

قال الحسين(عليه السلام):

ويلكم: يا شيعة ال ابي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم هذه، ذوي أحساب امنعوا عتاتكم وطغاتكم (طغامكم) عن التعرض لحرمي (1).

فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا ابن فاطمة، وأقدم عليه بالرَّجّالة فأخذ الحسين(عليه السلام) يشد عليهم فينكشفون عنه.

ثم إنهم أحاطوا به إحاطة وقد اوثقته السهام فحملوا عليه من كل جانب.

قال: ومكث الحسين (عليه السلام) طويلا من النهار، كلما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عليه، قال: وإن رجلا من كندة يقال له مالك بن النسير من بني بداء، أتاه فضربه على رأسه بالسيف وعليه برنس له، فقطع البرنس وأصاب السيف رأسه، فأدمى رأسه فامتلأ البرنس دما، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين.

قال ابومخنف: فوالله إنه لكذلك إذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته (سلام الله عليها) وهي تقول: ليت السماء تطابقت على الأرض وقد دنا عمر بن سعد من الحسين (عليه السلام)، فقالت: يا عمر بن سعد أيقتل أبوعبد الله وأنت تنظر إليه قال: فكأني أنظر إلى دموع عمر وهي تسيل على خديه ولحيته، قال: وصرف بوجهه عنها.

قال: ولقد مكث طويلا من النهار، ولوشاء الناس أن يقتلوه لفعلوا ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء.

قال: فنادى شمر في الناس: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم، قال: فحمل عليه من كل جانب، فضربت كفه اليسرى ضربة ضربها زرعة بن شريك التميمي وضرب على عاتقه ثم انصرفوا وهو ينوء ويكبو قال: وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمروالنخعي فطعنه بالرمح فوقع.

قال: ثم قال شمر لِخَوَلّي بن يزيد الأصبحي: احتز رأسه فأراد أن يفعل فضعف فأَرْعَد. فنزل اليه سنان بن أنس فذبحه واحتز رأسه، ثم دفعه إلى خولي بن يزيد وقد ضرب قبل ذلك بالسيوف.

قال علي بن اسباط عن بعض اصحابه عن ابي جعفر الباقر(عليه السلام): لقد قتلوه قتلة نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يقتل بها الكلاب، لقد قُتل بالسيف وبالحجارة والخشب وبالعصا (2).

قال أبومخنف عن جعفر بن محمد بن علي قال: وجد بالحسين (عليه السلام) حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة.

الخيول تطأ جسد الحسين (عليه السلام) :

قال ابومخنف: ثم إن عمر بن سعد نادى في أصحابه: من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه، فانتدب عشرة، فأتوا، فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره.

يدفنون قتلاهم ويتركون الحسين (عليه السلام) وقتلاه:

وصلى عمر بن سعد على قتلاه ودفنهم، وترك الحسين (عليه السلام) واهل بيته وأصحابه.

بنات الحسين (عليه السلام) واخواته سبايا:

وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان وعلي بن الحسين (عليه السلام) وهومريض.

قال ابومخنف: ولما مرت النسوة بالحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن، فما نسيت من الأشياء لا أنس قول زينب ابنة فاطمة (عليها السلام) حين مرت بأخيها الحسين صريعا وهي تقول:

يا محمداه يا محمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء.

يا محمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا.

قال: فأبكت والله كل عدووصديق.

قال: وقطف رؤوس الباقين، فسرح باثنين وسبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمروبن الحجاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيد الله بن زياد.

وروى نوح بن دراج، قال: حدثني قدامة بن زائدة، عن أبيه، قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): … انه لما اصابنا بالطف ما اصابنا وقتل ابي (عليه السلام) وقتل من كان معه من ولده واخوته وسائر اهله، وحملت حرمه ونساؤه على الاقتاب يراد بنا الكوفة، فجعلت انظر إليهم صرعى ولم يوارَوْا، فعظم ذلك في صدري، واشتد لما ارى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبري بنت علي (عليه السلام)، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وابي واخوتي؟!

فقلت: وكيف لا اجزع واهلع وقد أري سيدي واخوتي وعمومتي وولد عمي واهلي مضرجين بدمائهم، مرملين بالعري، مسلبين، لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم احد، ولا يقربهم بشر، كأنهم اهل بيت من الديلم والخزر؟؟!

فقالت: لا يجزعنك ما تري، فو الله ان ذلك لعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى جدك وابيك وعمك، ولقد اخذ الله ميثاق اناس من هذه الامة لا تعرفهم فراعنة هذه الامة، وهم معروفون في اهل السماوات انهم يجمعون هذه الاعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة وينصبون لهذا الطف علما لقبر ابيك سيد الشهداء، لا يدرس اثره ولا يعفورسمه على كرور الليالي والايام، وليجتهدن ائمة الكفر واشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد اثره الا ظهورا، وأمره الا علوا (3).

زينب وابن زياد:

وأُدخِلت السبايا على عبيد الله بن زياد والتفت عبيد الله الى زينب فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.

فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، إنما يفُتَضَحُ الفاسق ويكذب الفاجر.

قال: فكيف رأيتِ صُنعَ الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجون إليه وتخاصمون عنده.

قال: فغضب ابن زياد واستشاط.

قال: فقال له عمروبن حريث: أصلح الله الأمير إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها، إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خَطَل.

فقال لها ابن زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.

قال: فبكت، ثم قالت: لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإن يُشفِكَ هذا فقد اشتفيت.

قال أبومخنف عن المجالد بن سعيد: أن عبيد الله بن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين(عليه السلام) قال لشرطي: انطلقوا به فاضربوا عنقه! فقال له علي(عليه السلام): إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن، فتعلقت به عمته زينب وقالت لزياد حسبك منا ما رويت من دمائنا؟ وهل ابقيت منا احدا؟. فقال ابن زياد عجبا للرحم والله اني لاظنها ودت لو أني لوقتلته قتلتها معه، دعوا الغلام (4).

شهادة عبد الله بن عفيف الازدي:

قال حميد بن مسلم: لما دخل عبيد الله القصر ودخل الناس نودي: الصلاة جامعة فاجتمع الناس في المسجد الأعظم فصعد المنبر ابن زياد فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.

فلما فرغ ابن زياد من مقالته وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الغامدي ثم أحد بني والبة (وكان من شيعة علي وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي فلما كان يوم صفين ضرب على رأسه ضربة وأخرى على حاجبه فذهبت عينه الأخرى فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف).

فلما سمع مقالة ابن زياد قال: يا بن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاكّ وأبوه يا بن مرجانة أ تقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين؟! فقال ابن زياد: عليَّ به.

فوثبت عليه الجلاوزة، فأخذوه: فنادى بشعار الأزد: يا مبرور !قال: وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي جالس فقال: ويح غيرك أهلكت نفسك وأهلكت قومك، قال: وحاضر الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل، قال: فوثب إليه فِتية من الأزد، فانتزعوه فأتوا به أهله فأرسل إليه من أتاه به فقتله وأمر بصلبه في السَّبخة فَصُلِب هنالك.

______________________________________

(1) ‏ الفتوح لابن اعثم ج5/214.

(2) ‏ بحار الانوار 45/91.

(3) كامل الزيارات ـ جعفر بن محمد بن قولويه ص 444. وفي الرواية بقية، تقول زينب: (ان ام ايمن حدثتها ان رسول الله (صلى الله عليه وآله)زار منزل فاطمة (عليها السلام) في يوم من الايام، فعملت له حريرة وأتاه علي (عليه السلام) بطبق فيه تمر، ثم قالت ام ايمن: فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله (صلى الله عليه وآله)وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليها السلام)من تلك الحريرة، وشرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشربوا من ذلك اللبن، ثم اكل واكلوا من ذلك التمر والزبد، ثم غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده وعلي يصب عليه الماء، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه، ثم نظر الى علي وفاطمة والحسن والحسين نظرا عرفنا به السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحوالسماء مليا، ثم وجه وجهه نحوالقبلة وبسط يديه ودعى، ثم خر ساجدا وهوينشج، فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه واطرق الى الارض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) وحزنت معهم لما رأينا من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهبناه ان نسأله، حتى إذا طال ذلك قال له علي وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول الله؟ لا أبكى الله عينيك، فقد اقرح قلوبنا ما نرى من حالك، فقال: يا اخي سررت بكم سرورا ما سررت مثله قط واني لأنظر اليكم واحمد الله على نعمته فيكم، إذ هبط على جبرئيل فقال: يا محمد ان الله تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك وعرف سرورك باخيك وابنتك وسبطيك فاكمل لك النعمة وهناك العطية، بان جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة، لا يفرق بينك وبينهم، يُحبَوْن كما تحبى ويعطون كما تُعطى، حتى ترضى وفوق الرضا على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بايدي اناس ينتحلون ملتك ويزعمون انهم من امتك برءا من الله ومنك، خبطا خبطا وقتلا قتلا، شتى مصارعهم نائية قبورهم، خيرة من الله لهم ولك فيهم، فاحمد الله عزوجل على خيرته وارض بقضائه، فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم. ثم قال لي جبرئيل: يا محمد ان اخاك مضطهد بعدك، مغلوب على امتك، متعوب من اعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله اشر الخلق والخليقة واشقى البرية، يكون نظير عاقر الناقة، ببلد تكون إليه هجرته، وهومغرس شيعته وشيعة ولده... وان سبطك هذا - واومي بيده الى الحسين (عليه السلام) - مقتول في عصابة من ذريتك واهل بيتك واخيار من امتك بضفة الفرات بارض يقال لها: كربلاء وهي اطيب بقاع الارض واعظمها حرمة، وانها من بطحاء الجنة... ثم يبعث الله قوما من امتك لا يعرفهم الكفار، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية، فيوارون اجسامهم ويقيمون رسما لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء، يكون علما لاهل الحق وسببا للمؤمنين الى الفوز، وتحفه ملائكة من كل سماء مائة الف ملك في كل يوم وليلة، ويصلون عليه ويسبحون الله عنده، ويستغفرون الله لمن زاره، ويكتبون اسماء من يأتيه زائرا من امتك متقربا الى الله تعالى واليك بذلك، واسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم... وسيجتهد اناس ممن حقت عليهم اللعنة من الله والسخط ان يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا اثره، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم الى ذلك سبيلا. ثم قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): فهذا أبكاني وأحزنني...

(4) ‏ كان (عليه السلام) ابن خمس وعشرين، ولكن مرض الاسهال جعله بمنظر الغلمان.

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري