![]() |
![]() |
الباب الثالث : حركة الحسين (عليه السلام) في مواجهة الانقلاب الأموي
الفصل الثالث : طرف من أخبارشهادة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم)
قال الطبري: لما وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يدي ابن زياد أخذ ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زيد بن أرقم: لا ينجُم
فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قال: فنهض فخرج.
قال أبومخنف: ثم إن عبيد الله بن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة، فجعل يدار به في الكوفة، ثم دعا زُحَر بن قيس فسرَّح معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية، وكان مع زحر أبوبردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بها الشام على يزيد بن معاوية.
قال هشام: فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي عن أبيه عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير قال: والله إنا لعند يزيد ابن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية، فقال له يزيد: ويلك ما وراءك وما عندك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره.
قال: ثم إن عبيد الله أمر بنساء الحسين وصبيانه، فجُهِّزْنَ وأمر بعلي ابن الحسين فغُلَّ بِغِلٍّ إلى عنقه، ثم سُرِّح بهم مع مُحَفِّز بن ثعلبة العائذي عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد.
روى ابن أعثم الكوفي قال: وأتي بحرم رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتى أُدخلوا مدينة دمشق من باب يقال له: باب توما، ثمّ أتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يقام السبي، وإذا شيخ قد أقبل حتّى دنا منهم وقال: الحمد لله الّذي قتلكم وأهلككم وأراح الرجال من سطوتكم وأمكن أمير المؤمنين منكم!
فقال له عليّ بن الحسين: يا شيخ هل قرأت القرآن؟
فقال: نعم قد قرأته،
قال: فعرفت هذه الاية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ؟
قال الشيخ: قد قرأت ذلك،
قال علي بن الحسين(رحمه الله): فنحن القربى يا شيخ.
قال: فهل قرأت في سورة بني اسرائيل (وآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّه) ؟
قال الشيخ: قد قرأت ذلك،
فقال عليّ(رحمه الله): نحن القربى يا شيخ،
ولكن هل قرأت هذه الاية: (واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) ؟
قال الشيخ: قد قرأت ذلك،
قال علي(عليه السلام): فنحن ذوالقربى يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه الاية: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ؟
قال الشيخ: قد قرأت ذلك،
قال علي(عليه السلام): فنحن أهل البيت الذين خصّصنا بآية التطهير.
قال: فبقي الشيخ ساعة ساكتا نادما على ما تكلّمه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهم إنّي تائب إليك ممّا تكلمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللهم إنّي أبرأ إليك من عدومحمّد وآل محمّد من الجنّ والانس
وجلس يزيد بن معاوية لاستقبالهم ودعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله، ثمّ دعا بعليّ بن الحسين (عليه السلام) وصبيان الحسين ونساءه فأُدخوا عليه والناس ينظرون.
وروى سبط ابن الجوزي وغيره وقالوا: انّ الصبيان والصبيات من بنات رسول الله كانوا موثقين في الحبال
قال أبومخنف: حدثني الصقعب بن زهير عن القاسم بن عبد الرحمن مولى يزيد بن معاوية قال: لما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد، رأس الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه قال يزيد:
يفلقن هاما من رجال أعزة *** علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال يحيى بن الحكم أخو مروان:
لهام بجنب الطفّ أدنى قرابة من *** ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سميّة أمسى نسلها عدد الحصى *** وبنت رسول الله ليس لها نسل
فضرب يزيد في صدر يحيى وقال: اسكت
في فتوح ابن أعثم، قال: فالتفت حبر من أحبار اليهود وكان حاضراً فقال: من هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذا، صاحب الرأس أبوه.
قال: ومن هوصاحب الرأس يا أمير المؤمنين؟
قال: الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)،
قال: فمن أمّه؟ قال: فاطمة بنت محمّد(صلى الله عليه وآله).
فقال الحبر: يا سبحان الله هذا ابن (بنت) نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة؟ بئس ما خلّفتموه في ذريته،... فارقكم نبيّكم بالامس فوثبتم على ابن نبيّكم فقتلتموه. سوءة لكم من امّة!
قال: فأمر يزيد بكرٍّ
فقال الحبر: ان شئتم فاضربوني أوفاقتلوني أوقرّروني، فانّي أجد في التوراة أنه من قتل ذريّة نبي لا يزال مغلوباً أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنّم
روى ابن أعثم والخوارزمي وابن كثير وغيرهم، أنّ خليفة المسلمين يزيد جعل يتمثّل بابيات ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهِدوا *** جزعَ الخزرج من وَقْع الأسل
لأَهلّوا واستهلّوا فرَحا *** ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَلّ
قد قتلنا القَرْمَ
قال ابن أعثم ثمّ زاد فيها هذا البيت من نفسه:
لست من عتبة ان لم أنتقم *** من بني أحمدَ ما كان فعل
وفي تذكرة خواصّ الامّة : المشهور عن يزيد في جميع الروايات أنّه لمّا حضر الرأس بين يديه جمع أهل الشام وجعل ينكت عليه بالخيزران ويقول أبيات ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهِدوا *** جزعَ الخزرج من وَقْع الأسل
قد قتلنا من ساداتهم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل
وقال: قال الشعبي: وزاد عليها يزيد فقال:
لعبت هاشم بالملكِ فلا *** خبرٌ جاء ولا وحي نزل
لست من خِندِفَ ان لم أنتقم *** من بني أحمد ما كان فعل
قال العلامة العسكري: لمّا كانت أبيات ابن الزِّبَعرَى مشهورة ترويها الرواة قبل تمثّل يزيد ببعضها، ثمّ تمثّل بها يزيد وأضاف إليها الابيات الثاني والرابع والخامس فأخذها الرواة عنه وأحيانا أضافوا إلى ما أنشده يزيد ما كان في ذاكرتهم من أصل الابيات، ومن ثمّ حصل بعض الاختلاف في الفاظ الروايات
روى ابن طيفور
يا غراب البين اسمعت فقل *** انما تذكر شيئا قد فعل
ليت اشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها *** واستحر القتل في عبد الأشل
لأهلوا واستهلوا فرحا *** ثم قالوا يايزيد لا تشل
فجزيناهم ببدر مثلها *** وأقمنا ميل بدر فاعتدل
لست للشيخين ان لم اثأَر *** من بني أحمد ما كان فعل
فقالت زينب بنت علي(عليه السلام):
صدق الله سبحانه (حيث يقول) (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ). ثم اورد ابن طيفور تمام خطابها رضي الله عنها، ونحن نورد الخطبة برواية ابن طاووس لانها افصح واتم في بعض الموارد:
أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطارَ الارض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ; انّ بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمَختَ بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والامور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى: (ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ؟
«أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرَك حرائرَك وإماءَك وسَوْقَك بنات رسول الله سبابا؟ قد هُتكت ستورهنّ، وأُبديت وجوههنّ، تحدوبهنَّ الاعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمعاقل، ويتصفّح وجوههنَّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف، ليس معهنّ من حُماتهنّ حميّ ولا من رجالهنّ وليّ، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوهُ أكباد الازكياء، ونبت لحمُه من دماء الشهداء؟ وكيف يُستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشَّنَف والشَّنَآن، والإحَنِ والاضغان؟ ثمّ تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لاهلّوا واستهلوا فرحاً *** ثمّ قالوا يا يزيد لا تَشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، وأستاصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذريّة محمّد(صلى الله عليه وآله) ونجوم الارض من آل عبد المّطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم فلتردنّ وشيكا موردهم، ولتودّنّ أنّك شُلِلْت وبَكُمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت»؟!
اللهم خذ لنا بحقّنا، وانتقم مّمن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا. فوَالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولتردنّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيتّه، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم; (ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
«وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّد (صلى الله عليه وآله)خصيماً، وبجبريل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا، وأيّكم شرّ مكانا واضعف جنداً، ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لاستصغر قدرَك واستعظم تقريعَك، واستكثر توبيخَك، ولكن العيون عبرى، والصدور حرّى. ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الايدي تنطف من دمائنا، والافواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمّهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مَغنما، لتجدنا وشيكا مَغرما، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك وما ربُّك بظلاّم للعبيد، وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل».
«فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فَوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولايَرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند، وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد؟ يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين».
«والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لاوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولأخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، انّه رحيم ودود، وهوحسبنا ونعم الوكيل».
فقال يزيد:
يا صيحة تحمد من صوائح *** ما أهون النوح على النوائح
وفي سِيَرِ أعلام النبلاء وتاريخ ابن كثير وغيرهما : أنّ رأس الحسين (عليه السلام) صلب بمدينة دمشق ثلاثة أيّام
وفي فتوح ابن أعثم ومقتل الخوارزمي: انّ يزيد أمر الخطيب أن يرقى المنبر ويثني على معاوية ويزيد وينال من الامام عليّ والامام الحسين (عليهما السلام)، فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين (عليهما السلام)، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد.
فقال علي بن الحسين: يا يزيد ائذن لي حتّى أصعد هذه الاعواد، فأتكلّم بكلمات فيهّن لله رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب، فأبى يزيد.
فقال الناس: يا أمير المؤمنين أئذن له ليصعد، فعلّنا نسمع منه شيئاً، فقال لهم: ان صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.
فقالوا: وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: انّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّا ولم يزالوا به حتى أذن له بالصعود، فصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه وقال:
أيّها النّاس، أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع: أُعطينا العلم، والحلم، والسماحة والفصاحة، والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّداً (صلى الله عليه وآله)، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيار، ومنّا أسد الله وأسد الرسول، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الامّة وسيّدا شباب أهل الجنّة ; فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي:
أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حُمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن من حجّ ولبّى، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أوأدنى، أنا ابن محمّد المصطفى.
أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلاّ الله، أنا ابن من بايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، يعسوب المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، سمح سخي، بهلول زكيّ، ليث الحجاز وكبش العراق، مكيّ مدنيّ، أبطحيّ تهاميّ، خيفيّ عقبيّ، بدريّ، أحديّ، شجريّ مهاجريّ، أبي السبطين الحسن والحسين علي بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء، أنا ابن بضعة الرسول...
قال: ولم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة.
فأمر المؤذّن أن يؤذّن، فقطع عليه الكلام وسكت.
فلمّا قال المؤذن: الله أكبر.
قال علي بن الحسين(عليه السلام): كبّرت كبيرا لا يقاس، ولا يدرك بالحواسّ، ولا شيء أكبر من الله.
فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله.
قال علي: شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي ومُخّي وعظمي.
فلمّا قال أشهد أن محمّداً رسول الله.
التفت علي من أعلى المنبر إلى يزيد وقال: يا يزيد! محمّدٌ هذا جدّي أم جدّك؟ فان زعمت أنّه جدّك فقد كذبت، وان قلت انّه جدّي فلِمَ قتلت عترته؟.
قال وفرغ المؤذّن من الاذان والاقامة فتقدّم يزيد وصلّى الظهر
قال ابن اعثم: خرج علي بن الحسين (عليه السلام) ذات يوم، فجعل يمشي في أسواق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمروالصحابي فقال له: كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟
قال: أمسينا كبني اسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بانّ محمّداً منهم، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا أهل بيت محمّد ونحن مغصوبون مظلومون مقهورون مقتّلون مثبورون مطرّدون، فانّا لله وإنّا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال
قال ابن الاثير وروى الاوزاعي عن شداد بن عبيد الله قال :سمعت واثلة بن الاسقع وقد جئ برأس الحسين، فلعنه رجل من أهل الشام ولعن أباه، فقام واثلة وقال: والله لا أزال أحب عليا والحسن والحسين وفاطمة بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم ما قال، لقد رأيتني ذات يوم وقد جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة فجاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى وقبله، ثم جاء الحسين فأجلسه على فخذه اليسرى وقبله، ثم جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه، ثم دعا بعلي، ثم قال (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ،
قال شداد: قلت لواثلة: ما الرجس؟
قال: الشك في الله عز وجل
قال هشام : حدثني عوانة بن الحكم قال: لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي(عليه السلام) وجيء برأسه إليه، دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال : انطلق حتى تقدم المدينة على عمروبن سعيد بن العاص فبشره بقتل الحسين (عليه السلام) (وكان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ).
قال: فذهب ليعتل له، فزجره وكان عبيد الله لا يصطلي بناره، فقال: انطلق حتى تأتي المدينة ولا يسبقك الخبر، وأعطاه دنانير وقال: لا تعتل وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة.
قال عبد الملك: فقدمت المدينة فلقيني رجل من قريش فقال: ما الخبر فقلت: الخبر؟عند الأمير. فدخلت على عمروبن سعيد فقال: ما وراءك.
فقلت: ما سرَّ الأمير، قتلُ الحسين بن علي(عليه السلام).
فقال: ناد بقتله، فناديت بقتله، فلم أسمع والله واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين(عليه السلام).
فقال عمروبن سعيد وضحك:
عجت نساء بني زياد عجة *** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
والأرنب: وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب من رهط عبد المدان وهذا البيت لعمروبن معديكرب.
ثم قال عمرو: هذه واعية بواعية عثمان بن عفان، ثم صعد المنبر فأعلم الناس بقتله
روى الطبري: ان يزيد بن معاوية كلَّف النعمان بن بشير بأن يجهِّزهم بما يصلحهم، ويبعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً صالحاً، وابعث معه خيلاً وأعوانا فيسير بهم إلى المدينة.
وفي مثير الاحزان واللهوف: انّ آل الرسول لمّا بلغوا العراق طلبوا من الدليل ان يمرّ بهم على كربلاء، فلمّا وصلوا مصرع الشهداء وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وجماعة من بني هاشم قدموا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فوافَوْا في وقت واحد فتلاقوا بالحزن والبكاء، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد وأقاموا على ذلك أيّاماً، ثمّ انفصلوا من كربلاء قاصدين مدينة جدهم.
روى بشير بن حذلم قال: لمّا قرُبنا من المدينة حطَّ علي بن الحسين (عليه السلام) رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه، وقال: يا بشير! رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه؟ فقال: بلى يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انّي لشاعر. فقال(عليه السلام): ادخل المدينة وانع أبا عبد الله.
قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة، فلمّا بلغت مسجد النبي(صلى الله عليه وآله) رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:
يا أهل يثرب لا مقام لكم *** بها قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرّج *** والرأس منه على القناة يدار
قال: ثمّ قلت: هذا علي بن الحسين (عليه السلام) مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه.
قال: فلم يبق في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ برزن من خدورهنّ وهنّ بين باكية ونائحة ولاطمة، فلم يُر يوم أمّر على أهل المدينة منه، وسألوه: من أنت؟ قال: فقلت: أنا بشير ابن حذلم، وجَّهني علي بن الحسين وهونازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله ونسائه، قال: فتركوني مكاني وبادروني، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع فنزلت عن فرسي وتخطَّيتُ رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط، وكان علي بن الحسين (عليه السلام) داخلاً فخرج وبيده خرقة يمسح بها دموعه وخادم معه كرسيّ، فوضعه وجلس وهومغلوب على لوعته، فعزّاه الناس فأومأ إليهم أن اسكتوا فسكنت فورتهم، فقال: الحمد لله ربّ العالمين مالك يوم الدين، بارىء الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السموات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الامور وفجائع الدهور، وجليل الرزء وعظيم المصائب. أيّها القوم أنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصيبة جليله، وثلمة في الاسلام عظيمة، قتل أبوعبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، أيّها الناس فأيّ رجالات يسرّون بعد قتله؟ أيّة عين تحبس دمعها وتضن عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار والسموات والارض والاشجار والحيتان، والملائكة المقرّبون وأهل السموات أجمعون. أيّها الناس أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام فلا يُصَمُّ؟
أيّها الناس أصبحنا مطرودين مشردين، كأنّا أولاد ترك أوكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، والله لو أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوه، فانّا لله وإنّا إليه راجعون.
فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان، وكان زمِنا فاعتذر إليه فقبل عذره وشكر له، وترحّم على أبيه
______________________________________
(1) لاينجُم: اي استمر ينكته بالقضيب.
(2) سير اعلام النبلاء 3/315.
(3) الفتوح /احمد بن أعثم 5/242 ـ 243، وذكرها الطبري متفرقة في تفسير الايات بتفسيره. جامع البيان ج 10/ 8: قال حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا الصباح بن يحيى المزني، عن السدي، عن ابن الديلمي، قال: قال علي بن الحسين (رحمه الله) لرجل من أهل الشام: أما قرأت في الانفال: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول... (الانفال 41)؟ قال: نعم، قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وفي ج 22/12: قال حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا الصباح بن يحيى المري، عن السدي، عن أبي الديلم، قال: قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام: أما قرأت في الاحزاب: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا قال:ولأنتم هم؟ قال: نعم. وفي (ج25/33): قال حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا الصباح بن يحيى المري، عن السدي، عن أبي الديلم قال: لما جئ بعلي بن الحسين رضي الله عنهما أسيرا، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرني الفتنة، فقال له علي بن الحسين(رحمه الله): أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أقرأت أل حم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم، قال: ما قرأت قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى(الشورى 23)؟ قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم.
(4) تذكرة خواص الامة ص 149، وفي اللهوف، ومثير الاحزان ص 79 واللفظ للتذكرة.
(5) الطبري ج4 ص352.
(6) الكر: الحبل الغليظ.
(7) فتوح ابن أعثم 5/246.
(8) القرم: السيد المعظم.
(9) ان أبيات ابن الزبعرى جاءت في سيرة ابن هشام (3/97)، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (2/382).
(10) معالم المدرستين (ج3 ص 162).
(11) بلاغات النساء 20-23.
(12) روى قصة نكت يزيد راس الحسين بقضيبه الذهبي في سير اعلام النبلاء (3/ 319). عن احمد بن محمد بن يحيى بن حمزة عن ابيه عن جده قال: اخبرني ابي حمزة بن يزيد الحضرمي، قال :رايت امرأة من اجمل النساء واعقلهن يقال لها ريا حاضنة يزيد، يقال :بلغت مئة سنة قال :دخل رجل على يزيد، فقال :ابشر فقد امكنك الله من الحسين وجئ برأسه، قال :فوضع في طست فامر غلام فكشف، فحين رآه خمَّرَ وجهه كأنه شمَّ منه، فقلت لها :أَقَرَعَ ثناياه بقضيب؟ قالت :أي والله. ثم قال حمزة :وقد حدثني بعض اهلنا انه رأى رأس الحسين مصلوبا بدمشق ثلاثة ايام. وروى (ص 320) عن كثير بن هشام قال: حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن ابي زياد، قال :لما اتي يزيد برأس الحسين جعل ينكت سِنَّه ويقول: ما كنت اظن ابا عبد الله بلغ هذا السن، واذا لحيته وراسه قد نصل من الخضاب.
(13) سير أعلام النبلاء (3/216)، ومقتل الخوارزمي (2/75)، وتاريخ ابن كثير (8/204)، وتاريخ ابن عساكر الحديث (296)، وراجع خطط المقريزي (2/289)، والاتحاف بحب الاشراف ص23.
(14) فتوح ابن أعثم 5/247 ـ 249، ومقتل الخوارزمي 2/69 ـ 71، وقد أوجزنا لفظ الخطبة.
(15) فتوح ابن أعثم 5/249 ـ 250.
(16) أسد الغابة 2 /19. وفي مصنف ابن ابي شيبة (ج12/72/ شواهد التنزيل الحسكاني 2/42) مسند أحمد (4/104)، واللفظ للأخير : حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن مصعب قال : ثنا الأوزاعي عن شداد أبي عمار قال : دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم، فذكروا عليا (وفي رواية ابن ابي شيبة والحسكاني: فشتموا، فشتمته معهم، فلما قاموا : قال شتمت هذا الرجل؟ قلت : رأيت القوم شتموه، فشتمته معهم) فلما قاموا قال :لي ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت :بلى، قال :أتيت فاطمة رضي الله تعالى عنها أسألها عن علي، قالت توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست انتظر حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله تعالى عنهم، آخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه واجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه (أو قال :كساء) ثم تلا هذه الآية ?إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً? وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق. قال ابن ابي شيبة: قال أبوأحمد العسكري : يقال ان الاوزاعي لم يرو في الفضائل حديثا غير هذا، والله أعلم، قال :وكذلك الزهري لم يرو فيها الا حديثا واحدا، كانا يخافان بني أمية.
(17) تاريخ الطبري(ج: 5 ص: 466) سنة 61.
(18) ـ مثير الاحزان ص 90 ـ 91، واللهوف 76 ـ 77.
![]() |
![]() |