الباب الرابع : آثار نهضة الحسين (عليه السلام) وشهادته
الفصل الثاني : تتابع الثورات وانهيارالحكم الأموي

ثورة أهل المدينة

رواية زهير بن ابي خيثمة وخليفة بن خياط:

روى أحمد بن زهير بن أبي خيثمة (1) قال: حدثنا أبي زهير (2) قال: حدثنا وهب بن جرير:

وروى خليفة بن خياط (3) قال: حدثنا وهب بن جرير (4) قال: حدثنا جويرية بن أسماء (5) قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا يزيد، فقال له: إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته.

فلما هلك معاوية وفد إليه وفد من أهل المدينة (6) وكان ممن وفد عليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وكان شريفا فاضلا سيدا عابدا معه ثمانية بنين له، فأعطاه مائة ألف درهم وأعطى بنيه لكل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم، فلما قدم المدينة عبد الله بن حنظلة أتاه الناس.

فقال له اهل المدينة: ما وراءك قال: جئتكم من عند رجل، والله لولم أجد إلا بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم.

قالوا: قد بلغنا أنه أجداك وأعطاك وأكرمك.

قال: قد فعل وما قبلت منه إلا لأَتقوّى به، وحضض الناس فبايعوه.

فبلغ ذلك يزيد، فبعث مسلم بن عقبة إليهم. فقتل عبد الله بن حنظلة وبنوه وانهزم الناس.

ودخل مسلم بن عقبة المدينة، (فدعا الناس للبيعة على انهم خول ليزيد بن معاوية يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء (7)) .

رواية محمد بن سعد:

وقال ابن سعد في ترجمة عبد الله بن حنظلة الغسيل: هوابن أبي عامر الراهب، من الأوس وأمه جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وكان حنظلة بن أبي عامر لما أراد الخروج إلى أحد وقع على امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول، فعلقت بعبد الله بن حنظلة في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة، وقتل حنظلة بن أبي عامر يومئذ شهيدا، وولدت جميلة عبد الله بن حنظلة بعد ذلك بتسعة أشهر، فقبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهوبن سبع سنين، وذكر بعضهم أنه قد رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبا بكر وعمر وقد روى عن عمر.

قال: وحدثنا سعيد بن محمد عن عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد وعن غيرهم أيضا كل قد حدثني قالوا :لما وثب أهل المدينة ليالي الحرة فأخرجوا بني أمية عن المدينة وأظهروا عيب يزيد بن معاوية وخلافه، أجمعوا على عبد الله بن حنظلة، فأسندوا أمرهم إليه، فبايعهم على الموت وقال:

يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لولم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء سنا.

فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي، وما كان لعبد الله بن حنظلة تلك الليالي مبيت إلا المسجد، وما كان يزيد على شربة من سويق يفطر عليها إلى مثلها من الغد يؤتى بها في المسجد يصوم الدهر وما رئي رافعا رأسه إلى السماء إخباتا. فلما دنا أهل الشام من وادي القرى صلى عبد الله بن حنظلة بالناس الظهر ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

أيها الناس إنما خرجتم غضبا لدينكم فابلوا لله بلاءً حسنا ليوجب لكم به مغفرته ويحل به عليكم رضوانه، قد خبرني من نزل مع القوم السويداء وقد نزل القوم اليوم ذا خشب ومعهم مروان بن الحكم والله إن شاء الله محينه بنقضه العهد والميثاق عند منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله).

فتصايح الناس وجعلوا ينالون من مروان ويقولون :الوزغ بن الوزغ. وجعل بن حنظلة يهدئهم ويقول :أن الشتم ليس بشيء ولكن اصدقوهم اللقاء، والله ما صدق قوم قط إلا حازوا النصر بقدرة الله.

ثم رفع يديه إلى السماء واستقبل القبلة وقال :اللهم إنا بك واثقون، بك آمنا وعليك توكلنا وإليك ألجأنا ظهورنا.

ثم نزل وصبح القوم المدينة، فقاتل أهل المدينة قتالا شديدا (حتى كثرهم أهل الشام) ودخلت المدينة من النواحي كلها، فلبس عبد الله بن حنظلة يومئذ درعين وجعل يحض أصحابه على القتال، فجعلوا يقاتلون وقتل الناس، فما ترى إلا راية عبد الله بن حنظلة ممسكا بها مع عصابة من أصحابه وحانت الظهر، فقال لمولى له :احمِ لي ظهري حتى أصلي! فصلى الظهر أربعا متمكنا، فلما قضى صلاته، قال له مولاه :والله يا أبا عبد الرحمن ما بقي أحد فعلام نقيم؟ولواؤه قائم ما حوله خمسة، فقال :ويحك إنما خرجنا على أن نموت، ثم انصرف من الصلاة وبه جراحات كثيرة، فتقلد السيف ونزع الدرع ولبس ساعدين من ديباج، ثم حث الناس على القتال وأهل المدينة كالأنعام الشُّرُد وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه، فلما هزم الناس طرح الدرع وما عليه من سلاح وجعل يقاتلهم وهوحاسر حتى قتلوه، ولما قتل عبد الله بن حنظلة لم يكن للناس مقام فانكشفوا في كل وجه، وكان الذي ولي قتل عبد الله بن حنظلة رجلان شَرَعا فيه جميعا وحزّا رأسه وانطلق به أحدهما إلى مسرف وهو يقول :رأس أمير القوم، فأومأ مسرف بالسجود وهوعلى دابته، وكانت الحرة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين (8).

رواية ابي مخنف:

قال هشام (9): قال أبومخنف: ثم إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحوعبد الله ابن حنظلة الغسيل ورجاله بعده كما حدثني عبد الله بن منقذ حتى دنوا منه وركب مسلم بن عقبة فرسا له، فأخذ يسير في أهل الشام ويحرضهم ويقول: يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها ولا أكثرها عددا ولا أوسعها بلدا ولم يخصصكم الله بالذي خصكم به من النصر على عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير الله بهم، فتموا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج. ثم جاء حتى انتهى إلى مكانه الذي كان فيه وأمر الخيل أن تقدم على ابن الغسيل وأصحابه، فأخذت الخيل إذا أقدمت على الرجال فثاروا في وجوهها بالرماح.

مقتل معقل بن سنان الاشجعي:

قال الحاكم في مستدرك الصحيحين (3/533): كان معقل بن سنان بن مطهر بن عركي بن فتيان بن سبيع بن بكر بن أشجع شهد الفتح مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فحدثني أبوعبد الرحمن بن عثمان بن زياد الأشجعي عن أبيه قال :كان معقل بن سنان الأشجعي قد صحب النبي (صلى الله عليه وآله) وحمل لواء قومه يوم الفتح وكان شابا طريا، وبقي بعد ذلك حتى بعثه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان على المدينة، فاجتمع معقل بن سنان ومسلم بن عقبة الذي يعرف بمسرف، (فقال معقل لمسرف :وقد كان آنسه وحادثه إلى أن ذكر معقل يزيد بن معاوية).

فقال معقل: إني خرجت كُرها لبيعة هذا الرجل، وقد كان من القضاء والقدر خروجي إليه، هو رجل يشرب الخمر ويزني بالحرم، ثم نال منه وذكر خصالا كانت فيه، ثم قال لمسرف :أحببت أن أضع ذلك عندك.

فقال مسرف :أما أن أذكر ذلك لأمير المؤمنين يومي هذا فلا والله لا أفعل، ولكن لله علي عهد وميثاق لا تمكنني يداي منك ولي عليك مقدرة إلا ضربت الذي فيه عيناك.

فلما قدم مسرف المدينة وأوقع بهم أيام الحرة (وكان معقل بن سنان يومئذ صاحب المهاجرين)فأتي به مسرف مأسورا.

فقال له :يا معقل بن سنان أعطشت؟قال نعم أصلح الله الأمير، قال :خوضوا له مشربة بلور، قال :فخاضوها له، فقال :أشربت ورويت؟قال :نعم قال أما والله لا تشتهي بعدها بما يفرح، يا نوفل بن مساحق (10) قم فاضرب عنقه !فقام إليه فقتله صبرا، وكانت الحرة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين.

وروى الطبري (11) قال: قال هشام: وأما عوانة بن الحكم فذكر أن مسلم بن عقبة بعث عمروبن محرز الأشجعي، فأتاه بمعقل بن سنان، فقال له مسلم: مرحبا بأبي محمد، أراك عطشاناً؟! قال: أجل! قال: شوبوا له عسلا بالثلج الذي حملتموه معنا (وكان له صديقا قبل ذلك)، فشابوه له، فلما شرب معقل قال له: سقاك الله من شراب الجنة، فقال له مسلم: أما والله لا تشرب بعدها شرابا أبدا حتى تشرب من شراب الحميم، قال: أنشدك الله والرحم، فقال له مسلم: أنت الذي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عند يزيد فقلت: (سرنا شهرا ورجعنا من عند يزيد صفرا نرجع إلى المدينة فنخلع هذا الفاسق ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة) إني آليت بيمين لا ألقاك في حرب أقدر فيه على ضرب عنقك إلا فعلت ثم أمر به فقتل.

قال هشام: قال عوانة: وأتى يزيد بن وهب بن زمعة فقال: بايع، قال: أبايعك على سنة عمر قال: اقتلوه، قال: أنا أبايع، قال: لا والله لا أقيلك عثرتك، فكلمه مروان بن الحكم لصهر كان بينهما فأمر بمروان (فوجئت)عنقه، ثم قال:

بايعوا على أنكم خول ليزيد بن معاوية، ثم أمر به فقتل (12).

علي بن الحسين (عليه السلام)لم يشترك في واقعة الحرة:

روى الطبري (13) عن ابي مخنف قال :قال عبد الملك بن نوفل: وفصل ذلك الجيش من عند يزيد، وعليهم مسلم بن عقبة، وقال له: إن حدث بك حدث فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني، وقال له: ادع القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا أظهرت عليهم فأبحها ثلاثا، فما فيها من مال أو رقة أوسلاح أوطعام فهوللجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس، وانظر علي بن الحسين (عليه السلام) فاكفف عنه، واستوص به خيرا وادن مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه، وقد أتاني كتابه. وعلي (عليه السلام) لا يعلم بشيء مما أوصى به يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة، وقد كان علي بن الحسين (عليه السلام) لما خرج بنوأمية نحو الشام آوى إليه ثقل مروان بن الحكم وامرأته عائشة بنت عثمان بن عفان وهي أم أبان بن مروان.

قال الطبري: وقد حُدِّثْتُ عن محمد بن سعد عن محمد بن عمر قال: لما أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد من المدينة كلم مروان بن الحكم ابن عمر أن يغيب أهله عنده،، فأبى ابن عمر أن يفعل، وكلم علي بن الحسين (عليه السلام) وقال: يا أبا الحسن إن لي رحما وحرمي تكون مع حرمك، فقال: افعل !فبعث بحرمه إلى علي بن الحسين (عليه السلام)، فخرج بحرمه وحرم مروان حتى وضعهم بينبع، وكان مروان شاكرا لعلي بن الحسين (عليه السلام) مع صداقة كانت بينهما قديمة (14).

وروى الطبري قال، قال هشام: قال عوانة عن أبي مخنف قال: قال عبد الملك بن نوفل بن مساحق: ثم إن مروان أتى بعلي بن الحسين (عليه السلام) وقد كان علي بن الحسين (عليه السلام) حين أخرجت بنوأمية منع ثقل مروان وامرأته وآواها، ثم خرجت إلى الطائف فهي أم أبان ابنة عثمان بن عفان فبعث ابنه عبد الله معها، فشكر ذلك له مروان...

قال هشام: وقال عوانة بن الحكم: لما أتي بعلي بن الحسين (عليه السلام) إلى مسلم قال: من هذا؟قالوا: هذا علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: مرحبا وأهلا، ثم أجلسه معه على السرير والطنفسة، ثم قال: إن أمير المؤمنين أوصاني بك قبلا وهويقول: إن هؤلاء الخبثاء شغلوني عنك وعن وصلتك، ثم قال لعلي(عليه السلام): لعل أهلك فزعوا؟قال: إي والله، فأمر بدابته فأسرجت، ثم حمله فرده عليها.

روى الذهبي عن الواقدي عن ابي بكر بن ابي سبرة عن يحيى بن شبل عن ابي جعفر سأله عن يوم الحرة هل خرج فيها أحد من بني عبد المطلب؟ قال لا لزموا بيوتهم، فلما قدم مسرف وقتل الناس سأل عن أبي أحاضر هو؟ قالوا :نعم قال :ما لي لا أراه؟فبلغ ذلك أبي فجاءه ومعه ابنا محمد بن الحنفية، فرحب بهم وأوسع لأبي على سريره وقال :كيف أنت؟ ان أمير المؤمنين أوصاني بك خيرا (15)...

موت مسرف بن عقبة:

قال الطبري: ثم دخلت سنة أربع وستين، ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث، قال أبوجعفر: فمن ذلك مسير أهل الشام إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير، ومن كان على مثل رأيه في الامتناع على يزيد بن معاوية.

ولما فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثا، شخص بمن معه من الجند متوجها إلى مكة. قال أبومخنف: حتى إذا انتهى مسلم بن عقبة إلى المشلَّل (ويقال: إلى قفا المشلل)نزل به الموت وذلك في آخر المحرم من سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني فقال له: يا بن برذعة الحمار، أما والله لوكان هذا الأمر إلي ما وليتك هذا الجند، ولكن أمير المؤمنين ولاك بعدي وليس لأمر أمير المؤمنين مرد، خذ عني أربعا: أسرع السير وعجل الوقاع وعم الأخبار ولا تمكن قرشيا من إذنك. ثم إنه مات فدفن بقفا المشلل.

قال هشام بن محمد الكلبي: (وذكر عوانة أن مسلم بن عقبة شخص يريد ابن الزبير حتى إذا بلغ ثنية (هِرشى) نزل به الموت، فبعث إلى رؤوس الأجناد فقال: إن أمير المؤمنين عهد إلي إن حدث بي حدث الموت، أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السكوني، والله لوكان الأمر إلي ما فعلت ولكن أكره معصية أمر أمير المؤمنين عند الموت، ثم دعا به فقال: انظر يا ابن برذعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به عم الأخبار ولا ترع سمعك قريشا أبدا ولا تردن أهل الشام عن عدوهم ولا تقيمن إلا ثلاثا حتى تناجز ابن الزبير الفاسق ثم قال:

" اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أحب إلي من قتلي أهل المدينة ولا أرجى عندي في الآخرة ".

ولما مات خرج حصين بن نمير بالناس، فقدم على ابن الزبير مكة وقد بايعه أهلها وأهل الحجاز.

وفي فتوح ابن أعثم، أن مسلم بن عقبة قال في وصيته للحصين بن نمير: فانظر أن تفعل في أهل مكة وفي عبد الله بن الزبير كما رأيتني فعلت بأهل المدينة. ثمّ جعل يقول:

"اللّهم انّك تعلم أنّي لم أعص خليفة قطّ، اللّهم انّي لا أعمل عملاً أرجو به النجاة إلاّ ما فعلت بأهل المدينة ".

ثمّ اشتدّ به الامر فمات. فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه، وبايع الناس للحصين بن نمير السكوني من بعده، وسار القوم يريدون مكة، وخرج أهل ذلك المنزل فنبشوه من قبره وصلبوه على نخلة. وبلغ ذلك أهل العسكر، فرجعوا إلى أهل ذلك المنزل، فوضعوا السيف فيهم، فقتل منهم من قتل وهرب الباقون، ثمّ أنزلوه من النخلة فدفنوه، ثمّ أجلسوا على قبره من يحفظه (16).

جيش الخلافة يحرق الكعبة :

قال المسعودي: فسار الحصين حتّى أتى مكة وأحاط بها، وعاذ ابن الزبير بالبيت الحرام، ونصب الحصين في من معه من أهل الشام المجانيق والعرّادات على البيت، ورمي مع الاحجار بالنار والنفط ومشّاقات الكتّان وغير ذلك من المحروقات فانهدمت الكعبة واحترقت البنيّة.

ووقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المنجنيق أحد عشر رجلاً، فكان ذلك يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الاول وقبل وفاة يزيد بأحد عشر يوماً، واشتدّ الامر على أهل مكة وابن الزبير (17).

وقال اليعقوبي: رمى حصين بن نمير بالنيران حتّى أحرق الكعبة، وكان عبيد الله بن عمير الليثي قاصّ ابن الزبير إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة فنادى بأعلى صوته: يا أهل الشام! هذا حرم الله الذي كان مأمننا في الجاهلية، يأمن فيه الطير والصيد، فاتّقوا الله يا أهل الشام، فيصيح الشاميّون: الطاعة الطاعة، الكرّ الكرّ، الرواح قبل المساء، فلم يزل على ذلك حتّى احترقت الكعبة. فقال أصحاب ابن الزبير: نطفىء النار فمنعهم وأراد أن يغضب الناس للكعبة. فقال بعض أهل الشام :إن الحرمة والطاعة اجتمعتا فغلبت الطاعة الحرمة (18)!

وفي تاريخ الخميس وتاريخ الخلفاء للسيوطي: واحترقت من شرارة نيرانهم استار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدى الله اسماعيل وكان معلّقا في الكعبة (19)!

وقال الطبري وغيره: أقاموا عليه يقاتلونه بقيّة المحرّم وصفر كلّه، حتّى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الاوّل يوم السبت (سنة 64 هـ) قذفوا البيت بالمجانيق، وحرّقوه بالنار... قالوا: واستمرّ الحصار إلى مستهلّ ربيع الاخر حين جاءهم نعي يزيد وأنّه قد مات لاربع عشرة ليلة خلت من ربيع الاوّل (20).

وفي تاريخ الطبري وغيره: بينا حصين بن نمير يقاتل ابن الزبير إذ جاء موت يزيد، فصاح بهم ابن الزبير وقال: انّ طاغيتكم قد هلك ; فمن شاء منكم أن يدخل في ما دخل فيه الناس فليفعل، فمن كره فليلحق بشامه، فغدوا عليه يقاتلونه.

فقال ابن الزبير للحصين بن نمير: أُدنُ منيّ أحدّثك. فدنا منه فحدّثه فجعل فرس أحدهما يجفل، (الجفل: الروث) فجاء حمام الحرم يلتقط من الجفل فكفّ الحصين فرسه عنهّن.

فقال له ابن الزبير: ما لك؟

قال: أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم.

فقال له ابن الزبير: أتحرّج من هذا وتريد أن تقتل المسلمين؟!

فقال: لا أقاتلك ; فاذن لنا نطف بالبيت وننصرف عنك. ففعل،

قالوا: فأقبل الحصين بمن معه نحوالمدينة.

قالوا: واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام، فذلّوا حتّى كان لا ينفرد منهم رجل إلاّ أخذ بلجام دابّته ثمّ نكس عنها! فكانوا يجتمعون في معسكرهم فلا يفترقون، وقالت لهم بنوأميّة: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام ففعلوا، فمضى ذلك الجيش حتى دخل الشام (21).

______________________________________

(1) قال ابن حجر في لسان الميزان: (أحمد بن زهير بن حرب بن شداد النسائي الأصل البغدادي أبوبكر بن أبي خيثمة الحافظ الكبير بن الحافظ) ولد سنة خمس ومائتين، سمع أباه وأبا نعيم وعفان ومسلم بن إبراهيم وأبا سلمة التبوذكي في عدد كثير وصنف التاريخ فجرده، روى عنه أبوالقاسم البغوي وأبومحمد بن صاعد ومحمد بن مخلد وأبوبكر بن كامل وإسماعيل الصفار وأبوزياد القطان وقاسم بن أصبغ وآخرون، قال الخطيب :كان ثقة عالما متقنا حافظا بصيرا بأيام الناس وأئمة الأدب، أخذ علم الحديث عن أبيه ويحيى بن معين فأكثر عنه وعن أحمد بن حنبل وغيرهم، وأخذ علم النسب عن مصعب الزبيري، وأيام الناس عن أبي الحسن المدائني، والأدب عن محمد بن سلام الجمحي، قال الخطيب :ولا أعرف اغزر فوائد من تاريخه، وكان لا يحدث به إلا كاملا، وقد أجاز روايته لجمع كبير، وقال الفرغاني :مات في آخر سنة 98 بعد مائتين، وكانت له معرفة بأيام الناس وأخبارهم، وله مذهب، كان الناس ينسبونه إلى القول بالقدر وكان مختصا بعلي بن عيسى، انتهى كلامه. وأرخ غيره وفاته في جمادى الأولى.

(2) قال ابن حجر في التهذيب: زهير بن حرب بن شداد الحرشي أبوخيثمة النسائي (خ م د س ق البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة)، نزيل بغداد، مولى بني الحريش بن كعب، وكان اسم جده اشتال فعرب شدادا، روى عنه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجة، وروى له النسائي بواسطة أحمد بن علي بن سعيد المروزي وابنه أبوبكر بن أبي خيثمة وأبو زرعة وأبو حاتم وبقي بن مخلد وإبراهيم الحربي وموسى بن هارون وابن أبي الدنيا ويعقوب بن شيبة وأبو يعلى الموصلي وجماعة، قال معاوية بن صالح عن بن معين :ثقة، وقال علي بن الجنيد عن بن معين :يكفي قبيلة، وقال أبوحاتم صدوق، وقال الآجري :قلت لأبي داود :كان أبوخيثمة حجة في الرجال؟قال :ما كان أحسن علمه، وقال النسائي :ثقة مأمون، وقال الحسين بن فهم :ثقة ثبت، وقال أبوبكر الخطيب :كان ثقة ثبتا حافظا متقنا، قال محمد بن عبد الله الحضرمي وغيره :مات سنة 234، وقال أبوالقاسم البغوي :كتبت عنه، وقال بن قانع :كان ثقة ثبتا، وقال صاحب الزهرة :روى عنه مسلم ألف حديث ومائتي حديث وإحدى وثمانين حديثا، وقال بن أبي حاتم في الجرح والتعديل :سئل أبي عنه؟فقال :ثقة صدوق، وقال بن وضاح :ثقة من الثقات لقيته ببغداد، وقال بن حبان في الثقات :كان متقنا ضابطا من أقران أحمد ويحيى بن معين.

(3) قال ابن حجر في تقريب التهذيب: خليفة بن خياط العصفري (بضم العين المهملة وسكون الصاد المهملة وضم الفاء) أبوعمر البصري، لقبه شباب (بفتح المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة)، صدوق ربما أخطأ، وكان أخباريا علامة من العاشرة، مات سنة أربعين ومأتين، روى له البخاري.

(4) قال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/336): وهب بن جرير بن حازم المحدث الحافظ أبوالعباس الأزدي. مولاهم البصري، أحد الأثبات، وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب :روى له الستة، روى عنه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وأبوخيثمة وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وآخرون، وقال النسائي :ليس به بأس، وذكره بن حبان في الثقات، وقال العجلي :بصري ثقة كان عفان يتكلم فيه وقال بن سعد مات سنة ست ومائتين قلت وقال كان ثقة. وقال في التقريب: وهب بن جرير بن حازم بن زيد أبوعبد الله الأزدي البصري ثقة من التاسعة، مات سنة ست ومائتين، روى له الستة.

(5) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب :جويرية بن أسماء بن عبيد بن مخارق، ويقال: مخراق الضبعي أبومخارق ويقال أبوأسماء البصري) م د س ق البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة) روى عن أبيه ونافع والزهري وبديح مولى عبد الله بن جعفر ومالك بن أنس وهومن أقرانه وغيرهم، وعنه حبان بن هلال وحجاج بن منهال وابن أخته سعيد بن عامر الضبعي وابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء وأبوعبد الرحمن المقري وأبوسلمة ويحيى القطان ويزيد بن هارون ومسدد وأبو الوليد وغيرهم، قال بن معين :ليس به بأس، وقال أحمد ثقة ليس به بأس، وقال أبوحاتم :صالح، قال ابن حجر :أرخ البخاري وغيره وفاته سنة 173، وكذلك بن حبان في الثقات، وقال بن سعد :كان صاحب علم كثير، وذكره بن المديني في الطبقة السابعة من أصحاب نافع. وقال ابن حبان في مشاهير الامصار 1/159: جويرية بن أسماء بن عبيد من متقني البصريين، كنيته أبومخراق، مات سنة ثلاث وسبعين ومائة، وكان متقنا.

(6) كان ذلك بعد قتل الحسين (عليه السلام)، حيث عزل يزيد الوليد بن عتبة، وعين بدله عثمان بن محمد بن ابي سفيان.

(7) تاريخ الطبري 5/495، تاريخ خليفة بن خياط /237.

(8) طبقات ابن سعد 5/65

(9) تاريخ الطبري (ج: 5 ص: 490)سنة 63.

(10) في تهذيب التهذيب: هونوفل بن مساحق بن عبد الله الأكبر بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي العامري أبوسعد، ويقال :أبومساحق المدني القاضي، روى عن أبيه وعمر وسعيد بن زيد وعثمان بن حنيف وأم سلمة، وعنه ابنه عبد الملك وسالم أبوالنضر وعمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين وصالح بن كيسان ومنذر بن الجهم، ذكره بن سعد في الطبقة الثانية من المدنيين وقال ولي القضاء بالمدينة، وقال النسائي :ثقة وذكره بن حبان في الثقات وقال أنه مات في إمرة عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين، وفيه نظر لأن الزبير بن بكار حكى أن الوليد بن عبد الملك قدم المدينة وهوخليفة، فاجلس نوفلا معه على السرير، قال :وحدثني عمي مصعب قال كان نوفل من أشراف قريش وكانت له ناحية من الوليد، وكان الوليد يطير الحمام، فأدخل نوفلا عليه وقال له :خصصتك بهذا المدخل، فقال :بل خسستني، إنما هذه عروة، فغضب عليه وسيره إلى المدينة وكان يلي المساعي ولا يرفع إلى الأمراء منها شيئا يقسمها ويطعمها، قال :وقد ذكر البخاري وأبوحاتم الرازي أن نوفلا هذا مات في أول ولاية عبد الملك وهذا موافق لما قال بن حبان، (لأن بن الزبير قتل في أواخر سنة ثلاث وسبعين واجتمع الناس إذ ذاك على عبد الملك)ولعل الذي اتفق لنوفل مع الوليد كان في حياة عبد الملك، (ويكون قول الزبير في خلافته وهما) وزعم الواقدي أن نوفلا هذا كان على شرطة مسلم بن عقبة المري في وقعة الحرة وأنه قتل معقل بن سنان الأشجعي صبرا بأمر مسلم والله تعالى أعلم. اقول: ونوفل هذا والد عبد الملك احد رواة ابي مخنف الأزدي.

(11) تاريخ الطبري ج: 5 ص: 494 سنة 63.

(12) تاريخ الطبري ج: 5 ص: 493 سنة 63.

(13) تاريخ الطبري ج: 5 ص: 485 سنة 63.

(14) أقول: لعلها محرف حميمة، اوصميمة أي صداقة قوية وشديدة، وسر هذه الصداقة يوضحه قول الراوي (وكان مروان شاكرا لعلي بن الحسين(عليه السلام)) إذ لم يجد مروان لعائلته مأمنا في قضية الحرة ولم يقبلها حتى ابن عمر وقبلها الامام السجاد (عليه السلام) وقد استغل الامام السجاد (عليه السلام) هذه العلاقة فيما بعد لينتزع بعض الروايات المهمة من مروان من قبيل ما رواه البخاري عن علي بن الحسين (عليه السلام) عن مروان قال :اختلف علي (عليه السلام)، وعثمان في متعة الحج... وكذلك قوله ما رواه الماوردي بسنده عن جعفر بن محمد عن ابيه عن جده علي بن الحسين(عليهم السلام) قال :دخل علي مروان، فقال لي :ما رأيت اكرم غلبة من ابيك، ما كان الا ان ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه، الا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح) كتاب قتال اهل البغي من كتاب الحاوي الكبير للماوردي ص 111.

(15) ‏ في تاريخ الاسلام 5/28.

(16)  فتوح ابن أعثم 5/301.

(17)  مروج الذهب 3/71 ـ 72.

(18)  تاريخ اليعقوبي 2/251 ـ 252.

(19)  تاريخ الخميس 2/303، تاريخ السيوطي ص 9.

(20)  تاريخ الطبري 7/14 ـ 15، وابن الاثير 4/49، وابن كثير 8/225. قال الطبري: حدثني عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن يحيى عن هشام بن الوليد المخزومي أن الزهري كتب لجده (أسنان الخلفاء)فكان فيما كتب من ذلك: ومات يزيد بن معاوية وهوابن تسع وثلاثين وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم ويقال: ثمانية أشهر.

(21)  تاريخ الطبري 7/16 ـ 17.

صفحة مكتب العلامة المحقق السيد سامي البدري